كان لمقال د. خالد شوكات quot;بورقيبة مجدد إسلاميquot; المنشور بتاريخ 2-10-2006 وقعا كبيرا على قراء موقع إيلاف، بدليل تعقيباتهم الكثيرة على الموضوع. و قد اثبت الكاتب بصفة مقنعة قدرة باني الحداثة التونسية على التجديد و الاجتهاد في الدين الإسلامي بما يتوافق مع احتياجات العصر و مقتضيات بناء الدولة الحديثة.
و حسنا فعل د. خالد شوكات بالرجوع للكتاب الصادر مؤخرا عن الكاتب و الإعلامي التونسي المعروف، لطفي حجي، بعنوان quot;بورقيبة و الإسلام: الزعامة و الإمامةquot; ، و الذي يمثل شهادة موثقة -و من داخل تونس- على إمامة بورقيبة في الإسلام و باقتدار، على اعتبارها إمامة مكملة لزعامته السياسية الفذة التي تعتبر استثناء في تاريخ العالم العربي الإسلامي الحديث. و نأمل تعميما للفائدة أن يعيد السيد لطفي حجي نشر كتابه القيم بدار الساقي أو دار الطليعة ببيروت. كما نأمل أن تقوم المواقع العربية والإسلامية التنويرية نشره على شبكة الإنترنت. فهذا العالم البائس -مسقط راس الأصولية والتيارات السلفية العقيمة- هو في اشد الحاجة اليوم للتعرف على حقيقة الاجتهادات البورقيبية الموفقة، التي انتشلت و بجرة قلم -يوم 13 أغسطس 1956 الأغر - تاريخ صدور مجلة الأحوال الشخصية التونسية- المرأة من حالة الدونية و الاستعباد، بالغاء فاجعة تعدد الزوجات وبتوفير الحماية الأزمة لها في حال الطلاق. ولهذا العمل أهمية خاصة عندما ندرك أن قوى التخلف والنكوص إلى الماضي، والحقد الدفين على المرأة و غير المسلم، قد اختزلت قراءة الإسلام في قراءة حرفية للنص المقدس، جعلته في تناقض مع مقتضيات العصر الحديث وقيمه الإنسانية التي استبطنها الضمير الإنساني الجماعي، في وثائق و معاهدات، في مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و باقي العهود الدولية ذات العلاقة.

ليس من باب الصدفة أن بدا د. خالد شوكات مقاله باجتهاد بورقيبة بخصوص إمكانية الإفطار في رمضان بكل ما في ذلك من صدمة للرأي العام التقليدي، الذي تنطبق عليهم مقولة quot;أنا وجدنا آباءنا على ملة و أنا على أثرهم لمقتدونquot;. جاء في المقال: quot;في شهر رمضان من سنة 1960، احدث الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة -رحمه الله- صدمة غير مسبوقة لدى الرأي العام، التونسي و العربي و الإسلامي، عندما اقدم على شرب كاس عصير أمام جمهور قاعة quot;البلماريومquot; في تونس العاصمة، مبيحا الإفطار لشعب يخوض الجهاد الأكبر ضد التخلفquot;. والحقيقة إن اجتهاد بورقيبة هنا و دعوته للعمال و طلبة العلم بجواز الإفطار جاء بناء على سابقة فتح مكة عندما أمر الرسول (ص) اتباعه بالافطار مطالبا إياهم quot;افطروا لتقووا على عدوكمquot;. وقال بورقيبة مخاطبا الشعب quot;و أنا أقول لكم افطروا لتقووا على عدوكم الذي هو التخلف، فمقاومة التخلف هي الجهاد الأكبرquot;.
و لعل الاجتهاد البورقيبي في عديد المجالات التي عادت بالخير العميم على الشعب التونسي هي التي تفسر الحقد الدفين لقوى السلفية والأصولية والتخلف. ولا بد من التذكير نما برفض مؤسس حركة النهضة الأصولية التونسية، راشد الغنوشي، لمجرد الترحم على موت الزعيم الحبيب بورقيبة يوم وفاة هذا الأخير عندما طالبه محمد كريشان بذلك على قناة الجزيرة، ورفض الغنوشي مدعيا أن دينه ينهاه عن ذلك، مما أثار غضبا كبيرا في الأوساط الشعبية التونسية التي استبطنت مقولة quot;اذكروا موتاكم بخيرquot;.
مع تقدم المجتمعات على طريق الحداثة، لا يمكن لعملية الاجتهاد التونسية أن تتوقف. لذا أود الإشارة إلى المقال الذي نشره المفكر الإسلامي يوسف الصديق، في الأول من رمضان المبارك لهذه السنة، بصحيفة quot;لوموندquot; الفرنسية، طالب فيه بجواز الفطر عملا بالآية الكريمة quot; و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير لهquot; (البقرة 484). فهذه الآية قائمة و لا يوجد دليل مقنع عن نسخها. و الجدير بالذكر هنا الكم الهائل من التناقضات بخصوص النسخ في القران، بما فيه من ينكر وجود ذلك المبدأ أصلا. لذلك ينقل ابن جرير الطبري عن عكرمة و الحسن روايتيهما quot; فمن شاء منكم أن يصوم صام، و من شاء منكم أن يفتدي بطعام مسكين افتدى و تم له صومهquot;. كما ينقل الطبري عن ابن طاوس قوله quot;فمن تطوع خيرا فهو خير لهquot;، أي ما معناه و بصريح العبارة quot;إذا زاد المفطر المطيق للصيام في مقدار الفدية من نصف صاع حبوبا إلى صاع كامل و من مسكين واحد إلى مساكين عدة فهو خير لهquot;.

تكمن أهمية الاجتهاد اليوم في مسالة جواز الإفطار في رمضان في وجود عدة عوامل، مثل الفقر، وانفتاح الشباب على العولمة ووجود اقليات إسلامية هامة تعمل بالخارج قد تفرض عليها ظروف العمل و الدراسة الإفطار.

كما هو معروف، يعيش اكثر من نصف المسلمين اليوم تحت خط الفقر في الدول ذات الكثافة السكانية المرتفعة مثل باكستان، بنغلادش و إندونيسيا، بالإضافة لمسلمي أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تبلغ نسبة الفقراء الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم 4،13 % بباكستان، 36% ببنغلادش، 15.7 % باليمن، 25% بموريتانيا، و 7.5 % بإندونيسيا. و يسري هذا على الأطفال الذين يتضورون جوعا حيث تبلغ نسبة الأطفال دون الوزن السوي لأعمارهم 26% بإندونيسيا، 38% بباكستان، 48% ببنغلادش، و 48 % بالسودان...(المصدر: تقرير التنمية البشرية للعام 2005). أليس من الأفضل في هذه الحالة أن يقوم القادرون ماديا من المسلمين على دفع فدية للجمعيات الخيرية لمقاومة المجاعة، أو للصندوق العالمي للتضامن التابع للامم المتحدة، أو لسكان قطاع غزة المنكوب، حيث يقتات البعض من المز ابل؟ أليس من الأفضل توجيه هكذا أموال لــquot;صندوق الفدية العالمي لاطعام الجياعquot; ، الذي بإمكانه أن يساعد المؤسسات الرائدة و في مقدمتها quot;مؤسسة بيل و ليندا جايتس الخيريةquot; التي تعمل جاهدة لمقاومة الأمراض المزمنة عند فقراء اسيا و إفريقيا، بأموال مؤسس عملاق برمجيات الكمبيوتر العالمي بيل جايتس؟
تكمن أهمية هكذا اجتهاد في التحديات الجديدة التي تفرضها العولمة. ففي جمهورية إيران quot;الإسلاميةquot; ، على سبيل المثال، قفزت نسبة المفطرين في رمضان من 15% سنة اندلاع الثورة في 1979لى 98% سنة 2004 حسب الإحصائيات الرسمية المصرح بها! و إذا كان الآمر كذلك، أليس من الأفضل دعوة هؤلاء المفطرين -في كل الأحوال- لدفع الفدية دعما للفقراء؟
كما توجد مشاكل كبرى للمسلمين المقيمين في الخارج الذين لهم التزامات للدراسة و العمل قد تفرض عليهم صعوبات في الصيام اكبر بكثير من الصعوبات التي كان يتعرض لها المسافر في الجزيرة العربية أيام نزول القران و التي احل الإفطار على أساسها.

في هذا المجال، كتب مؤخرا الاستاذ شوقي أمين مراسلة من باريس يصف فيها المتاعب الناتجة عن الصيام للتلامذة المسلمين في المدارس الفرنسية جاء فيها: quot;اصبح شهر رمضان يمثل معضلة حقيقية لمسئولي المدارس و حتى وزارة التربية، و كذلك الأساتذة و المدرسين الذين باتوا يشتكون من قلة تركيز بعض تلامذتهم في الأقسام (الفصول المدرسية) بسبب الصيام إلى جانب غياباتهم المتكررة. صدر في تقرير سنة 2004 عن المفتش العام للتربية الوطنية أوضح بشكل صريح أن شهر الصيام مناسبة تثير التوتر في المدارس الفرنسية، مبينا أن الاساتذة يشتكون من التعب الكبير و الإرهاق الذي يطال التلامذة المسلمين بسبب الصيام إلى درجة انه يضطرهم إلى النوم في قاعات المكتبات أو قاعات الاستراحة. كما عبرت نقابات التعليم عن قلقها من تفاقم حالات الإغماء الكثيرة التي عادة ما تطال الفتيات الصائمات فضلا عن غياب التركيز و إهمال الدروس (صحيفة القدس العربي، 13-10-2006).
والحقيقة أن هذه المتاعب التي يسببها الصيام للتلامذة و الطلبة في فرنسا ما هي إلا غيض من فيض مما يحصل في العالم العربي و الإسلامي. لقد سبق لحسنين هيكل ان كتب في الأهرام سنة 1969 أن شهر رمضان يكلف مصر 100 مليون ساعة عمل، حيث تنهار الإنتاجية و الانتفاج فيما يزداد الاستهلاك و التبذير. و حسبنا أن كل هذا يصب في المحصلة النهائية في صالح الاجتهاد البورقيبي بجواز عدم الصيام للضرورات التنموية و العلمية و الاقتصادية، و ذلك عملا بالقاعدة الفقهية القائلة quot;الضرورات تبيح المحضوراتquot; ، حيث لا ضرورة اكثر إلحاحا في عالم اليوم من التنمية و متطلباتها.

بالإضافة لما سبق، هناك فوائد صحية هامة في استبدال الصيام بالفدية. فمن الثابت علميا انه على الإنسان في المناطق الباردة أن يشرب كاس ماء كل نصف ساعة للوقاية من أمراض قاتلة مثل كسل الكلى و سرطان البروستاتة. و يتضاعف هذا إلى كاسي ماء كل نصف ساعة في المناطق و الفصول الحارة (حالة معظم المسلمين اليوم)، مما يعني أن عديد المرضى في العالم العربي الإسلامي يلقون بأنفسهم في التهلكة عندما يصومون عن شرب الماء ساعات طويلة.

وحيث أن الإسلام دين يسر لا عسر كما ورد في حديث شريف، أهيب بالمجتهدين من المسلمين بالعمل على تطبيق آية سورة البقرة آنفة الذكر مساعدة للفقراء و رحمة للعالمين، و رفقا بصحتهم و باقتصادهم القومي الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة إلا بدعم الإنتاج و الإنتاجية، في ضل منافسة عالمية لا ترحم. وشكرا للدكتور خالد شوكات الذي أتاح لنا هذه الفرصة الثمينة للنقاش. وشكرا لايلاف التي كسرت قلم الرقيب إلى الأبد، ولن تقوم له قائمة بعد اليوم. و كل عام و الجميع بخير.
[email protected]