تأريخنا حافل بالأحداث، وأغلبها مؤلمة للأسف الشديد. لو كنا نتعظ لما أصبحنا على ما نحن فيه الآن فى العراق من تشرذم وكراهية، ولما حصل فيه

الجزء الأول

الجزء الثاني

هذا الدمار. يقولون: التأريخ يعيد نفسه، قد لا يكون هذا صحيحا لأن التأريخ لا ارادة له، وانما يعود او لا يعود بارادة الناس أنفسهم. ولأننا لم نتعظ من الماضى ونصر على العيش فيه، فقد تأخرنا عن الركب الحضاري بمراحل كبيرة. البعض من السادة المعلقين على الجزءين الأول والثاني، لا يحبذون الخوض فى الماضي والأقتصار على الحاضر. ان العماري الماهر هو من يراجع دائما ما بناه فى الماضى حتى يتجنب تكرار الأخطاء فى المستقبل. وحتى على المجال الشخصي، فان كل واحد منا يراجع ما قام به فى الأيام السابقة ليومه الذى يعيشه، ليصحح ما قد حصل من الأخطاء ويتجنب تكرارها.

الطوفان المغولي
اكتسح الطوفان المغولي العراق مرتين، الأولى بقيادة هولاكو الذى أقام حكما مغوليا فى العراق، والتالى بقيادة تيمور لنك الذى لم يقلد سلفه ويقيم حكما لا فى العراق ولا فى غيره، فقد كان شاغله الأكبر هوالامعان بالقتل والنهب والدمار وحرق الأخضر واليابس، مع انه كان مسلما!!.

الدولة الايلخانية المغولية
بعد ان أخضع هولاكو جميع المدن العراقية سنة 1258 ميلادية، نظم ادارة البلاد وابقى قوانينها على ما كانت عليه، ثم ألف حكومة العراق من رجال الحكومة السابقة، فولى ولاية العراق فى بغداد فخر الدين أحمد الدامغاني الحنفي (رئيس ديوان الخلافة سابقا) وجعل ابن العلقمي وزير المستعصم ونجم الدين عبد الغني بن الدرنوش معاونين له. وبعد مرور ثلاثة أشهر من تأليف الحكومة توفي ابن العلقمي (وكان شيخا طاعنا فى السن) فعين مكانه ابنه شرف الدين علي. وفى سنة 1260 ولى هولاكو علاء الدين عطا ملك الجوينى على العراق ثم استوزر أخاه شمس الدين الجويني سنة 1263 فأحسن الجويني السيرة والتدبير فقمع الفتن والاضطرابات. ولما مات هولاكو سنة 1265 بويع بالسلطنة الى ابنه أباقا خان، وبعد موته بويع بالسلطنة لأخيه تكوادار خان سنة 1282، الذى أعلن اسلامه وسمى نفسه أحمد. وعندما جاء البشيرباسلامه الى بغداد اقيمت بها الأفراح والزينة بضعة أيام. وفى سنة 1285 ثارأرغون بن أباقا خان على عمه السلطان أحمد فقتله وتولى السلطنة بعده. وأخيرا انتهى الحكم الى ابى سعيد الذى توفى سنة 1338 وبوفاته انقرضت الدولة الأيلخانية فى
العراق بعد ان دام حكمها 80 سنة.

الدولة الجلايرية المغولية
بعد وفاة ابى سعيد بهادرخان تنازع امراء المغول على المملكة حتى فاز الشيخ حسن الكبير الجلايري سنة 1338، وحكم العراق حتى وفاته سنة وثلاثمائة وستة وخمسون حيث تولى ابنه أويس السلطة وقاد حملة على ملك أذربايجان وعين مملوكه (مرجان) الرومي الأصل نائبا عنه فى غيبته، ولما فشل أويس فى حملته أعلن مرجان استقلال العراق عن دولة الجلايريين.
رجع أويس يستشيط غيظا وحنقا، وحاصر بغداد ثم دخلها وقبض على مرجان وأراد قتله، و تشفع فيه جماعة من أعيان بغداد وعلماؤها فعفا عنه. ومرجان هو الذى ابتنى المدرسة المرجانية (جامع مرجان) التى لا تزال قائمة حتى الآن. وبوفاة أويس سنة 1369 تغلب على الموصل بيرام خواجه من آل قره قوينلى فانفصلت الموصل عن المملكة، ثم تنازع أبناؤه الخمسة على السلطنة وهم: الحسين والحسن واسماعيل وعلى و أحمد، الى ان تغلب الحسين على اخوته فبويع له بالسلطنة.
ولكن جذوة النزاع لم يخمد لهيبها فقد تأججت بعد مدة واستولى أخوه على بغداد عندما كان الحسين فى تبريز. أرسل الحسين جيشا كثيفا بقيادة أخيه أحمد الذى استطاع استرجاع بغداد، وعينه السلطان فيها نائبا عنه. سولت أحمد له نفسه ان يثور على أخيه الحسين ويعلن استقلاله بالعراق فجهز حملة قوية وسار الى تبريز وحارب أخاه الحسين فقتله واستقل بالملك سنة 1377ميلادية.

تيمور لنك المغولي
قامت فى آسيا الصغرى (تركيا) ثورة أسفرت عن استحواذ مغامر حربى على عالم المغول يدعى تيمور لنك (أي تيمور الأعرج) نودي به فى الخامسة والثلاثين من العمر خانا على المغول الجغنائيين. وفى سنة 1360 سطع نجمه واحتل خراسان، واحتل موسكو سنة 1382 وهاجم ايران واحتلها عام 1385 وقتل جميع سكان نيسابور وغيرها من المدن الايرانية.
وفى سنة 1392 نكبت بغداد النكبة العظمى التى أنستها ما تقدم من النكبات، فقد زحف عليها تيمورلنك بجيشه ففتحها وأعمل فيها السيف والنار وقتل 20 ألفا من سكانها. وأمر تيمور طبقا لتعاليم الاسلام بجمع كل ما فى المدينة من خمر، وأراقه فى دجلة. انهزم السلطان أحمد الجلايرى الى مصر مستجيرا بسلطانها الملك (برقوق الظاهر) الذى جهز له جيشا رجع به الى العراق، خرج الأمير مسعود نائب تيمورلنك من بغداد منهزما بغير قتال، فقبض السلطان أحمد على انصار مسعود وقتلهم جميعا وذلك سنة 1394م.
بعد ان استقر الأمر للسلطان أحمد عقد معاهدة حلفية مع (قره يوسف ) التركماني صاحب اذربايجان واتفقا على مقاومة تيمورلنك. علم تيمورلنك بالخبر فرجع الى العراق بعد ان فتح الشام وفتك بأهلها واستباح حلب، واحتل دمشق وذبح سكانها بعد ان هزم جيش المماليك، فأطلق عليه اسم (عدو الاسلام). اكتسح العراق مرة ثانية وأعاد فيه فظائعه الأولى وزيادة. كان تيمورلنك مسلما على عكس أسلافه الوثنيين، فكان يتوق ال استسلام حامية أسوار بغداد بدون قتال، ولكن الحامية المحاصرة قاتلت قتال المستميت. ومرت أربعون يوما على الحصار شعر خلالها سكانها بالعوزالشديد ولكن لم يهنوا. واحدثت ثغرات عدة فى خطوط دفاع المدينة فمرقت منها القطعات المهاجمة مروق السهم. وشاع الذعر والهلع فى المدينة. أمر تيمور بأن يخرج من المدينة جماعة من سرواتها وعلمائها وأن يلتزم الجند بالحفاظ على مساجدها. وما خلى ذلك فكل البنايات واهل المدينة صاروا طعمة سائغة لجنوده، وفرض على كل واحد منهم، وعددهم تسعون ألفا، أن يأتى بجمجمة انسان الى المعسكر كل يوم، ومن يعجز عن ذلك فجزاؤه الموت. وشمل القتل السنة والشيعة والنصارى. وتمت المجزرة البشعة
هذه وانتقل تيمور الى بلد المعظم ليزور قبرالامام ابى حنيفة ويقدم له واجب التبجيل والاحترام. هرب السلطان أحمد مع قره يوسف الى السلطان بايزيد العثماني فسار تيمورلنك فى اثرهما الى آسيا الصغرى وغزا أرمينية وجورجيا، وحدثت بينه وبين بايزيد سنة 1402 حروب هائلة انتصر فيها تيمورلنك ووقع بايزيد أسيرا فى يده ومات فى أسره. وفى شباط سنة 1405 مات تيمور فتنفس الشرق كله الصعداء.


وفى سنة 1410 حصلت نفرة بين بين السلطان أحمد الجلايري وقره يوسف، وكليهما سفاحين غدارين، أدت النفرة الى نشوب الحرب بينهما، وقتل قره يوسف غدرا السلطان أحمد الذى كان قد تنازل عن الحكم الى محمد بن قره يوسف، وهكذا انقرضت الدولة الجلايرية بعد حكم 76 سنة، و قامت على أنقاضها الدولة التركمانية المعروفة بدولة قره قوينلى.

وهكذا اختتم عهد الطوفان المغولي التالى، وبه ازيلت من الوجود آثار الحضارة القديمة.. تلك الآثار التى سلمت من طوفانهم الأول. وخلال قرن ونصف كتب على (مدينة السلام) أن يشهد أبناؤها مرتين الابادة والاستئصال، وتلاشى كل أمل فى التقدم واعادة ما مضى، وهو ما راود الناس بين الفترتين، (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء). ولكن بغداد قبل مجىء تيمور كانت قد استعادت مقامها القديم الى حد ما وأصبحت تدانى تبريز شأنا، وكل أمل بعد هذا الذى جرى عليها لا يعدو أن يكون خرافة. ولم يبق للمدينة وما حولها الا ان تندب حظها العاثر ومجدها الداثر، وتستقبل أياما لا توسعة فيها ولا خلابة ولا بهاء..

عاطف العزي


فى الجزء الرابع وما يليه سيكون حول: دولة القره قوينلي ودولة الآق قوينلي والدولة الصفوية والدولة الكردية والحكم العثماني والاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917م.

الأحداث المذكورة مستقاة بايجاز وتصرف من:
- دليل خارطة بغداد طبعة سنة 1958
- دليل الجمهورية العراقية طبعة سنة 1960
- بغداد مدينة السلام طبعة 1962