quot;عقوبة الزنى ليست من الإسلام بل من عقائد الآخرينquot; (4)
الترابي: أدعو إلى إطلاق الإجتهاد للناس
إيلاف:
في الحلقة الرابعة من quot;مكاشفاتquot; المفكر الإسلامي والسياسي السوداني حسن الترابي،التي أدلى بها للكاتب الصحافي عبد العزيز محمد قاسم، المشرف على القسم الإسلامي في صحيفة quot;عكاظquot; السعودية، والذي خص بها quot;إيلافquot;، يعرض الترابي رؤيته إلى تطوير الفقه، ومحاولته في إطلاق الإجتهاد من عقاله، وقال إن الاجتهاد اضمحل ومات في الأمة. وشن هجومًا شديدًا على فقهاء العالم الإسلامي ورأى أنهم السبب في ظهور نماذج من أمثال محمد شحرور وجمال البنا وفتواهم، واعتبر أن عقوبة الزنا المتمثلة في الرجم والمطبقة في بعض بلاد الإسلام هي من نتاج احتكاك المسلمين بالكتابيين وانتقلت إلينا عن طريق عقائد أخرى غير الإسلام:
سأبدأ الحلقة معك ياشيخ حسن بسؤالك عن ثنائية السياسي والمفكر، وأنت المفكر الذي تتعاطى العمل السياسي، ألم يؤثر استغراقك في السياسة على الجانب الفكري ..بمعني غلب السياسي على الفكري لديك؟
- نحن قلنا إن ديننا هذا لا يفرق بين السياسي والفكري والعقدي والمعاشي فإذا حاولت أن تتخصص في الدين ولكن لا تخدم قضايا المجتمع وتصلح ما أفسد الناس من دينهم وأنت بعيد عن السياسة والاقتصاد فكأنك طبيب أسنان أمام مريض مصاب بجميع الأمراض لا تستطيع أن تسع علله وتفعل له شيئاً إلا أن تأتي بمجموعة من ذوي التخصصات، ونحن مجتمعاتنا معلولة عللاً واسعة.
* أنت لم تجبني..أسألك تحديدا: هل أثر هذا الاستغراق في القضايا السياسية على نتاجك الفكري؟
- إنه يؤثر فيك خيراً وأنت سياسي، أن تقيم الصلاة وتفهمها أكثر مما يفهمها الذين بمارسونوها عادةً وحسب: وإنما أقصد فهم الكيف والتزكّي بكلّ صورها وأذكارها، فالإمامة تعلّمهم كيف تقديم الإمام والإمارة في الحياة السياسية، والصف لا يعني الصورة وحسب (الكتف مع الكتف والقدم مع القدم) دون تزكية لروح الوحدة الوثيقة في الحياة العامة، وكذلك من لا يفهم الحج ومعانية يضيّع آثاره في الدين والاقتصاد والسياسة، والآن أغلب الناس يذهبون ويحجّون لا يدركون معنى الرّمي للجمرات معاً والطواف والسعي بين الصفا والمروة، كلنا يعلم شعائر الصلاة والذكر وقراءة القرآن ولا نخرج منها بأثر تقتضيه في السياسة إذا أحسنا العبادة.
* عجبا يا شيخ حسن ، وهل تطالب كل العلماء أن ينهضوا ويمارسوا العمل السياسي كي يصلوا إلى هذه القناعة التي وصلت إليها؟
- نعم لا بد أن ينفتحوا نحن الآن مصابون بالتخلف الحضاري تخلفاً شاملاً في كل حال الدين. وليتنا والأمة معلولة أن ننهض كلنا معاً، فالسياسة والاقتصاد والفن إنما يُخاطب أهلها كما تُخاطب حلقات الذاكرين، ندير حواراً بين الفن والدين والسياسة وكذلك الرياضة فضلاً عن المعاش لا يُعتزل ويزدهد ويُخلّى من أصحاب السبح الطويلة والمصلّين والحجاج. وينبغي ألا ننهض بجزء من الحياة ديناً ومن المجتمع شريحة ليهوي باقي المجتمع إلى الأرض في دينه.
* دعني أستوقفك هنا يا شيخ حسن، وأنت عندما تستشهد بأقوال المعارضين من العلماء ..تنطقها باللهجة النجدية، ما القصة تحديداً.. وما المغزى النفسي لذلك؟
- يتكلّم لهجة واحدة كل العلماء المنغلقون الذين لا يعرفون مساقات الحياة وأوجه الابتلاء الأخرى غير ما يعكفون عليه من أمور اعتقاد وشعائر ولا يذكرون هدى الدين فيها إلا حدوداً لها مصطلحاتها التي لا تعرف النسبية في وقع التكاليف وكسب التديّن. فتوحيد الحياة كلها عبادة، وتوحيد مدى الكسب في الحياة بكل درجة لا يقدّرونها. وهذا مثال للمصطلح المحصور واللغة المحدودة.
الإسلام بذائقة العصر
* سأترك للمتداخلين التعليق على هذه الجزئية، وانتق معك يا شيخ حسن إلى محور آخر، فمن خلال ما قرأت لك من حوارات وكتب لكأني أتلمس أن المرتكز الرئيسي الذي يقوم عليه مشروعك الفكري هو تقديم الإسلام بما يتناسب وذوق العصر، أي تجديد الدين من خلال مواءمته مع ذائقة العصر..كيف تعلق على ذلك؟
- تتقلّب مع مرّ الزمان الابتلاءات بالطبع، وتنزيل قيم الدين وأحكامه عليها ليخلد مقتضاه غاية وحكمة مهما تتبدّل بعض الوسائل والصور هو تكليف للمسلمين كلما طرأ جديد وتجدّدت الظروف ndash; والدين في أصوله لا يتبدّل.. بل يتصوّب على كل جديد، وقد تتبدّل صور الأعمال وقيمها وأحكامها ثابتة..إننا أصابتنا الآن الاضطرابات لأننا ركنا عهوداً إلى الجمود ونجد الآن مسافة بين الواقع والمثال إذ رهننا القديم وتخلّفنا ديناً إزاء الجديد. لكني لا أدعو إلى التجديد دفعة واحدة ليبدو كأنه ثورة ابتداع لأهل الدين لاسيما للمرهونين للقديم. إن الفكر الإسلامي والعمل الإسلامي أخذ يحيا ويتجدّد، ولكن ينبغي أن نستدرك الفوات ونصل واقع الحياة أبداً مع أصول الدين حتى لا يكون ديننا مسلمين شهادةً وبينه وبين الواقع مساحة تمضي مضطردة السعة.
* لأسايرك يا شيخ حسن حيال هذا المنهج في عصرنة الدين، ولنضع تحت المجهر ما يسمى في التعبير الحديثي بآثار المبدأ وما يسمى في أصول الفقه لوازم القاعدة.. الذوق العام للعصر لا يتقبل ما يفعله المسلمون في مناسك الحج مثلاُ من تقبيل الحجر الأسود ورمي الجمرات ويعتبرون ذلك وثنية وقال ذلك صراحة بعض رصفائك من المفكرين- دونك حسن حنفي - فليزم على هذا المبدأ إلغاء هذه المشاعر لأنها تشوّه الإسلام ولا تتماشى مع ذائقة العصر.. فكيف تعلق؟

- حتى شعائر الدين في الغرب أصبح الناس لا يبالون بها كثيراً لأنها أصبحت محصورة في هوامش من الحياة يمارسها بين الناس قلة، هذا لا يعني أن نُلغي المشاعر في الإسلام، لكنها أصبحت صورية فقط لأننا لا نعلمها لتُمارس بوعي وتترك فينا أثر تزكية يؤثر على سائر الحياة، فإذا قام أحد وقال ماذا يعني الصفا والمروة؟ وماذا يعني أن نرفع أيدينا للتكبير، وماذا يعني أن نرمي عموداً بحجر؟ لا يجد جواباً يشفيه. إذا قرأنا القرآن نكن قُرّاء، وإذا أدينا الحج نكون حجاجاً، كأننا عدنا إلى مثال قريش المشركة الذين يُقدّسون المسجد الحرام ويرفعون الصوت مكاءً وتصدية. كانوا يُفاخرون النبي بأنهم سُقاة الحجاج وعُمّار المسجد الحرام فضلاً على ما يدعو الله محمد، فخاطبهم الله : (أجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ)، وفي القرآن التوحيد والتقوى مقصد الحج وشعائره توحيد لسنّة الدين الحنيفي عبر الزمان، يُذكّرنا بالإمام إبراهيم الذي خرج وبنى المسجد وسنّ شعائره وحُفظت بعده سنن العبادة وآثارها، لكن الناس أحياناً ينشغلون بالظواهر وينسون المعاني والأصول، ولو كنّا نتعلّم من فقهائنا من أول وهلة مقتضى هذه المعاني للشعائر لما تجرّأ أحد أن يتكلّم فيها، وحتّى الوضوء الناس لا يدرون ماذا يعني أن تتمضمض وتغسل وجهك وتغسل يديك وتمسح رأسك، فالإنسان يخرج من الحمام نظيفاً لكنه لا يبلغ معاني التطهّر من الذنوب المفصلة في الوضوء الحادثة عبر كلامه ونظره وسمعه وحركته، ولا يتهيّأ حقاً لمناجاة الله في الصلاة وهذا يؤدي صورها ولا تُلقى فيه زكاة متباركة كما ينبغي.
* يا شيخ حسن دعنا من القدماء، ودعنا ما قالوه وما فعلوه، أنا أتكلم في منهجك أنت الآن..ما هو تعليقك على سؤالي؟
- ما سبق من المعاني كتبته في كتاب.. ماذا تعني الشعائر التعبّدية للإنسان أي أثر تفعله في الحياة العامة ليتعلّم الإنسان ويتذكّر ويتزكّى ولا يخرُج من المسجد وحسب ويلفظ أذكار الله وحسب ويؤدي الحج وحسب، بل ينبغي أن يخرج بروح جديدة وإيمان وتقوى وتوكّل وتذكّر واستقامة أتمّ يخرج بها إلى المجتمع والحياة.
* إذن لعلي أفهم من كلامك أن ثمة حدا فاصلا تقف فيه بموضوع عصرنة الإسلام والدين، وأن الأمر عندك لا يصل ويتطاول إلى أمثال وثنية الحج بما يقول به بعض رصفائك من الذين ينادون بعصرنة الدين ..أنت ترفض هذا؟
- إذا نظرت إلى الحضارات عموماً قد تجد فيها شعائريات دينية فرغت من معناها الأول، في الهند مثلاً تُقدّس البقرة والهند الآن ناهضة مروقاً من الدين الهندوسي إلا صور الشعائر ، كذلك تقديس البابا والكنائس والتمسّح بالصليب، شعائريات أخذت تبور دينياً وتبقى إجرائيات عُرفية .. فالإنسان له علاقة بالغيب ولا يستطيع أن يصل بحسّه إلى الله لكنه يغسل الجسد ليتطهّر له بحواسه، وإذا مات الإنسان لا نجد إلا الجسد الميت، أما الروح فتوفاها الله إلى برزخ أزلي ونُريد أن يغفر للروح هنالك. وعندما نكفّن الجسد نقصد أن يلقى الله الرّوح ببركته وبرحمته، ونزفّه إلى المقابر ليزفّ يوم القيامة إلى الجنّة. مهم تتكثّف علينا في هذا العصر المحسوسات ينبغي ألاّ تفتنّا ونُجري الشعائر من غير مقصد غيبي ونتّخذها مراسم عرفية شكلية.وتقدّم العصور يحملنا إلى تجاوز ظاهر النصوص أحياناً لنحفظ جوهر معناها ووقعها في الوجود. فالآية مثلاً (وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ)، والقوة قديماً يقولون إنها الرّمي، رمي السهام، ولكن الرمي يتطوّر حسب الوسع والاستطاعة، فلا نعدّ جيوشاً ضد أمريكا إذا عدت علينا لنرميها بالسهام ونعدّ للحملة عليها رباط الخيل.. لا نُلقي عليها سهماً اليوم، بل طلقة أو صاروخاً، والله يُحاسب النفس قدر وسعها، فأنت الآن لا تغزوها بالخيل بل تستطيع أن ترسل عليها طائرة نفّاثة أو دبّابة أو غوّاصة، فوسعنا أكثر والتكليف علينا أكبر مما كان في زمن المخاطبة الأولى بالقرآن.
* يا شيخ حسن بهذا الشرح الذي سردته أتصور أنه لا أحد من الفقهاء أو العلماء يخالفك فيه ولكن حتى المتعاطفون معك من الشباب والمفكرين الإسلاميين يخافون أن تتجاوز في طرحك عصرنة الدين إلى إلغاء بعض الشعائر..دعني أضرب لك مثالا في تفصيل ساعات العمل على حساب أوقات الصلوات، وأن صيام رمضان يؤثر على إنتاجية العامل، أنا أريد أن أعرف إلى أي حد يمكن أن تقف في رؤيتك لعصرنة الدين؟
- إنما أقول اليوم للناس أن علينا خمس صلوات في اليوم تتخلل كل سيرة حياتنا، في الصلاة نحن لا نتكلّم إلا ذكراً لله وحركاتنا كلها تعابير خضوع وعبادة، ولكننا إن أدينا الصلاة ظاهراً وحسب، فإننا إذا قضيناها نسينا الغيب تماماً وانشغلنا بما نحن فيه من الحياة والحاضر، وكثير من العلماء يلقنوننا الأذكار كأنهم نسوا الغيب، وكأن المسجد لا يعني إيماناً بالغيب. ويؤسفني أن أقول إن كثيراً من الأذكار لا نُدرك معناها. وإنما أصبح الناس يستمسكون بظواهرها وبكلمات تُحفظ وتُقال فقط. كُنا حجاجاً وسألت صحبي العرب ماذا تعني rsquo;لبيكlsquo; فقالوا هذه كلمة من الأذكار التي يتعلّمونها ولا يفهمون لها معنى، هكذا يتكلّم الإنسان مع الله بما لا يفهم ndash; (أي بما لا يفهم الإنسان نفسه).
* لم تجبني بشكل صريح، ولعلي ألتف عليك بسؤال من جانب آخر..هناك يا شيخ حسن من يثير مسألة الحقيقة العلمية وأنت تحدثت في هذا وأن العقل العلمي لا يتقبل حتمية ومرجعية ونصوص صدرت قبل 15 قرناً فهل يقبل بكائنات مستترة اسمها الجن إذا صادمت الحقيقة العلمية ..العلم الحديث لا يؤمن بالجن فما موقف مشروعك من هذا كله؟
- أولئك فقط اليوم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.. فالعلم الحديث انقطع عن الدين لذلك، والذي يدّعي علم الفلك قد يقف مقصوراً ومنغلقاً على المشهود، إذا رأى النجوم لا يتأمّل من الذي خلقها ونظمها فلا يتجاوب مع وقع الرؤية : ربنا ما خلقت هذا باطلاً ndash; إلى آخر الدعاء، بل يقف عند النجوم وعلومها وجاذبيتها وكيف يصلها . وكذلك الطبيب قد يزداد علماً ولا يزداد إيماناً بالغيب إذ لم ينفذ فكره إليه فكل الجسد البشري قد يمتد أمامه يبصر وقائعه وويتأمّل كيف تعمل كلّ هذه الأجهزة، إنما ذلك هو الابتلاء بالظاهر هل يفتنه أم ينفذ به إلى الغيب ويراه من آيات الله. فمنذ أن حُجب آدم عن الغيب أصبح المشهود ابتلاءً، قد يكفر به المرء إذ تغشى الغيب عنده غفلة، وقد يدل المشهود على حقائق الغيب آية، ذلك كله وقفاً وقفاً على نظر الكافر القاصر وبصيرة المؤمن النافذة.
* ياشيخ حسن اسمح لي بمقاطعتك، وأرجو الإجابة الصريحة: ماذا تقول إذا جاءك العالم الغربي وقال لك العلم الحديث أثبت أنه لا توجد كائنات مستترة اسمها الجن وهذه من الخرافات فما موقفك؟.
- أقول له العلم بوسائل الإدراك البشري القديم والحديث من عقل الإنسان وعقل الإنسان محصور، فالذي خلق الإنسان وجعل له متاع الحياة وسخّر له الكون ونظمه هو بوجوده غيبٌ عن الإنسان، وأصبح يبتلي الإنسان هل ينفذ إليه أم يشغله الحاضر من متاع الكون والدنيا وفتنة المشهودات.. الغربيون أنفسهم إذا تكلّمت مع عالم في معمله وما يتلمسه ويحسّه فهو يقر لك أنه لا بدّ أن يكون هنالك إله لهذا الكون، ولكن لأنه لا يجده يهمله ويغفل عنه بعداً. لكن الدين ما يزال في الغرب تبدو ظواهره ولو خارج العلوم، ففي أمريكا الآن الخرافات ملأت الحياة وآلاف الناس قد يقتلون أنفسهم بالسمّ انفعالاً بإيحاءات من يتزعّم فيهم باسمِ الروح والدّين. ونحن المسلمين ندّعي الإيمان بالغيب بالله والآخرة، لكن المرء منا قد لا يفعل شيئاً إلا لما يعود إليه عاجلاً وحاضراً دون الآخرة. إذا قلت للمرء أخرج في سبيل الدعوة إلى يوم القيامة فهذا شئ لا يقبله، والحقيقة أنهم لا يعملون إلا رجاء الرواتب آخر الشهر أو حصاد الزرع أو الصنع نهاية الموسم، والحقيقة أن في الحركة السلفية كانوا ينصرون شريعة الله ، وأتذكّر أن الحجاج في وقت من الأوقات كانوا لا يذهبون في سبيل تذكّر توحيد الله حنيفية إبراهيم، كانوا يذهبون مباشرةً إلى المدينة المنورة ويظنون أن مكّة ما هي إلا محطّة طريق لأن الرسول عُرف محسوساً حياً ويطلبون منه الحاجات، وأحياناً لا يبلغون الرسول، فيلتفـّـون حول الأولياء الصالحين الأقرب إليهم مكاناً ويقولون إن الولي رازق، فيسألونه ولداً أو رزقاً مالياً لأنهم بُغاة مصالح دنيوية.

* بالأمانة يا شيخ حسن، لأول مرة أسمعك تثني على السلفية.
- طبعاً ، السلفية عالجت كثيراً من أمور البدع والشركيات واجتهدت في ذلك. لكن عندما قضوا عليها بدا أنهم لا يعرفون هدى الإسلام في الاقتصاد العام ولا يدرون كيف ينبغي أن تُدار السياسة والحكم، فهم يعرفون نصوص القرآن والحديث ولكن لا يفقهون مقتضاها إلا فيما عكفوا عليه من رسالة الحركة.
وفي الغرب عموماً عندما جاءت المادية مع الأرستقراطية كل المجتمع انشغل بالدنيا فقط وبأهواء النفس وإن كانوا يسمّون أنفسهم مسيحيين إذا ذكرت لهم أنّك مسلم من باب المعارضة والاعتزاز. فأغلبهم لا يؤمنون أصلاً بالغيب ولا بإله، وبعضهم يقول عيسى خرافة. ولكن كذلك غزتنا المادية.
شحرور وجمال البنا
* يا شيخ حسن حتى بعض المتوافقين القلة معك من المفكرين الإسلاميين يخشون أن يمتد مشروعك التجديدي إلى حد التفلت.. فها نحن نرى فتاوى جمال البنا الذي يسلك ذات الطريق ويتكئ على ما تتكئ عليه أنت من ضرورة عصرنة الدين، يفتي الرجل بجواز تقبيل الشباب بعضهم البعض، بل ذهب إلى أكثر من ذلك محمد شحرور قبل أسابيع وهو يبيح العلاقة الجنسية بين أي رجل وامرأة بشرطين ألا تكون متزوجة وأن تتم العملية في خلوة .. أية كارثة تجديدية هذه، أريد معرفة موقفك أنت؟
- أنت يا أخ عبد العزيز تُريد سدّ الذرائع؟! خوفاً من أن يحدث هذا تُريد أن تسدّ الباب أمام التجديد.. أقول لك أن أي طريق يسلكه المرء فيه ابتلاء، حتى انتصار المسلمين قد تعقبه فتنة، إذ عليهم ألا يسكرهم النصر فينسون عون الله بعض الشئ، فعندما انتصر المسلمون في بدر وهم قلّّة فرحوا فجاءتهم أحد حتى يعتدلوا إذا خسروها لأخطاء فعلوها. وانظر إلى تاريخ القدماء من الفقهاء الذين حبسوا علينا الأبواب خوف الفتنة وخوفاً من الذرائع فأذّلونا حتى ركب على رأسنا الكفّار في كل الأرض وسلبوا أموالنا وسادوا فينا وأصبحنا نقلدهم كالقردة، وقتلوا فينا ما قتلوا وأصبحنا أمة ذليلة نقلّد الآخرين.
* هل تُحيل هزيمة الأمة إلى العلماء.. والعلماء فقط؟
- العلماء هم نبت للمجتمع الذي اتخذهم قادة له.. فكثير من الناس يقول الحكومة فاسدة والحق أن ذلك كذلك لأن التربة الاجتماعية هي الفاسدة التي أنتجت هؤلاء. فالمدينة المنورة أخرجت مالك بن أنس. والعالِم المتنطع المتبلّد تحفظاً يخرجه المجتمع الجامد الساكن لحاضر المسلمين.

* عموما هذا الموقف الحاد لك من العلماء قديم، فقد اتهمت في كتبك الفقهاء والعلماء ببعدهم عن الحياة العامة ، ونصصت ذلك في كتابك تجديد الفكر الإسلامي ص75 : ( إنَّ الفقهاء ما كانوا يُعالجون كثيراً من قضايا الحياة العامة ، إنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة ، ولذلك كانت الحياة العامة تدور بعيداً عنهم ولا يأتيهم إلاَّ المستفتون من أصحاب الشأن الخاص في الحياة , يأتونهم أفذاذاً بقضايا فردية في أغلب الأمر , فالنمط الأشهر في فقه الفقهاء والمجتهدين كان فقه فتاوى فرعية , وقليلاً ما كانوا يكتبون الكتب المنهجية النظري أليس هذا تجنيا منك على الفقهاء والتاريخ حجة عليه، فانظر كتب الحسبة للشيزري ولابن الأخوة وغيرهم لترى العجب من تبيق الفقه على أحوال الناس في الأسواق وسائر شؤون الحياة .
- إنك تقوم مُحامياً لمن تُسمّي rsquo;العلماءlsquo;، ومتّهماً لي بالتجنّي وتُبالغ في المرافعة مثل بعض المُحامين ولذلك تذكر لي شيئاً من مكتوبات في rsquo;الحسبةlsquo;. والاقتصاد اليوم ما هو مقصور على معاملات عينية في الأسواق، والسياسة اليوم شأن يمتدّ وقعه في الحياة العامة. والحياة العامّة رياضات وفنون عامّة وفضائل ورذائل في المعاملات العامّة وسياسة خارجية. غالب ذلك خرج من الدين والسواد الأعظم يخوضون فيه بغير نيّات تديّن وبغير تحرٍّ عن هوادي الدين للأفعال. هذا أمر بيّن لاسيما لصحافي يعلم أنه حتى الصحافة وخلقها لا تتذكّر الدين إلا صفحة مجاملة لمن يُريد فتاوى أو كلمات دين، والإعلام العام كله كذلك إلا قليلاً. لعلّك لا تهمّك توبة الحياة العامة إلى الدين وقد أخذت تفارقه منذ مئات السنين عند المسلمين، وأصبحت القسمة بين الدين والسياسة والدولة قسمة ضيزى، وكلّ انحطاط المسلمين الحضاري من تقلّص التديّن في نفوسهم. لعلّك يُعجبك الحال وهمّك أن تُجادل وتُصارع كل حركة التجديد للتديّن والتوحيد للحياة في سبيل الله. وأزمة النهضة الدينية الإسلامية الحاضرة أنها تقتصر على إجاشة : العاطفة الصادقة تحيي الروح وتدفع الطاقة ولكن السياسات والبرامج والأخلاق للحياة العامة لا يتوافر هُداها ولذلك تقتصر الحركات على الجهاد والشعار لا البناء للمثال المتكامل للمجتمع المؤمن في سياق العالم.
* قبل أن نتيه ونتشعب، دعني أحسم المسألة معك يا شيخ حسن: إذن أنت ليس لديك إشكالية وتتقبل أمثال هذه الفتاوى التي يقول بها شحرور وجمال البنا.. أتقول أنك لا تتقبلها ..
- لا أتقبلها..
* إذن اسمح لي أن أقول بأنك من العلماء الذين يشهرون سد الذرائع في وجوهنا!!.
- لا تصنفني من هؤلاء يارجل فالمرء ما هو إما متفلّت أو منحطّ، إما جامد أو متبخّر.. يا أخي العزيز، الدين هذا قائم على أصل ابتلاء، فالغنى فتنة والاجتهاد فتنة ابتلاء بين عربدة الرأي المنطلق وتنطع التقليد والجمود المتحفظ.

ضوابط العصرنة
* العجيب يا شيخ حسن أنك تشيد في إجابتك بالإمام مالك وأن المدينة المنورة هي من أخرجت لنا هذا الإمام ولكن أشهر عالم أرسى أصل quot;سد الذرائعquot; هو الإمام مالك, بل لا يشتهر هذا الأصل إلا عنه, حتى أن ابن تيمية ومشائخنا المعاصرين يخالفون الإمام مالك في توسعه في سد الذرائع! فكيف يكون سد الذرائع هو سبب التخلف.. وفي نفس الوقت يكون أكثر عالم أخذ بسد الذرائع هو نموذج التقدم ...سأنتقل معك إلى سؤالك عن ضوابطك حيال تجديد الدين ؟

- لا.. أنا لا أحب أن أتحدث عن الضوابط ، فإذا كان المجتمع نفسه معتدلاً ينتج ضوابط ودوافع معتدلة بحركته أما إذا كان المجتمع جامداً تموت دوافعه وتصبح الضوابط حاكمة وكل شيء عنده التقوى والخوف من فتنة الحركة.. فالصوفية مثلاً كرهوا الحكم والملك لأنه شيطان والسوق فيه مسرح للشيطان وضياع التقوى فالصوفي يقول أخرج من هذا معتزلاً مجال فتنة إلى خلوتي. والفقيه نفسه إذا سألته ما هي الأحكام في الإسلام يقول لك الكتاب والسنة وإجماع المسلمين والاجتهاد أما حكام المسلمين فقد أخرجهم الفقهاء من أصول مشروعية الحكم ففصلوا الدين عن الدولة وهم فقهاء.. فأنا أدعو أن نطلق الاجتهاد للناس فإذا اشتد الاجتهاد وكثر المجتهدون تتجدد الضوابط ويمايزون بين المنلفت والقويم فإذا اشتدّ وانفرط الميزان بين المعتدل في الغالب وبين الجامد والمتحرك فالرأي العام هو الذي يشكل حركة الاجتهاد وينظمها مذاهب. هكذا تنشط بعد الجمود حركة التجديد والرأي بشدّة وتقتصد بعد كثافة الرأي التي تنذر بالفوضى.
وإنما يتجدد الدين بتجدد الابتلاءات، ففي مسيرة الأوطان مثلاً يتعاقب التعمير بعد التحرير، ولا بد أن نبني الحق بعد هدم الباطل، فكل بلد يريد أن يتحرر من الاستعمار يستغني أول الأمر برفع الشعارات الوطنية والهتافات بالعزّة وبعد أن يخرج الاستعمار قد يحتار ماذا يفعل. وهاك مثالان في أفغانستان وفي السودان لم نكن مستعدين بعد الاستقلال، ولم نعرف كيف ندير بلداً كاملاً.

* إن الصورة قد اتضحت نوعا ما ، وسيعرف القارئ بأنك لا تقف ومحمد شحرور وجمال البنا في صف واحد..
- أنا أذّكر وأذّكّر أنه ..ما أفرط هؤلاء الذين ذكرتهم إلا لأن الفقهاء أفرطوا في فرض الحوابس والضوابط، فإذا قيد الإنسان وكبل طويلاً ثم كسر القيد قد يندفع بشدة متحرراً حتى يسقط وهو لا يريد أن يسقط، يريد أن يعتدل ولكن من اندفع بتوازن فهو قد ينطلق مسافة ثم يثبت ويعتدل ويستقيم سيره.
حوار الأديان
* دعوت إلى تفاهم وحوار أبناء الملة الإبراهيمية وضرورة البحث في المشتركات في الأديان السماوية وكما تعلم الآن الملك عبدالله أطلق مبادرة (حوار الأديان والحضارات).. ومن خلال ما قرأت لك فيما كتبت وما علقت به من أفكار عرجت على هذه القضية منذ عقود، واليوم رابطة العالم الإسلامي تتبنى هذا الحوار وترى وجوبه ، أنت جوبهت بانتقاد حاد من كثير من الناس.. الآن هذه الدعوة تتجدد للحوار بين الأديان..كيف ترى المسألة ؟
- الدعوة لحوار الأديان دعوة قديمة، وأحياناً أهل الحركة الإسلامية الحديثة يريدون أن ينطووا على أنفسهم لتزكية الكيف حتى يبلغوا درجة عالية من الدين، والله أمرنا من أول يوم أن ننشر ونذكر (هو ذكر لك ولقومك) إلى (ما أرسلناك إلا كافة للناس).. فأنا أريد أن أتعامل مع الآخرين ولا أريدهم أن يسبقونا بالاتصال وليس لدي خيار أن انتظر حتى أزكّي نفسي تماماً وأضبط وأدرس ثم أسافر إليهم كالقديمين.. الآن الكل يتصل بنا والصراع يدور وغالبهم لا يؤمنون أصلاً بالغيب وأناس منهم فيهم بقايا من الإيمان بالغيب ولكن لدينا نحن تراث محفوظ كالقرآن لا كالمسيحيين واليهود وهناك أناس فيهم نزعة للغيب ولكن ليس لديهم بقية محفوظة من هداية ومن كتاب لشعوب آسيا فبعضهم أشد عداوة وبعض أقرب إلينا فأنا طرقت الباب وذهبت إلى بابا الفاتكان لأتحدث معه أن نقيم (جبهة الدين) لهداية العالم لأن الفراق اشتد بين بني الإنسان وفشت العصبية اللونية والطبقية في مستوى المعاش شمال العالم وجنوبه والقطريات والانغلاقات المتشاقة كثرت والفساد في المال العام كثر والجنس انفلت والأسرة كادت أن تنهار في العالم فتحمس جداً الرجل وكان فيه دين.
* كان ذلك بولس الثاني؟
- نعم، قبل الذي عقبه، وهذا الخلف قد تربى في ظل النازية وينزع بروح أخرى نحو الإسلام... وقد تحدثت أيضاً قديماً مع رأس الدولة الأنقليكانية البريطاني والآن خرج خليفة له والحمد لله يلطف في ذكر الإسلام يمكن أن يتحدث إلينا، ويمكن كما جرّبت أن نتحدث مع رجال دين كبار في أمريكا.
* المتابعون لك يرون أن كل الجهود التي قام بها الشيخ حسن الترابي وتوازياً مع الشيخ يوسف القرضاوي لم تؤد لأي نتيجة.. فكيف تمد يدك إليهم وهم لا يستجيبون لشيء؟
- يوسف القرضاوي حجبوه تماماً وسدوا عنه الطريق مهما يكن فقيهاً لا سياسياً، وحجبت كذلك أخيراً لاسيما لأني سياسي. أما كيف أحاول أن أمد يدي إليهم كما يقول البعض فلنتذكّر الآية: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) نحن دعاة نوجه ونبلغ الدعوة فقط ولا نريد أن نجزم بهداية الآخر (إنك لا تهدي من أحببت)، قد لا نهدي من أحببنا من الذين يلوننا في ديار المسلمين الذين هم في ضلال.
* هناك إشكاليتان في حوار الأديان ، أولاهما أن القوم هناك لا يعترفون بالإسلام كدين سماوي.
- كلا.. كلا.. حدثني كثير من رجال علماء دين في الغرب أنهم يتحدثون كثيراً إلى علماء مسلمين ولكن ألفوا التفاهم معهم عسيراً كأنهم يرسلون الأفكار بموجه لا يتلقاها الطرف الآخر، وفي ذلك حق أحياناً لقصور بعض العلماء المسلمين أن يحسنوا تقديم الإسلام وخطاب الآخر. أنا قرأت كتبهم ووجدت فيها روح دين، وأذكر أحدهم تحدثت إليه فقال مستغرباً من كلامي وحواري أنه وجد فيّ من يتحاور معه، وقال يا ليت المتدينون منكم يتكلمون معنا بهذه اللغة فنحن متدينوا العالم كافة المؤمنون بالغيب ورسالة الدين يمكن أن نصل إلى قاعدة نشترك فيها وإن اختلفنا على بعض الأشياء.. وقال إنه عندما يذهب إلى الأزهر كأنه يتكلم بلغة لا يفهمونها وهم يتكلمون بلغة لا يفهمها.. هكذا كثيراً ما نرسل إليهم أناساً لا يعرفون لغتهم لا يعرفون تاريخهم ولا يقرأون تاريخ المسيحية وماذا جرى لها. فالآخر إذا كنت لا تعرفه من العسير التفاهم ولإيصال الرأي إليه. من نوفده إليهم يتكلمون معهم بكلمات حسب ما تلقوها في ثقافتهم هم لا يبحثون عن كلمات ومفاهيم في قاموسهم الأوروبي. والمصيبة أيضاً أننا أرسلنا لهم من لا يعرف همومهم وثقاتهم الدينية وما هي فتنتهم التاريخية مع دينهم حتى نعلّمهم أن الإسلام ليس فيه ما يكرهه المسيحيون من المسيحية القديمة المحرفة وبُعدها عن الحياة العامة، عندئذ يمكن التخاطب معهم. لذلك نحن (حركة التجديد) عندنا امتياز فأنا عندما أتحدث إليهم أقول لهم نحن نعرف لغتكم وأنتم لا تعرفون لغتنا ونعرف تاريخكم وأنتم لا تعرفون تاريخنا والمسيحية مذكورة عندنا في كتابنا وأنتم تظنون أن محمداً مرتد خرج من دينكم فأنتم لا تستطيعوا أن تمدوا لنا يداً ولكن نحن نمد إليكم أيادي السماحة فيسكتون بهذه الحجة.
* أليس هذا تناقضاً في حديثك يا شيخ حسن نحن نمد لهم يدا لأننا نحن الأضعف بينما هم الأقوى لا يفعلون شيئاً في هذا الاتجاه؟
- أنت لم تقدم لهم مَن يتحدث مثلهم.. وحتى على نطاق وطننا لا يمكن أن نُقدم منا الشيخ المتخلف المنغلق لإنسان درس دراسات في كبرى جامعات العالم ويريد أن يهتم بهموم العالم.. فمثلاً أنا أقمت بنوكاً إسلامية كانت لها لجان من شرعيين يجلسون فقط يقولون هذا حرام وهذا لا يجوز لا يعرفون شيئاً عن المصارف وما هي وظيفتها ومن أين تأتي الأموال في النهاية ولا يدرون كيفاً ولا يحملون همّاً أن يفلح هذا المصرف إن لم يفلح ذاك. وأذكر أن كنا نجلس ندير بنكاً في بلد غير مسلم والمدير كان غير إسلامي لكنه مسلم ملّة وآباؤه مسلمين- ولكنه كان قد ذهب إلى أمريكا وتأمرك وتشرب الثقافة الغربية، فكان يسرّ إليّ كيف لزمه أن يرضي مفتي البنك ويبسط إليه حتى يُمرّر له كل ما يريد، والمفتي أصلاً ما كان يدري كيف تجوز وتمر عليه المسائل لأنه لا يفهم منها شيئاً وإنما يقول فقط لا بأس لا بأس إذا استرهب وإذا كره الغرفة التي يسكن فيها يغضب ويقول هذا حرام وهذا لا يجوز.
* لدينا الإشكالية الثانية في حوار الأديان أن القرآن الكريم تضمن تصويراً منحطاً لغير المسلمين بتشبيههم بالأنعام والدواب والكلاب والحمير (والَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ويَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ والنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) هل يتقبل أصحاب الديانات الأخرى هذا التصوير.. وأيضاً القرآن يتضمن أحكاما جنائية لا يتقبلها العقل الغربي ويعتبرها وحشية تاريخية ..من قطع الأيدي والأرجل وفقع العين وكسر السن. فمن خلال مشروعك الفكري الداعي لمواءمة الإسلام للعصر، هل نتمسك بالقرآن ونتصادم مع العقل المعاصر أم ماذا نفعل؟
- ليت الناس يتمسكون بالقرآن.. فمثلاً عقوبة الزاني في كثير من البلدان الآن ليست من القرآن، دخلت علينا وكثير مثيلاتها من عقائد وموروثات أخرى.. وبما أن العرب كانوا أميين فالذين أسلموا من الكتابيين هم الذين أدخلوا علينا ثقافاتهم وآثارهم ومنها أدخلوا علينا ماذا نفعل بالزاني والقرآن يحدثنا (والَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإن تَابَا وأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) وفي سورة النور يعين ويعدد عقوبة الجلد شهادة رباعية أو بقسم خماسي لمن يتهم زوجته. وكذلك يقرر القرآن عقوبة الجلد للذين ملكت أيمانهم نصف عقوبة المحصنات.. فهذا كله تركناه وأخذنا ما أتى به أولئك ومضى فينا مشهوراً عن تقليد لأقوال قصرت على أفعال الرسول قبل أن يهديه القرآن إذ كان مصدقاً لما بين يديه من كتاب سابق.
* هل اشتراك الكتابيين معنا يا شيخ حسن في بعض الأحكام يعني أنها مما أدخلوه على المسلمين..كيف يستقيم هذا الأمر!! وكيف نصرف قصص رجم النبي للزناة المحصنين (رجالاً ونساءً) وهي قصص متواترة رواها عن النبي عشرات الصحابة, ومن جهة أخرى ألم تنسخ بعض الآيات بهذا الخصوص؟
- لا لا كيف ينسخ نبي الله ورسوله ما أنزل الله. هذا قول منكر في بديهة من العقيدة ويتواتر في القرآن أن الرسول يبلّغ الوحي لا يبدّل من تلقاء نفسه. الذي حدث من الرسول صلى الله عليه وسلم حدث قبل نزول هذه الآيات.
* لم تجبني على سؤالي حيال شبهة أن الإسلام يتضمن أحكاما مخالفة لذائقة العصر بزعم الآخر، وربما لا يتقبلها الغربي الذي نروم محاورته؟
- يجب أن لا تخلط بين العقل والعصر.. كلمة العصر تعني مزاج الناس والرأي العام الحاضر .. الآن الجنس أصبح شيئاً آخر غير الأمس والأسرة أصبحت شيئاً مهملاً تماماً في كثير من المجتمعات الغربية.. هذه أشياء قد تتحول غداً والتاريخ أثبت لنا ذلك.. عندما جاء الإسلام تحررت المرأة مع القرآن ثم ارتد المسلمون في شأنها مرة أخرى وأصبحوا مثل الجاهلية تماماً أكره شيء عندهم البنات يظلمونهن في أشياء كثيرة حتى حقها في الميراث يحتالون عليه. ثم بعد أن يتجدد الدين يرجعون إلى القسطاس وهكذا.. فمثلاً في صدر الإسلام أعطوا المرأة حق التصويت في ولاية الخلافة بين عثمان وعلي ثم ارتدوا عليها جميعاً مرة أخرى أنها لا يمكن أن تصوت ولا تشارك في السياسة والحكم أما الآن وبضغوط غربية أعطوها حق التصويت في بعض البلدان.. وكذلك مسألة الرق حاول القرآن أن يمنعه درجة فدرجة، وجاءت الآية المدنية صارفة للرق (فَإمَّا مَنًا بَعْدُ وإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا) لكن لازم المسلمين الرق إذ غلبهم هوى التمتع بالعبيد والإماء ملك يمين.. والآن جاءهم الغرب وأرغمهم على ترك الرق فتأدبوا ولا أدري هل استسلموا الله أم يطيعون الغرب.. فأين علمائهم.. لماذا لم يجرؤ أحد منهم أن يتحدث بمثل هذا الكلام.. سقطوا وصمتوا تماماً.. فأنا لست مرهونا بعصر، إذا تغير الابتلاء عليّ وتغيرت الظرف فنفس القيم الدينية أُنفذها وقد تتغير صورتها ولكن نفس المعنى والمغزى يبقى إن شاء الله. إنه لا بد من نظام ولا بد من حكم معروف، لكننا إذا تكثّف فينا الانتظام مذاهب وطرقاً وأعرافاً جمدنا وتعصبنا، كل منا يتمسك بعصبيته الموروثة، كالأشعرية والسلفية والصوفية وغيرها.. وإنما القضية عندنا اليوم ضرورة انطلاق فإذا الانطلاقة زادت عن حدها تكون القضية قضية عندئذٍ انضباط ونظام، وأعدل شيء أن تكون متوازناً بين التحرر والانضباط، فإذا تأخرت أنت في الانطلاق لن تتجمد كما تشاء بل وستأتيك رياح التغيير تعصف بك من الخارج.. التغيير الثقافي والسياسي والاقتصادي قادم لازم وسيحكمك الآخرون ويحشون رأسك بما يريدون إن لم تبادر في حراك موصول مع تطورات الظروف والابتلاء وثبات على أصول قيم الدين وحِكمه الخالدة.
* ربما من خلال مناقشتنا تعرض إشكالية أمامنا وهي : هل رسالتنا الآن هي تطوير الوحي ليتناسب مع العصر أم تطوير العصر ليرتقي إلى الوحي؟
- الله سبحانه وتعالى خلق العالم أطواراً وهو يبتلينا ويقلب لنا البلاء وإذا أفلحنا في شيء يأتينا ابتلاء آخر وظرف آخر. فمثلاً قد يكون الإنسان غنياً ثم يفلس بأسباب مختلفة فينظر إليه الله ماذا سيفعل، وكذلك يبتلي الغني بالمال فينظر هل سيطغى ويسرف ويبذر.. فأنا الآن مشغول بما لدي من ابتلاء غير ما كان يلي سلفي وما كسبوا من ثمرة اجتهاد في إطاره.
* بالمناسبة يا شيخ حسن، أنت تقول بإيمان أهل الكتاب، غير أنك في كتابك ( السياسة والحكم) (صدرت طبعته الأولى عن دار الساقي عام 2003) تصم أهل الكتاب بوصمة الشرك ثلاث مرات في صفحة واحدة، مستشهدا بنصوص القرآن الكريم، فيقول: quot;فقد كان الكتابيون بعد الدين الحق قد ارتدوا إلى إشراك... وكانوا يحملون على دين التوحيد المتجدد وهم مشركون... وفي شمال الجزيرة العربية تحالف الإشراك كافة كتابيا وعربيا، وأخذ يعدو على المسلمينquot;، بل إن أحد خصومك لمس هذا التذبذب وقال: ومما يثير الإشكال لدى خصوم الترابي استعماله مصطلحات غربية لم يعتدها جل الدارسين بالجامعات الإسلامية، مثل مصطلح Monotheistic Religions الذي يترجم عادة بعبارة quot;الديانات التوحيديةquot;، ومصطلح Abrahamic faiths ويترجم عادة بعبارة quot;الديانات الإبراهيميةquot;. هل تساوي بين الإسلام وبين هذه الديانات..
- قد لا يدرك بعض العرب الجاهلون بلغتهم أين التثبيت وأين التذبذب في اللغة. هذا ليس بتذبذب لو كنت تعرف لغة القرآن الذي يميز بين الكفّار ويذكرهم مميزين عن أهل الكتاب الذي ينسب إليهم أن قد كفروا فعلاً لا اسماً كما في آيات كثيرة. والشرك فعلاً تصح نسبته إلى الجاهليين عبّاد الأصنام والذين يعرفون الله أيضاً، والكتابيون الذين يتّخذون عيسى وأحبارهم أرباباً من دون الله أيضاً، وتصح للمسلمين المرائين، وهو شرك نسبي خفي، وصفةً ولهم في بعض أعرافهم إذ يتّخذون النبي أو الأولياء كأنهم آلهة من دون الله. ولكن القرآن لا يُشير إلى الكتابيين بأنهم مشركون صفة كاملة إلا في حالة واحدة، إذ تعسّر قبول مقاتلتهم وهم أقرب عقيدة للمؤمنين ولكنهم بدأوا حملات عدوان مع العرب المشركين تحالفاً لاسيما من مناطق النفوذ الروماني شمالاً، فذكر المشركون كافة الذين يقاتلون كما يقاتلون كافة. وكذلك يُنسب فعل الكفر إلى من اتخذ عيسى إلهاً دون الله، ولكن الله لا يذكر الكتابيين كفاراً صفة عامّة، بل يذكرهم أحياناً بواو إضافة إلى الكفّار (المائدة 57 ، البقرة 105) وغالب ذكرهم أنهم أهل كتاب، وذكرهم كذلك مع المشركين والكفار تمييز لهم. أما الملل الإبراهيمية فهي متوالية تاريخاً ومتصادقة في الأصول ولكنها تتبدّل واقعاً، وكذلك التوحيدية تتوالى ولكن يغشوها إشراك أحياناً. أما المصطلحات الأخرى فهي مأخوذة من هدي القرآن وإن لم تكن معهودة للنقّالين المقلّدين فقط. إقرأ كلمات القرآن عبر المعجم المفهرس تجد سياق كلمة الكفر فعلاً واسماً والشرك وإبراهيم وعندئذٍ يتبيّن لك الأمر.