استفتاء (4/5)
عندما كان للثقافة العربية مكان – مركز
(لمعرفة صيغة الاستفتاء انقر هنا)

د.إسماعيل نوري الربيعي (مفكر وباحث عراقي يقيم في البحرين)

من وصاية المركز إلى أوهام الأطراف

تعكس طبيعة التكوين والنشأة للحاضرة العربية الحديثة، جملة من المؤشرات التي تشير إلى خصوصية العلاقات التي سادت إبان النصف الأول من القرن التاسع، حيث الدور البارز الذي ميز تجربة النهوض لتجربة محمد علي باشا في مصر، وحالة الانفتاح والتواصل مع الثقافة الغربية، تلك التي كان لها الأثر في توسيع مجال الإدراك والتفهم نحو حفز العلاقات القديمة، والتي خلفتها مرحلة الانحطاط والتدهور التي نالت من الدولة العثمانية، تلك التي دارت عليها الدوائر وغدت عرضة للنهب والابتزاز من قبل قوى الهيمنة الغربية، والتي قيض لها أن تحظى بالسيطرة على الشؤون الداخلية لها، تحت دعوى تنظيم الموارد المالية في سبيل ضمان جدولة القروض والديون المترتبة بحق تلك الدولة.

الأنماط والسياقات
قيض لنمط العلاقات الرأسمالية من البروز وبقوة لافتة، في صلب الفعاليات التجارية التي كانت متداولة لدى الفئة التجارية في بلاد الشام، حيث تبدى الانتقال من نمط العلاقات الإقطاعية، وتوسع دور العلاقات النقدية، والتي كان لها الإسهام المباشر في تنامي دور المدينة – الحاضرة وتصاعد دورها وزخمها المؤثر على صعيد العلاقات الاجتماعية، فيما كان النفوذ وتوسع السيطرة الأوربية، قد تنامي بشكل لافت، حتى كانت الحرب العالمية الأولى لتكون بمثابة الفاصل المباشر الذي عمل على تحديد الفواصل وترسم شكل العلاقة، والذي تبدى في علاقة استعمارية تم فيها تقاسم وتوزيع النفوذ بين القوى الاستعمارية التقليدية من خلال اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916.
كان لتفاعلات الحقبة التاريخية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أثرها الأبرز في فسح المجال أمام تشكيل بواكير الفئة البورجوازية، تلك التي عملت على الإمساك بزمام المبادرة على صعيد ترسيخ دور الفئة التجارية، وتنامي الرأسمال الوطني، والذي كان له الإسهام المباشر في تشكيل منابع الوعي حول تنامي الفعاليات الاجتماعية وبالتالي، ظهور حركات التجديد والإصلاح الذي راح يعلن عن نفسه في التيار القومي، حيث حركة العهد الذي نمت وترعرعت في الحاضنة المدينية، استنبول العاصمة على يد ثلة من الضباط العرب، أو بروز تيار التجديد الإسلامي والذي تمثل في بروز فكرة الجامعة الإسلامية، والتي حمل لواء التفعيل فيها مجموعة من المنورين العرب، فيما كان للتطورات اللاحقة والتي تلت الحرب العالمية الأولى أبرز الأثر في تنامي الوعي الوطني، لاسيما وأن الحقبة تلك قد شهدت ظهور تجربة الدولة القطرية، وظهور الحاجة إلى النخبة المتعلمة، في سبيل قيادة مرافق الإدارة والتعليم والصحة والفعاليات الاجتماعية المختلفة، التي تفرضها آليات الدولة الجديدة الناهضة، على الرغم من الهيمنة المباشرة التي تفرضها حالة الاستعمار والوصاية والحماية والانتداب من قبل القوى الكبرى المسيطرة .هذا بالإضافة إلى طبيعة التنامي لدور الفاعل الدولي حول مسألة تقرير المصير التي تم طرحها في بيان الرئيس الأميركي ويلسون حول تقرير المصير ومؤتمرات السلم العالمي التي ظهرت في أعقاب الحرب، وتبلور اتجاهات التعليم والانفجار الصحفي ودور ثقافة الحشد في توجيه كم الطروحات، كما لا يمكن التغاضي عن الدور الذي أحدثته الحركة الإصلاحية العثمانية الرسمية من خلال خطي شريف همايون 1839 والخط الهمايوني 1856 أو ظهور الدستور عام 1876 والمحاولة الدائبة نحو خلق نوع من التوافق بين الشريعة الإسلامية والدساتير الأوربية، إلا أن هذه الإجراءات النازعة نحو التوفيق مع السطوة والهيمنة الغربية، لم تحظ بالقدرة على التفعيل والتأثير الصميم في صلب مكونات العلاقات المتسارعة، التي فرضتها آليات الانتقال نحو الاقتصاد الرأسمالي، حتى كانت الحركة الدستورية الثانية والتي تبدت في المشروطية- الانقلاب العثماني عام 1908 على يد جمعية الاتحاد والترقي.

مخاضات التكوين
يبرز التباين الواضح بين الأقاليم العربية، حيث حظيت بلاد الشام بفرصة الانفتاح على الثقافة الغربية وتوسيع مجال التحديث، من خلال تركز النشاط التجاري في الحواضر والمدن، حيث توسعت أنشطة الوكالات التجارية والإرساليات التبشيرية، في توسيع مجال التواصل مع الثقافة الغربية، فيما بقيت الأوضاع في العراق والجزيرة العربية خاضعة لهيمنة العلاقات القبلية، هذا على الرغم من العراقة والمكانة التاريخية التي كانت تقوم عليها مدن الجنوب العربي.والواقع أن حالة الانفتاح المحدود الذي شهده العراق للتحول من نمط علاقات الإنتاج الباترياركي نحو الإنتاج الرأسمالي، كان قد ارتبط بفتح قناة السويس عام 1869.
تفعيل المناشط الثقافية كان قد تبدى في مصر، وبوضوح من لدن محمد علي باشا، لاسيما على صعيد إنشاء مطبعة بولاق عام 1821 وصدور صحيفة الوقائع عام 1828 وتأسيس مدرسة الألسن- الترجمة عام 1835،والتوسع في إرسال البعثات العلمية، فيما كان التفعيل الأهم كان قد تركز في القرار الصادر من قبل الباشا حول جعل اللغة العربية، لتبدأ ملامح التمركز الثقافي والذي لم يتوقف عند الاهتمام بالبنى الارتكازية التي تقوم عليها الثقافة، بقدر ما تزامن مع واقع من الانفتاح السياسي، حتى غدت مصر قبلة لهجرة العديد من المثقفين الشاميين(( مسيحيين ومسلمين)). من بشارة تقلا مؤسس جريدة الأهرام وزملائه، مرورا بالكواكبي الناقد الأهم للاستبداد ومصارع الاستعباد.
تتبدى ملامح يانوس، ذلك الإله الإغريقي صاحب الوجهين، وجه يتوجه نحو الماضي ويعيه، وآخر نحو المستقبل ويعرفه، حتى ليكاد يعكس حالة من التمثيل المباشر لطريقة التبصر العربي حول الأوضاع والأحوال التي تحيط بهم.ينشدون تارة إلى تاريخهم المجيد الذي شهد الأوج والذروة، ويسرحون نحو المستقبل بتأملات يعوزها الكثير من الوعي بالواقع.فيما تبقى آليات التداول المعرفي عرضة لهيمنة النخبة العارفة في تحديد مجال توظيب المهارات المتعلقة بالمعرفة، حيث التعالق الذي يتبدى بين خصوصية المنجز وعمومية النظام حيث الانضواء ضمن رؤية حضارية شاملة وكلية.فعلى الرغم من الفضاء الحضاري العربي، الذي تتمثل فيه خصائص وسياقات وأنماط التفكير العربي، إلا أن الخصوصية المكانية تبقى فاردة بحضورها على واقع التفاعل لطبيعة الإنتاج المادي وطريقة التمثل لتجسيد الرموز فيه.وما بين النشاط الذي يميز النظام الثقافي وعناصر التكيف التي تبرز ملامحها في مجال تفعيل مجال التكيف داخل مكان محدد ينتمي إلى ذات النظام الثقافي، تبرز حدة الفواصل والتمايزات بين الدور الذي راحت مراكز الإشعاع الثقافي المديني، في مدن الشام والقاهرة على صعيد إنتاج الثقافة، طباعيا كما هو الحال لبيروت، ومعرفيا للقاهرة، ومن طبيعة المنجز المباشر لهاتين الحاضرتين تم ترسيم معالم الشخصية الإقليمية الثقافية.خصوصا وأن مرتكزات التعالق كانت تعود بالارتباط الى الجانب المادي.حيث الحضورية التي تفرضها مقومات الإنتاج الثقافي، والقدرة على نشر الكتاب والجريدة، أو مناخ الحرية القادر على استيعاب روح الأفكار الجديدة وبثها ونشرها وبالتالي إمكانية تداولها في الفضاءات الأخرى، حسب ما تفرضه متطلبات واشتراطات العلاقات السائدة.

***

باسم المرعبي (شاعر ومترجم عراقي يقيم في السويد)
استبدال مراكز الثقافة بـ بُؤَر الإرهاب


1
ليست أسئلة بالمعنى التقليدي، حقاً، هذه التي تَمُور في "نص" عبد القادر الجنابي الذي شاء أن يأخذ صيغة "الإستفتاء". نصٌ و أسئلة يندرج كلاهما في مشروع عبد القادر الجنابي النقدي المسائل، المتسائل في "خضم" ثقافة، بوصفها جزءاً من حياة عربية، لا تَنِي تقدم الأدلة على تقهقرها يوماً بعد آخر. هو "بيان" بقدر ما هو "استبيان" على حافة حقبتين أو ذاكرتين: واحدة لماضٍ لم نفرغ منه بعد وأخرى لمستقبل يكاد يكتمل الآنَ وفي جنباته سؤال يتردد كنذير: حاضر مثل هذا الذي نشهد، ماذا يمكن أن يلد، بل يستنسخ؟ إلا إذا حَدثت معجزة ما؟

2
هذه المعجزة يمكن تحققها فقط في حال تسلّحنا بالشجاعة اللازمة ـ كما فعل الأوربيون ـ لمواجهة تاريخ من الأخطاء يتملّكنا وحاضر لا يقل "خطيئة" في ذات السياق من التستّر والتعصب لأفكار وقواعد تحكم الحياة العربية برمتها، وباتت من الإستحكام حدّ انّ أي خروج عنها كما لو كان مساً بالمقدّس.
انّ التراجع الفاضح في جلّ مرافق الحياة لدينا، في الوقت الذي يتفنن العالم بإحراز التقدم يشي بخلل هائل يحكم حياتنا غير انّ ما هو أشدّ هولاً هو التكيف مع الخروقات التي أودت بنا وأدت الى ما نحن عليه. يتراءى لي اننا نحيا في التاريخ أكثر مما في حاضر، من صنعنا، طافح بعلائم احتضار القيم الإنسانية السوية.

من بين أمثلة عديدة على التقدم أو قل التوازن الذي أحرزته الحياة السياسية العربية قبل خمسة أو أربعة عقود يحضرني مثالان سريعان ـ قد لا يكونا الأفضل ـ: الأول من سوريا، في فترة رئاسة شكري القوتلي حين أراد استبدال سيارة رئاسية قديمة بجديدة، ولم يكن له البت بالأمر بنفسه بل عُرضت المسألة على مجلس النوّاب الذي ناقشها ليقرر في النهاية ان لا حاجة للتبذير طالما بالإمكان استخدام السيارة القديمة رافضاً بذلك طلب الرئيس. والمثال الثاني من العراق في عهد الرئيس الراحل عبد السلام عارف حين عجز وهو أعلى سلطة في البلد، كما يفترض، عن اجبار أو في الأقل اقناع احدى المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة بتحمل نفقات طباعة صورته الرسمية حتى اضطر لتسديدها من المخصصات المالية للقصر. في أي بقعة من العالم العربي، الآن، ممكن أن يتجدد هذان المثالان؟ وقد تحولت البلدان الى اقطاعيات ملحقة بقصور الحكّام.

3
استحضار المكان، الذي يتقصّاه الإستفتاء، ليس بدافع حنينٍ كسول الى ماضٍ سحقه الزمن في تقدمه، بقدر ما هو التفات متطلّع الى "أمس" ينطوي على مفارقته العربية، بامتياز من حيث هو متقدم على حاضر نحياه رغم ان ما يفصلنا عنه عقود.
هو ليس بكاء مكانٍ ـ أمكنة أستطاعت أن تحتضن الروح القلق، الخلاق لأجيال من "صاغة" الفكر والوعي والإبداع بقدر ماهي اشاحة غاضبة عن حاضر يجسد خسارات وانهيارات مشاريع وأحلام أجيال عدة في السياسة والثقافة والمجتمع. قد يكون المكان خليطاً من بغداد وبيروت والقاهرة وحتى دمشق، غير انّ بغداد ـ الموئِل هي التي أخذت بيد وعيي لتجول دروبَ الفكر والثقافة و... الحلم.
قد يُختزل المكان الى جدار في مقهىً أستندُ اليه وبين يدي الكتاب أو الصحيفة التي أحبّ وامامي يمتدّ حلم شاسع.
كانت ثمة نوافذ ولم تكن الغيوم الحُمر قد حجبت المشهد كليةً بعد.
لكن يبدو انّ المياه ليست هي وحدَها التي جرت تحت جسر الكلمات والأفعال، كما يقول نص الإستفتاء بل ان الدماء هي التي جرت لتجرف كلّ شيء، ولتحلّ بؤر الإرهاب بديلاً لعواصمَ ثقافة كانت تنطوي في ما تبدّى على بذرة الإستبداد، أو في الأقل لم تكن محصّنة ضدّه.

4
في الإلتفات الى "الأمس" استحضار لأمثلة و وقائع تصلح لأن تكون مقياساً ـ عند مقارنتها بـ "اليوم" ـ لمدى النكوص الذي أصاب الحياة العربية برمتها. في الإلتفات هذا تكمن نظرةٌ ناقدة ومأمل في التغيير لتدارك المستقبل طالما اننا خسرنا أو ما زلنا نخسر الحاضر. التفاتٌ من أجل تدارك الهوّة التي توسّع خسارتنا ولا تريد أن تكفّ عن الإتساع؟

5
لا يمكن النظر الى أية ظاهرة بمعزل عن طبيعة المكان الذي يشهدها وزمنها والظروف المحيطة بها. من هنا يجب التعامل مع أية ظاهرة في ثقافتنا. على سبيل المثال فإنّ الأجواء التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي أمدّتِ البشرية بطاقة مفعمة من الآمال، كانت كونية في تأثيراتها فالجميع استشعر بمدى التغيير المتاح تحقيقه. كانت حقبة ما بعد الحرب تتطلب خطابا مغايراً ولغة جديدة عبر طريقة تفكير لا بدّ ان تكون جديدة بالضرورة. من هنا تأتت المهمة التي اضطلع بها المثقفون والشعراء بشكل خاص، في العالم العربي. كان حماساً كونياً أملاهُ الحلم بزمن قادم مختلف.
ربما لهذا تحققت أهم مشاريعنا الثقافية في تلك الفترة. أو في الأقل انطوت على الشرار الذي أمدّنا بالضوء لاحقاً.

6
لا أرى ان ظاهرة تفتت مراكز الثقافة المعتادة في العالم العربي مسألة سلبية في حدّ ذاتها ان لم يكن لها ايجابياتها العديدة فغياب أو ضعف الدور "المركزي" الذي يذكّر بشموليةٍ ما كما في السياسة، سمح بنمو مسؤولية تشكيل أو تفعيل مدن للثقافة غير معهودة سابقاً، كما في الخليج مثلاً، وعلى أهمية الدور الذي اضطلعت به المراكز الجديدة غير انه لم يكن لها نصيب من "النجومية" وليس هذا بسبب خلل في أدوارها بقدر ما انّ مجمل التطورات والتبدلات اللاحقة لم تكن تسمح بولادة النجوم سواء كانوا أشخاصاً أم مدناً.
ومن نافل القول انه لم يكن للمثقف مسؤولية )مباشرة( في الظروف التي أدّت الى تقهقر الأدوار الطليعية لمعاقل الثقافة مثل بغداد وبيروت غبّ حدثين "جذريين": صعود "البعث" الى السلطة في العراق والحرب الأهلية اللبنانية.
ان الفضاء المتاح في مراكز الثقافة الجديدة كالمهجر الإنكليزي أو الأوروبي عموماً على أهميته بل ضرورته في مجال اكتساب خبرات ومعارف جديدة إلا انه يبقى فضاءً مصطنعاً يوازي بذلك "اصطناعية" المجتمع المهاجر. والإصطناعية التي أعنيها سأمثل لها بمثال: ففي الوقت الذي يكون المواطن العربي القادم من بلد محكوم بالديكتاتورية حراً في مهجره الحر: يفكر ويكتب ويناقش كما يحلو له، لكن السؤال الأهم يتعلق بمقدار تأثير كل ذلك على طبيعة ومجريات الأمور في بلده الأصلي؟
ان المثقف الذي يستطيع، في مهجره ـ منفاه أن يكتب عن مشكلات بلده بحرية تامة يعي، في الوقت ذاته، المأزق الذي يحياه وهو يفعل ذلك، إذ ان مقدار نجاحه الحقيقي يعتمد على مدى وصول خطابه الى من يعنيهم حقاً حاكماً وشعباً وتأثرهم به

7
يتساءل الإستفتاء عن مركز الإشعاع، اليوم، في العالم العربي؟
لا شك ان هناك مدناً حاولت أن تلعب الدور الذي لعبته بيروت مثلاً أو حاولت تقليد دور بغداد
لكن لم ينجح أيّ منها. بالمقابل ثمة عواصم ومدن نجحت في تشكيل ملامح تقافية خاصة بها لأنها كانت تنزع الى ذلك من حاجتها وطموح أبنائها الخاص.
لكن، للأسف، ليس ثمة إشعاع بالمعنى الريادي ـ التاريخي. ولذلك أسبابه وتفاصيله الكثيرة.
قد نكتفي بالضوء المتبقي أو الذي يتسرب من هنا وهناك لكن أشدّ ما نخشى أن يزحف ظلام الإرهاب و تأتي ثقافة التكفير والإلغاء على كل ما أنجز على مدى أجيال من مفكرين ومبدعين هم أشقاء الضوء.

***

هاتف جنابي (شاعر، كاتب، مترجم ومحاضر في جامعة وارسو)
المكان بين الحقيقة والخيال

المكان والذاكرة صنوان يتشبث أحدهما بالآخر. للمكان ذاكرة ترقى أحيانا فوق ذاكرة الفرد بله ذاكرة الجماعة. ذاكرة الفرد هي من صنيع الوهم والحقيقة، التاريخ والتجارب الشخصية، وهي أيضا من صنيع المكان. حضور المكان يتناسب طرديا مع ثقل ذاكرته الإنسانية. لا حضور لمكان ما بدون ذاكرة، ولا حضور لذاكرة بدون مكان. لذا فذاكرة المكان، في أساسها، هي ذاكرة التاريخ والبشر، ذاكرة الأرض والسماء. وهي بنت المحسوسات والمدركات أكثر منها بنت الوهم والخيال. وعليه فأهمية المكان تتشكل بفعل تراكم كيفي وكمي، روحي ومادي، بشري وغير بشري! مثلا، يمكن للمكان أن يُزجي خدمة جلّى للإنسان بإعانته على تأمل نفسه وكينونته، تأمل ماضيه وحاضره، حتى أنه يمدّ له يد العون في حفظ هويته الفردية والجماعية على السواء. لكن المكان يمكنه أن يكون بمثابة مرآة يعكس سموأو دنو الفرد والجماعة ورفعة ووضاعة المكان على السواء. المكان يتمرأى مثلما الذاكرة! وعليه فالمكان بهذا المعنى امتحان، ويتراءى لنا كذلك بهيئة مفتاح أو مفاتيح لفك مغاليق حياتنا أو غلقها. من الصعب حذف أو إزالة ذاكرة المكان نهائيا، لأن فيها بعضا من معايير وتوصيفات الأزلي. أما ذاكرة الفرد فهي نسيج من الحقيقة والخيال، وهي نسيج من المكان أوالأمكنة. وهي بالتالي تتشكل ليس فقط من المحسوسات وإنما من الوهم: وهم المكان والأشياء ووهم المخيلة ذاتها! كان اليونان القدامى يعتقدون، بأن"الذاكرة هي اختراع عظيم وجميل،وهي دائما نافعة، في العلم وفي الحياة". لكن، أ صحيح أن الذاكرة نافعة دائما؟ نحن تعترينا شكوك إلى حد ما في جعل الفائدة مطلقة.
ثمة ملامح لمكان زائل يتشبث بالذاكرة. خُذِ المكانَ في الشعر الجاهلي على سبيل المثال، إنه أنموذج حي- مشبع بالمحسوسات التي انتقلت إلى مصافي الوهم والتخييل. فالبكاء على الأطلال إنما هو بكاء على من كانوا فيها ولم يعودوا حاضرين: لا هم ولا مكان إقامتهم. كانت هناك خيمة وبشر، ثم زالت، وهذا هو محو المكان. لقد أنقذت الذاكرةُ – المخيلةُ المكانَ ومن كان فيه. لذا فهذا النوع من المكان يمثل حقيقة غائبة، شيئا يتوسل الوهم والذاكرة لقاء حضور جزئي. هذا النوع من المكان لا امتداد حضاري أو ثقافي له، له حضور في الذاكرة الشعرية فقط. لأنه لا يمكن أن يشكل موئلا، ولا يمكنه أن يَعِدَ به. لهو حضور يلازمه التأسي والتفجع والحنين. وهكذا سيبقى حتى ينمحي. قال طَرَفَة بن العبد في معلقته:
لخولةَ أطلالٌ ببُرْقَةِ ثهمدِ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
وقوفا بها صحبي عليّ مَطيّهم يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلّدِ
وهكذا مع بقية ممثلي الشعر الجاهلي في تعاملهم مع مثل هذا النوع من الأمكنة.
القضية مختلفة تماما أثناء التعامل مع الحانة وما يشبهها من أماكن، الحانة تخلق عادات وطبائع وثقافة، يمكن أن نسميها"ثقافة التنادم" التي ينجم عنها "صُحْبة المكان" و"عادة المكان" و"أخلاق المكان" أو" فساد المكان" الذي نجده حاضرا ماديا وروحيا في إبداعات الكثيرين من الشعراء والكتاب والفنانين، بغض النظر عن انتماءاتهم وأصولهم. كما وأن صورة المكان بشقيها السلبي أو الإيجابي ماثلة في كتب التاريخ، وخصوصا في الكتب المقدسة. فعاد وثمود وبابل وأوروأثينا وروما، ومكة والقدس والفاتيكان وسواها، مدن ودول ترمز للشر كما أن بعضها يرمز للخير؛ لسمو الحضارة والثقافة ولانحطاطهما، لتسامي الروح وسقوطها. وما العالم العلوي أو السفلي سوى مكانين. وما النار والجنة سوى مكانين. قد يُحدد المكان بتسميته مدينة، وقد يتسع فيأخذ شكل بلاد أو فضاء. لكل بلاد رائحتها، وربما تنطبق الحال بصورة تجسيدية أكثر جلاء على المدينة. المكان الحي هو من له عمق وامتداد في ذاكرة التاريخ والجماعة. والامتداد هو صدى أو انعكاس لفعل/أفعال متعددة: فردية وجماعية.
إذا كانت الحانة أو الخمّارة قد علقت في الذاكرة الفردية والجماعية بفضل حضورها العياني والثقافي، لهذا السبب أو ذاك، فإن ثمة أماكن ذات أهمية أكبر وأخطر منها، ألا وهي دورالعبادة والأضرحة ودور العلم. لذا فكلما كانت للمكان طبيعة قدسية كان تأثيره ومفعوله بالغين للغاية. مثل هذه الأمكنة قدمت للبشرية وما تزال تقدم ثقافة ذات أبعاد متعددة: ثقافة بنّاءة روحيا، بما فيها من طقوسية محببة لدى النفس عادة أو ثقافة هدّامة، تستند على أساس التنصل من الآخر وعدم الاعتراف به، بحيث تساهم سلبا أو إيجابا في الهدم والبناء. إذن، ثمة أماكن قد تُساهم في تفكك الذاكرة وتشتتها، أو إعادة ترميمها. ينهدم المكان وتبقى الذاكرة، سوى أن الذاكرة المفردة أقصرعمرا ونفوذا من المكان ومن ذاكرة المكان. وحتى تصبح الذاكرة بحجم المكان لابد لها من التوسع والانفتاح ومن ثم التمترس في ذاكرة الجماعة. يلعب المكان دورا خطيرا في تشكّل الذاكرة الجماعية. كما يقوم الفرد/الأفراد بتأهيل المكان للعب دور هام وحيوي في محيطه القريب والبعيد على السواء. من الغريب أن هناك عوامل خارجية لاتمت إلى الذاكرة ولا إلى المجهود الإنساني مباشرة، تساهم في طمس أو تفعيل دور المكان، ومن بينها عامل الجغرافيا وعامل المناخ وعامل الموقع الجيوبوليتيكي وعامل الصدفة. كما وأن لأهمية الدولة الفلانية والأمة الفلانية عاملا حاسما في تبوء المكان الفلاني (سواء أكان بمثابة مدينة أم دولة) مكانة فاعلة ومحورية ومفصلية في ذاكرة الفرد والجماعة. كلما كان المكان مركبا في توليفته من عناصر انتاجية عدة كانت مكانته أكبر ودوره أعظم. لا أهمية للمكان بدون أن تكون له سطوة ثقاحضارية أو روحية أو اقتصادية أو هذا وذاك معا. يبقى مصير المكان مرهونا إلى حد ما بأهمية من ينتمي إليه ومدى الثقل الذي يمثلونه في تموضعهم الثقافي، التاريخي، البيئوي والكوني، ومدى ما يقومون به من تفعيل لدورهم من خلال خلق أسطورة مدينتهم- بلادهم. هناك دول تسعى جاهدة مغدقة أموالا طائلة في سبيل خلق"مكّات" – بؤر إشعاع. هكذا تشكلت كاريزما باريس ولندن ونيويورك وطوكيو وبرلين وسواها. هناك مدن علم وثقافة وسياحة واقتصاد وسياسة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت كل من بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت فيما بعد مدنا ذات ثقل ثقاحضاري خطير، عكست مستوى تفكير أهلها وقادتها، فكانت مراكز ثقافية وعلمية مغرية، ذات سطوة روحية ومادية، تحرك الراكد، توحي وتلهم وتستقطب، بعبارة أخرى كانت مثالا يقتدى، ومستوى يُطمح لبلوغه. من المعلوم أن المدن تصل أوج تطورها بفضل أهلها وتنهار بسبب أهلها أو جراء الإطاحة بها من قبل قوى خارجية لا حول ولا قوة لها على ردها. لا يمكن لمركز ثقاحضاري أن يبلغ مرتبة التأثير بدون أن يكون مرنا في الأخذ والعطاء، ودون أن يشعر أهله بضرورة أن يكون لهم دورهم في خلق أسطورتهم الخاصة بهم. الأسطورة لها سطوة الحقيقة والوهم مجتمعين. انهارت المراكز الثقافية العربية الواحدة تلو الأخرى لأسباب عدة، منها ما يتعلق ببؤس النظم السياسية المسيطرة عليها واحتقارها للثقافة والعلم، ومنها ما يتعلق بسوء التخطيط ونهب الثروات الوطنية، وأخرى بخمول سكانها. من المعلوم، أن أنظمة الحكم المركزية تخلق لها مراكز، لذا فبمجرد اتباع نظام اللامركزية في الحكم والإدارة ينشأ واقع تعدد المراكز، أي تعدد أماكن الجذب والاستقطاب، وهذا الأمر نراه على الصعيد العالمي بجلاء أكثر منه على الصعيد العربي. في العالم (رغم جملة من نواقصه وسوءاته) تسير الأمور وفقا لمنطق التخطيط المبرمج إلى حد ما، والتطور والارتقاء الذي يقوده التطور التكنولوجي والعلمي، وتلعب وسائل الإعلام فيه دور المحرك والكاشف والموجه أحيانا، سلبا أو إيجابا. أما في البلدان العربية فثمة دور استثنائي للفوضى وسوء التخطيط وقصر النظر والجهل، وللصراعات والحروب البائسة وكذلك للصدفة. تراجعت بغداد والقاهرة ودمشق، لأسباب معلومة، ونمت مراكز أخرى أقل أهمية منها بالمقياس الحضاري، مثل تونس والرباط أو مراكش و بعض مراكز دول الخليج العربي التي يلعب دعم الأفراد فيها دورا تنشيطيا ملموسا، متمثلا بتعضيد الحركة الثقافية والعلمية. وبما أن غالبية المجلات المعروفة في البلدان العربية كانت رسمية أو مدعومة من قبل السلطة، أو أنها كانت تمثل فردا أو جماعة بعينها، فإنها قد احتضرت حالما احتضر من يدعمها أو يمولها. علينا أن نتذكر أن هناك مدنا مصطنعة لا طاقة لها على تحمل أعباء قيادية أو إشعاعية نراها (بفضل الاستقرارالنسبي) قائمة، هنا وهناك، في الساحة العربية. ثمة دور لوسائل الإعلام مزدوج: بنائي وتفكيكي. إنها بالقدر الذي تُنَشّط وتقوّي المركزَ، نراها تضعفه على المدى البعيد، من خلال تسليط الأضواء على أماكن أخرى، قد تشكل مسارب وقنوات ثقافية تسعى لأن تكون منافسة ولربما بديلة للمراكز المشهورة. على أنني أزعم في النهاية أنه لا توجد قوة تستطيع إفراغ المكان – الموئل نهائيا من عبقه التاريخي ومن ذاكرته طالما بقي فيه من يُشَعْرنُ وجوده ويرقى به إلى مستوى الأسطورة والحلم. وعلى هذا الأساس سيبقى مثل هذا المكان محركا لذهنيات مثقفيه من خلال الشعور بالانتماء الأبدي له ولسطوته وسحره، رغم انحسار دوره كمركز للإشعاع الثقاحضاري أو حاضنة لأبنائه.
فهو بالنسبة للمهاجرين، المثقفين منهم على الخصوص،بمثابة الجنة المفقودة ونقطة الارتكاز، وبالنسبة لمثقفي الأطراف الحلم الذي يسعون لبلوغه والتماهي معه، ولو على صعيد ذاكرة التاريخ والمعتقد والجغرافيا، وثقافة الانتماء.
ولكي لا نتعب أنفسنا كثيرا، سأقول: لا يوجد اليوم مركز إشعاع عربي واحد. لا يمكن أن يكون هناك مركز إشعاعي في زمن تقهقر أو تفكك الأمة. الإشعاع يكون حينما يكون ثمة مصدر له، شأنه شأن الظلمة، وشأن الطاقة. كيف تكون بغداد مشعة أو القاهرة، طالما أنها لا تنتج سنويا أكثر من مائتي عنوان جديد، وطالما لايعمل فيها مسرح واحد أو سينما واحدة بحرية، وطالما لايقام فيها مهرجان أو مؤتمر علمي واحد ذو شأن؟ كيف وكيف؟ في مدينة بوينس أيرس الأرجنتينية وحدها يوجد أكثر من ثلاثمائة مسرح عامل! في بولندا يصدر سنويا أكثر من عشرين ألف عنوان جديد! وفي وارسو وحدها أكثر من ثلاثين مسرحا مهما، وفي مركز واحد من مراكزها التجارية توجد أكثر من خمس صالات عرض سينمائية، وثمة مئات المجلات والصحف الصادرة يوميا وأسبوعيا وشهريا ودوريا باللغة البولندية. قس على ذلك فيما يتعلق ببلدان أوروبا وأمريكا، ببلدان الشرق والغرب. إذن فأهمية المكان تنشأ بفعل تراكم كمي ونوعي لزخم نشاطات متنوعة على كافة الأصعدة.
لا يمكن للمكان أن يكون ساحرا بدون عقل وروح، بدون استقرار نسبي، ونشاط محموم: ذهني وروحي. أنمتلك مثل هذه الشروط، مثل هذه البنية التحتية، مثل هذا الزخم، مثل هذا الاندفاع، مثل هذه الطاقات/ مثل هذه الدينامية/ مثل هذه العقلية المتفتحة المرنة؟

منذ سنوات طويلة ونحن نعيش في البلدان العربية في ظل ثقافة الفولكلور، وثقافة الماضي.
ذاكرة الماضي بمثابة صخرة سيزيف، وإن كان سيزيف يدفعها بيديه إلى أعلى فإنها صخرة مشدودة بأرجلنا تشدنا إلى الهاوية. كم كان هذا الماضي عظيما، كم نبدو الآن في ظله تافهين.

الحلقة الأولى: أمجد ناصر/ د. مالك المطلبي/ صالح كاظم وحسن ولد المختار

الحلقة الثانية: ياسين طه حافظ، أحمد عيد مراد ومحمد صوف

الحلقة الثالثة: شربل بعيني، أحمد أبو مطر وأمير الدراجي