على الرغم من أنّ مصطلح الليبيرالية يعني الحرية المطلقة في المجالين السياسي و الإقتصادي، إلى درجة أنّ منظرّي هذا المذهب الليبيرالي في الغرب يؤكدّون على ضرورة القبول بأفكار الغير وأفعاله حتى لو كانت متعارضة مع منطلقات الفكر الليبيرالي، وبناءا عليه فالنظام السياسي الليبيرالي هو القائم على التعددية الفكرية والإيديولوجية والحزبية والحركية وما إلى ذلك، إلاّ أنّ هذه المنطلقات الإيديولوجية والنظرية والتي صيغت في واقع غربي و بعقول غربية لا تمّت بصلّة لا من قريب أو بعيد إلى الليبيراليين العرب الذين لا علاقة لهم بالمنطلقات التي جئنا على ذكرها والذين يطالبون بإستئصال كل القوى والتيارات التي لا تتماشى مع رؤاهم والتي هي عبارة عن خليط من الحرية الغربية والعبثية العربية والإلحاد السوفياتي وأفكار آدم سميث ومنهج هيغل وطروحات دور كايم.
و بمعنى أوضح فإنّ الليبيرالية العربية لا علاقة لها بالحرية لا من قبيل أو من بعيد، صحيح أنّ أصحاب هذا النهج يطالبون بتعزيز مبدأ الحرية في الوطن العربي، لكن ليس الحرية التي تتيح للأفكار أن تتبارى وتتصارع في إطار التنافس الحضاري، فهم يريدون لهذه الحرية أن تكون منطلقا لتدمير الموروث الحضاري لهذه الأمة ونسف الإسلام ومكوناته وضرب اللغة العربية في الصميم.
وكل الذين ينظرّون لليبيرالية الجديدة في الخارطة العربية قدموا من مدارس يسارية ومغايرة تماما لما هم عليه الآن، و علماء النفس الإجتماعي يقرّون أنّ الإنسان عندما ينتقل من مذهب فكري وإلى آخر، وعندما يتحوّل إلى إعتناق فكرة جديدة أو مذهب جديد أو دين جديد فإنّه يتحمّس لهذا الدين الجديد أو الفكرة الجديدة ويقدسّها ويتعصبّ لها ويزايد عليها ويسقط عليها من مخزونه الفكري و ما تراكم في شعوره ولا شعوره من أفكار سالفة
وسابقة.
وموقف الليبيراليين الجدد من الدين أو الإسلام السياسي إذا صحّ التعبير نابع من رواسبهم اليسارية عندما كانوا يعتبرون كارل ماركس منقذا و لينين مرجعا، ويا ليتهم ناقشوا ظاهرة الإسلام السياسي مناقشة موضوعية هادئة بل راحوا يسقطون خلفيتهم الإيديولجية السابقة على الإسلام وأتباعه، علما أنّ الإسلام هو الذي جعلنا رقما في الخارطة الحضارية الكونية ماضيا، وهو الذي ساهم في تحرير البلدان المستعمرة و المحتلة و حال دون ذوبانها في إفرازات الحركات الكولونيالية راهنا..
و عندما يمعن الإنسان النظر في دعاة الليبيرالية والعلمانية مصداق لها يكتشف زيفا حقيقيا و بونا شاسعا بين منطلقات النظرية الليبيرالية في سياق تأسيسها الغربي وممارسات الليبيراليين العرب الموجودين في دائرة السلطة والنفوذ أو الموجودين في المعارضة.
ألم يطالب ليبيراليو الجزائر الدبابة الجزائرية بهدم المسجد في الجزائر وإلغاء الإنتخابات!
ألم يطالب ليبيراليو تونس نظامهم بمزيد من الإستئصال ضد الظلاميين وفتح السجون بدل الجامعات !
ألم يسكت العديد من الليبيراليين العرب عن النظم الوراثية التقليدية الشمولية، فيما جهروا بإسقاط هذا النظام أو ذاك مطبقين سياسة الكيل بمكيالين!
ألم يكن الليبيراليون العرب سندا لكثير من النظم الطاغوتية وبرروا لها تعذيب من كان يخالفهم الرأي والتوجّه الفكري!
ألم يكن الليبيراليون العرب الأدلاء الحقيقيين للدبابة الأمريكة والبريطانية وهي تتوجّه إلى مواقعنا الجغرافية لتدكدكها الواحدة تلو الأخرى!
ألم يبتعد هؤلاء الليبيراليون عن هموم الشارع العربي وا لإسلامي وإتهموه بالغوغائية والدوغمائية والظلامية و التشبث بعصور القرون الوسطى!
ألم يحللوا للأمريكي إغتصاب أرضنا ونسائنا، وأعتبروا أنّ أمريكا مع كل ذلك سمحت بفضح نفسها في سجن أبي غريب من خلال الأداة الديموقراطية!
ألم يعلنوا عن سئمهم و تقززهم و تضررهم من الإسلام كمنظومة فكرية وعقائدية ومن اللغة العربية كتراث يختزل تاريخ أمتنا في كل المجالات!
لماذا أخذ الليبيراليون العرب من الليبيرالية بعضها و رموا بعضها خلف ظهورهم، ولماذا غلفوها بثوب الإستئصال عندما عربوها و بدأوا يبشرون لها في العالم العربي!
هل الحرية في نظر الليبيراليين العرب هي أن نتهجم على المقدسات ونفرغ أمتنا من محتواها الروحي ونبقيها خاوية بدون رصيد يجعلها قادرة على مجابهة التحديات!
لماذا لا يدافع الليبيراليون العرب عن المظلومين كل المظلومين والمعذبين كل المعذبين في الخارطة العربية، فالحرية تقتضي أن يكون الإنسان حرا في كل توجهاته، وعندما يتعلق الأمر بحرية الإدلاء بالرأي فلا يجب أنّ ننطلق من الأدلجة، بل من قدسية الإنسان، فالحرية تقتضي أن ندافع عن الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن إنتمائه الفكري و المذهبي والإيديولوجي....
وبعد هذا وذاك، أين هو المشروع السياسي المتكامل لليبيراليين العرب الجدد، مشروعهم الوحدي هو تعريب أمريكا و جعلها سيدة الموقف في العالم العربي والإسلامي والتمكين لعولمتها ودباباتها حتى تصول وتجول في كل الشوارع العربية، ويطالبون أيضا بإحقاق مصالحة تاريخية بين العرب والصهاينة، وتحويل الفعل المقاوم إلى فعل مسالم، والدوس على كل البديهيات السائدة، لكن ليس ببديهيات جديدة من سنخ الجغرافيا العربية والإسلامية بل من سنخ مشارب مغايرة جملة وتفصيلا لمشاربنا الفكرية المعهودة.
ثمّ كيف يمكنهم أن يمكنوا لأنفسهم في الخارطة العربية وهم يسفهّون الشارع العربي والإسلامي ويعتبرونه غوغائيّا فيما المنطق السياسي يقضي بأنّ أي تيار لا يمكنه أن ينتصر دون أن يتسلل عبر هذه الشوارع العريضة، ألم يقل أحد زعماء الثورة الجزائرية العربي بن المهيدي:
ألقوا بالثورة إلى الشارع يلتقطها الناس..
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الحرية كلّ لا يتجزأ، والليبيراليون الجدد لم يأخذوا الحرية جملة بل أخذوها مفرقّا، فهم مع وأد الإسلاميين و إستئصالهم من جهة ومع فتح بيوت الدعاة و تحرير الشهوات من قيودها، هم ضد حصانة بلادنا ومع قدوم أمريكا إلى مواقعنا، هم ضد عقل أبي علي بن سينا لكن مع عقل هيغل، هذه ليست حرية على الإطلاق، فالحرّ هو الذي يدافع عن الإسلامي واليساري والوطني والقومي و الليبيرالي بدون تأطير الإنسان في قوالب فكرية...
والذي نجح فيه الليبيراليون بإمتياز هو نجاحهم في إستقدام الدبابة الأمريكية إلى بلادنا بحجة التمكين للحرية، لكن أين هي الحرية في الصومال وأفغانستان والعراق، هل حرية الليبيراليين الجدد هي غير حرية الشعوب المستضعفة.
أإلى هذا الحدّ هو الفارق بين الإستئصاليين الليبيراليين و الشعوب!
ثمّ كيف ينتصر مشروع فكري بدون قاعدة جماهيرية!