تحرير المرأة: رحلة (ممتعة) من النقاب إلى ما وراء (البكيني) (1)

المرأة ـ وتحديداً جسدها ـ أصبح في الآونة الأخيرة الشغل الشاغل لبعض (الذكور) من الكتاب (المبدعين)، ويبدو أن الغموض يكتنف الأسباب الكامنة وراء تسليط الأضواء الكاشفة ـ وبقوة ـ على مساحات شاسعة من جسد المرأة في هذه الفترة بالذات، وإن كان بعض المحللين وأصحاب الشأن يرجع ذلك إلى شبق الأقلام ونزوة الإلهام، ومراهقة المرحلة الأخيرة التي تسبق انقطاع (التيار الكهربائي) عن جسد الإبداع.

يمكننا القول: إن هذا الأسبوع ـ في إيلاف ـ كان أسبوعاً حوائياً بامتياز، حيث راح فيه الأخوة (المبدعون) يبدون الآراء ويعرضون الأفكار حول موضوع تحرير المرأة وحريتها، وقد تحولت عملية تحرير المرأة إلى رحلة (ممتعة) تتألف من عدة محطات.

وقد تناوب على قيادة هذه الرحلة أربعة من القباطنة المشهور لهم بكل (خير)، وقد قسمت هذه الرحلة إلى محطات ثلاث؛ ففي المحطة الأولى: (الحجاب والنقاب والجيوب) برز كاتبان هما (صلاح الدين محسن) و(غالب حسن الشابندر)، وفي المحطة الثانية: (البكيني) يطل علينا الكاتب شربل بعيني بمغامراته (الكتابية) الجريئة، وتصدّر في المحطة الثالثة: (ما وراء البكيني) السيد كامل النجار.

وسنحاول في هذه المقالة تقديم عرض لبعض ما دار في المحطة الأولى من الرحلة (الممتعة)، مع إبداء بعض الملاحظات عليها.

صلاح الدين محسن... والسخرية (الفارغة) من الحجاب والنقاب:

ربما كانت البداية مع صلاح الدين محسن حيث بدأ بمقالته (الإعجازية): من معجزات الحجاب، وانتهى ـ ربما لم ينتهِ بعد من (فتوحاته المصرية) ـ بمقالة (عن النقاب سألوني).
تلتقي مقالتا السيد (محسن) في أمور عدة، منها: ذلك الإهداء (الوفي) إلى صديق فكر، حاول الكاتب ـ في مقالة قديمة ـ إصلاح علاقته مع أحد (الأسطوات) وكان الفشل مصيره، و لغةُ الحوار التي تغلب على المقالتين وإن برزت بشكل جلي في الثانية أكثر من الأولى.
فالمقالة الثانية هي عبارة عن حوار ينقله لنا كاتبنا ـ كما يبدو ـ بحياد ومصداقية يحسد عليهما، ولا ندري تماماً أسباب لجوء الكاتب إلى تسجيل حوار دون تدخل منه، فهل السبب يعود إلى إبداع في الأسلوب، وابتكار في الكتابة، ورغبة من الكاتب في عدم اللجوء إلى الأسلوب المباشر التقريري الذي يبغضه كثير من القراء؟؟ وهكذا أحب الكاتب أن ينقل أفكاره عبر أسلوب قصصي قوامه الحوار والنقاش.

وإن كنت أرجح أن سبب لجوء الكاتب في مقاله الثانية إلى هذا الأسلوب هو الجبن عن التصريح بهذه الأفكار، فالدفاع (الضمني) لكاتبنا هو أن ناقل الكفر ليس بكافر، وأهم ما يؤكد نظرية الجبن هو الخطورة العظيمة لهذه الأقوال ـ على لسان بعض الشخصيات المجهولة ـ الواردة في المقالة الثانية، ومن هذه الأقوال نقتبس:

(ومحمد نفسه قال ما هو أكثر من ذلك، إذ قال عن النساء: عقولهن في فروجهن...
ومن يتزوج من طفلة صغيرة 9 سنوات وكأن لم تكن هناك نساء بالمدينة كلها سوى تلك الطفلة أو كأنه كان بلا زوجة ومضطرا اضطراراً للزواج من طفلة 9 سنوات ؟!! وإن كان ذاك عرفاً جاهلاً عند العامة، أهكذا تقبل حكمة السماء ورحمة وقلوب مبعوثي السماء؟! هذا دليل علي أنه ليست النساء فقط اللائي عقولهن في فروجهن ؟!!

إذن كيف يشرع الحجاب الإله العادل، ويفرق في لبسه بين خلقه؟ غير معقول... هذا شغل عرب، فظاظة الرعي، وقسوة الصحراء الإله العادل لا يمكن أن يظلم النساء دون الرجال، الحجاب كله ظلم والمساواة في الظلم عدل، والله لا يقبل الظلم ولا يقبلالمساواة فيما هو ظلم، لأن الله عادل يحب العدل)

لا أدري إن كان الكاتب يعني بهذه الجمل مضموناً آخر غير الذي تقوله الكلمات الواضحة والصريحة التي لا تقبل تأويلاً أو اجتهاداً، ربما كان (صلاح الدين) ذلك اللبيب الذي اتعظ بمصير صديقه (القمني) وابتعد عن التصريح، وربما أراد أن يكون ابن مقفع آخر استبدل الإنسان بالحيوان في قصصه الرمزية، ستبقى هذه احتمالات تقبل الصواب والخطأ.

لن أتحدث عن المنهجية العلمية والمرجعية الفكرية التي تضمنتها المقالة الأولى للسيد محسن، حيث خصصت لها مقالاً سابقاً، والمقالة الثانية تقترب من الأولى بهذه الروعة المنهجية الساحرة.

وبهذا يكون الكاتب قد ارتحل رحلة مباركة ميمونة من الحجاب الذي يستر الشعر ومروراً بالنقاب الذي يغطي الوجه، مبدياً سخرية مريرة ـ بشكل مباشر وغير مباشر ـ من عملية ارتداء الحجاب والنقاب.

غالب حسن الشابندر: (ينحدر قليلاً إلى الرقبة والنحر وعظام الصدر الأولى )

على العكس من الكتابة السهلة البسيطة السطحية (الساذجة) للكاتب (محسن)، نجد كتابات (الشابندر) تختلف اختلافاً شاسعاً عن كتابات (محسن)، حيث يبدو لنا الشابندر إنساناً يحترم الإسلام ونبيه، ويؤكد ذلك الجمل الإضافية والوصفية التي تغمر مقالتيه، ويختلف أيضاً أسلوبه عن أسلوب محسن، برزانته وأسلوبه الجاد، وإن كان لي اعتراضات وتحفظات على بعض ما ورد في مقالتيه.

الباحث (الشابندر) يشكك ـ بشكل ضمني ـ بصحة وجوب تغطية المرأة للرقبة والنحر (وعظام الصدر الأولى)، ويبين في مقالته (معنى جيوبهن بين نظام اللغة ومواقف المفسرين) أن القرآن الكريم لم يفرض على المرأة تغطية الرقبة والنحر وعظام الصدر الأولى، وقد توصل إلى ذلك من خلال الرجوع للمعنى المعجمي لكلمة (الجيب) التي وردت في قوله تعالى ((وليضربن بخمرهن على جيوبهن))، وقد رأى أن تفسير المفسرين للجيب فيه طفرة وانحراف عن الاستعمال لا يسمح به المعنى المعجمي، ورأى أيضاً أن بعض المفسرين قرروا وجوب تغطية هذه الأجزاء بالاستناد إلى مصدر آخر غير القرآن، وقد وعدنا الكاتب بأنه سيبحث في حلقة مقبلة: هل جاء في الأثر فعلاً ما يبرهن على ذلك (وجوب التغطية)؟

ثمة أمور تجب مناقشتها بخصوص مقالة الباحث:

1 – آلية استنباط الأحكام الفقهية من نصوص العقيدة الإسلامية (القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف)، لا تخضع إلى البعد اللغوي للنص فحسب، وإنما تخضع لأبعاد أخرى عديدة أدركها الفقهاء القدامى جيداً وكانوا يضعونها في الحسبان حين يستنبطون الأحكام، واكتفاء الباحث بدراسة المعنى المعجمي لا يتيح له إصدار حكم فقهي يترتب عليه ما يترتب.

2 - بعد دراسة (مجتزأة وناقصة) ـ لاعتمادها على الجانب اللغوي فقط ـ لآية واحدة فقط من القرآن الكريم، توصل الباحث ـ وبلغة واثقة ـ إلى ما توصل إليه، فإذا علمنا أن قضية اللغة عند كاتبنا مسألة فيها نظر، فينبغي التريث في قبول نتائجه تلك.

وأعني بالمسألة التي فيها نظر، ذلك الكمّ المخيف من الأخطاء اللغوية والنحوية لكاتب يعتمد في دراساته ـ إلى حد بعيد ـ على الجانب اللغوي، ثمة تناقض في كتابات الباحث لا نستطيع السكوت عليه كما فعل المعري.

فالباحث يعالج قضايا لغوية ومعجمية على جانب خطير من الأهمية، ويستدل بتلك المعالجة اللغوية في حسم بعض القضايا، ولكنه في مقالته الثانية على الأقل ـ وللأسف الشديد ـ وقع في أخطاء لغوية ونحوية لا يرتكبها دارسو اللغة العربية المبتدئون.
ففي مقالته الثانية (غض البصر بين المنع الميكانيكي والطهر الذاتي)، والتي يعتمد فيها على الجانب اللغوي أيضاً، يوجد أكثر من ستين خطأ، تراوحت بين فتح همزة (إن) وكسرها خطأ، بالإضافة إلى الخلط الشديد بين همزتي الوصل والقطع، وبين الهمز والمد، ووقع الباحث أيضاً في أخطاء في تذكير المعدود وتأنيثه، بالإضافة إلى عدم نصب المفعول به، وعدم نصب الاسم المعطوف على خبر (كان)، وعدم رفع المعطوف على خبر (هو)، وعدم نصب خبر (ليس)!!!!!!!!!

ولا يمكن ـ بحال من الأحوال ـ تعليق هذه الأخطاء الفظيعة والكثيرة على مشجب المطبعة.

واحتراماً مني لخصوصية الموضوع الذي يعالجه الكاتب ولأسلوب معالجته الجاد، لن أذكر أمثلة على تلك الأخطاء، ويمكنني أن أزوده بها على بريده الإلكتروني إذا تكرم بإرسال عنوانه إلي.

3- قال الباحث: ( إن بعض الفقهاء لم يوجب تغطية الصدر من عظامه الأولى ولا النحر، وربما الرقبة).
وابتعاداً عن المنهجية لم يذكر الكاتب أي فقهاء لم يوجبوا تغطية هذه الأجزاء... وهذه (الربما) من قوله: (وربما الرقبة) تنشر ظلالاً سلبية على هؤلاء الفقهاء (المجهولين)، أو على الذي استشهد بهم، فاللغة الفقهية لغة حاسمة جازمة لا تقبل (ربما)، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يطلق فيها الكاتب الكلام بلا أدلة أو مراجع.

4 _ يمكننا أن نصف منهج الكاتب في تعامله مع أقوال المفسرين والمعنى اللغوي، بالتخبط والتناقض في بعض الأحيان، فمرة نراه ينتصر للمعنى اللغوي (المعجمي)، ومرة أخرى ينتصر لأقوال المفسرين ولا يبالي باللغة، ومثال ذلك ما يلي:

رأينا أن الكاتب اعتمد ـ في مقالة (معنى جيوبهن....) ـ على الجانب اللغوي ورفض تفسير المفسرين، لانحرافه عن المعنى المعجمي، ولكننا نجده في مقالته التالية (غض البصر...) يأخذ بما عليه (ظاهر المفسرين) وإن كان (ذلك الظاهر) مخالفاً للمعنى اللغوي؛ فبعد عرضه لقوله تعالى: ((قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم...)) ذهب الكاتب إلى أن الذي عليه ظاهر المفسرين أن الآية تعالج نظر الرجل المؤمن إلى جسد المؤمنة فقط، ولا تعالج نظره إلى المرأة الكتابية أو المشركة أو الملحدة.

بداية إن قوله تعالى: ((... يغضوا من أبصارهم...)) ـ كما يفيد السياق والسباق والمعنى اللغوي ـ شامل، لا يقتصر ظاهره على المرأة المؤمنة، فكيف تجاهل كاتبنا ذلك؟! وكيف أخذ برأي (ظاهر المفسرين)؟! وأي مفسرين يقصد؟! أليس من الأجدر ـ احتراماً لمنهجه العلمي ـ أن يذكر أسماء أولئك المفسرين، لا سيما أنه يعالج موضوعاً دقيقاً جداً وحساساً.

ثم يضيف قائلاً: {{ وقد ينتصرون لذلك ـ يقصد المفسرين ـ بقوله تعالى في الآية التالية لها، أي آية رقم (31)، والتي يقول فيها الله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن...) }}.

وما دخل أمر النساء المؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج، بجواز نظر المسلمين إلى أجساد غير المؤمنات، ومن هؤلاء المفسرون الذين ذهبوا إلى هذا الرأي؟

ثم يذهب كاتبنا ليتساءل ببراءة عن مقدار المساحة من جسد غير المؤمنة، التي يباح للمؤمنين النظر ليها، وكأنه قد سلّم ـ وسلّمنا بتسليمه ـ بجواز النظر إلى أجساد غير المسلمات، ويناقش الآن مقدار المساحة المباحة من أجسادهن!!!

4 – إن الباحث ترك كثيراً من الأمور المعلقة دون حل أو حسم، وأرجأها إلى حلقات مقبلة، والغريب أن الحلقة (المقالة) الثانية لم تعالج شيئاً من تلك الأمور المؤجلة في المقالة الأولى، بل زاد عليها قضايا أخرى تحتاج إلى بحث ودراسة، وأظن أنه ـ مراعاة للمنهجية العلمية ـ ينبغي على الباحث أن ينهي القضايا العالقة لديه، لاسيما إن كانت حساسة وخطيرة.

وهكذا يمكننا وصف المنهج الذي اتبعه الباحث بالتخبط والتناقض تارة، وعدم الالتزام بالقواعد العلمية في الإحالة إلى المراجع، وإطلاق الكلام هكذا بدون تحديد أو تخصيص، وترْك كثير من الأمور الخطيرة معلقة حتى إشعار آخر، بالإضافة إلى ذلك الكم المخيف من الأخطاء اللغوية والنحوية (مثالنا مقالته الثانية)، وهذا يدعونا إلى وضع ألف خط أحمر تحت اسمه قبل قبوله مجتهداً يعتمد في اجتهاداته على قضايا اللغة إلى حد كبير.

إذاً في الرحلة (الممتعة) لتحرير المرأة، انتقل بنا السيد (محسن) من الحجاب إلى النقاب، لينقلنا ـ بعد ذلك ـ الكاتب (الشابندر) إلى الرقبة والنحر وعظام الصدر الأولى... وتميز الأول بنقده الساخر (الفارغ) من أي عمق أو فكر، والذي يجعل مقالتيه غير جديرتين بالدراسة والبحث، ولم تمنع الثاني جديتُه في البحث، من الوقوع في أخطاء منهجية قاتلة، تنسف ـ إلى حد بعيد ـ النتائج التي توصل إليها.

وسنلتقي بعد هذين الكاتبين بكاتب آخر ظريف (خفيف)، يقوم ـ في مقالاته الأخيرة وبسرعة جنونية ـ بحرق المراحل في الرحلة الممتعة لتحرير المرأة.

ولله الأمر من قبل ومن بعد

علاء الدين الحلبي
مسلم من بلاد الله الواسعة

[email protected]