مع محمّد بن الحنفية
تروي بعض المصادر أنَّ حواراً دار بين سيد الشهداء الحسين ومحمّد بن الحنفية، وإنّ أخاه نصحه بعدم الخروج الى مكّة وإلاّ عليه ان يختار اليمن 31 ــ الطبري 6 /261 طبع دار الفكر ــ ولم ترد في المصادر الموثوقة أيّ إشارة الى الكوفة في هذا الحوار، نعم، هناك حوار أخر جرى بينهما في مكّة، حيث كان رأي محمّد بن الحنفية سلبيِّاً في قرار الحسين كما سنرى، ويروى أن الحسين كتب رسالتين الى محمّد بن الحنفيِّة قبل ان يبارح المدينة الى مكّة.

الرسالة الأُولى
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بإبن الحنفية، أن الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله... وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي اليك، وما توفيقي إلاّ بالله وإليه أنيب) 32 ــ الفتوح 5 23 ــ هذا ما أورده صاحب الفتوح أي أعثم الكوفي، وذكره إبن شهراشوب في المناقب، والخوارزمي في مقتله وغيرها مع حذف (وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين )، فصاحب الفتوح هو المصدر الأول للروية، ولكنّها بدون سند!!
الغريب أنّ هذه الرسالة على أهميتها لم ترد في المصادر التاريخية المعتبرة، كالطبري والمسعودي وا لكامل والأخبارالطوال وأنساب الأشراف والأمامة والسياسة والمحبّر وإبن خياط وإبن عساكر والكامل والبداية والنهاية والأرشاد للشيخ المفيد وغيرها من الأسفار التاريخية المهمّة، ومن الصعب جداً أن يهملها رواة الثورة الحسينية، وهي رسالة تنطوي على أهمية بالغة. وفي الحقيقة سواء كانت هذه الرسالة موثقة أم ليست موثقة، فأن رسالة الحسين كانت الإصلاح، إصلاح هذه الأمة التي سلمت قيادها طوعا أو كرها للطاغية يزيد.

الرسالة الثانية
في بصائر الدرجات (أيوب بن نوح، عن صفوان، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: ذكرنا خروج الحسين عليه السلام وتخلّف محمّد بن الحنفية، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا حمزة إنّي سأخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا، إنّ الحسين عليه السلام لمّا فتل متوجّها، دعا بقرطاس وكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسين بن عليه بن أبي طالب إلى بني هاشم، أمّا بعد: فإنّ منْ لحق بي منكم أُستشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام)33 ــ المصدر 481 ح 5 والخرائج والجرئح 2 /771 ــ
في السند: حمزة بن حمران لم يوثّق، وقد وثّقه بعضهم لرواية (صفوان) عنه، وذلك أحد المعايير المرتبكة في التوثيق 34 ـ المعجم 6 / 266 ــ ومروان بن إسماعيل له ترجمة في الكتب الرجالية، كما انَّ هناك إختلافاً في مصادر الرواية حول ظرفها الزماني والمكاني، فبعضها يقول: كان ذلك لمّا توجّه من المدينة ا لى مكّة، وأخرى تدّعي أن ذلك كان عندما تحرّك من مكّة إلى العراق ـ 30ا لدوافع الذاتية لإنصار الحسين ص 135 الهامش ــ فضلاً عن عدم تعرّض المصادر المهمة للرسالة ا لمذكورة.
ولكن كتاب (بصائر الدرجات) للصفار لم يصل إلى المجلسي بطريق معتبر، بل (وجادة)، وهذه مشكلة كبيرة ليس بالنسبة لهذه الرواية بل بالنسبة للكتاب كله، ولي قراءة مطولة عن كتاب (بصائر الدرجات) سأنشرها في الوقت المناسب أن شاء الله.على أن الغريب حقا أن محمد بن الحنفية ولا ولديه لم يلتحقوا بسيد الشهداء!!!

ورواية أخرى مشكوكة
وفي كامل الزيارات (حدّثني أبي وجماعة من مشايخي عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف، عن محمّد بن يحي المعاذي، قال: حدّثني الحسين بن موسى الأصم، عن عمرو بن شمر الجعفي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن محمّد بن علي قال: لمّا همَّ الحسين بن علي عليه السلام بالشخوص عن المدينة أقبلت نساء عبد المطلب، فاجتمعن للنياحة ، حتّى مشى فيهن الحسين عليه السلام، فقال: انشدكن الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ورسوله) وتستمر الرواية فتتحدّث عن مجيء عمّته أم هانئ وتروي عن سماعها للهاتف يقول:
وأن قتيل الطف من آل هاشم أذلَّ رقاباً من قريش فذلّت
حبيب رسول الله لم يكن فاحشاً أبانت مصيبته الأنوف وخلّت
ويتدخل الحسين عليه السلام ليصحِّح بعض المفاهيم التي جرت على لسان أم هانيئ... وتُختَم الرواية برثائية لاُم هانيء بحق الحسين ومصيره المحتوم.
في السند: عمرو بن شمر الجعفي، من أشدّ المغالين المشهورين بالضعف والوضع، كذلك الحسن بن موسى الأصم، فهو مسكوت عنه 35ــ معجم الرجال 6 / 98 ــ
الرواية تنطلق من إستباق غيبي لإستشهاد الحسين عليه السلام، فهي مصنوعة من أجل توكيد وتجذير هدف قبْلي سابق.

تقييم مشكوك
ويروي إبن عساكر (... وأتاه أبو بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام فنصحه وحذّره الخروج وذكّره بغدر أهل العراق، فشكره الحسين وقال له: مهما يقضي الله من أمر يكن...) 36 ــالمصدر 4 / 333 ــ
والذي أراه انّ هذه النصيحة أنْ صحّتْ ففي مكّة وليس في المدينة، لانّه لم توجد أي علامة أو إشارة تكشف عن وجود رغبة أو نيّة لدى الحسين عليه السلام في التوجّه الى العراق، على انّ تقييم عبد الرحمن هذا للعراقيين محل نظر، لانّ الرجل كان من فرسان الجمل، يحمل ذكريات سلبية مرّة عن أهل الكوفة، وكان من المقرّبين جداً لعائشة رضي الله عنها، وأنها قالت: (لئن أكون قعدت عن مسيري الى البصرة من أن يكون لي عشرة أولاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الرحمن بن حارث...) 37ــ طبقات إبن سعد 5 / 6 والمنتظم لابن الجوزي 5 / 88 ــ

وتقييم آخر مشكوك!
يروي ابن عساكر أيضاً أن المسوّر بن مخرمة كتب الى الحسين (أياك أن تغترّ بكتب أهل العراق ويقول لك إبن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك، وأياك أن تبرح الحرم، فأنهم أن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك أباط لإبل، حتى يوافوك فتخرج في قوّة وعدة، فجزاه خيرا، وقال: أستخير الله في ذلك) 38 ـ المصدر 4 /332 ــ
ورواية إبن سعد التي أخذها إبن عساكر هنا، وإنْ كانت توحي انّ هذا الأمر قد حصل في المدينة إلاّ انّ لحن الرواية يفيد انَّ ذلك إنّما كان في مكّة، وأن المسوّر بن مخرمة لابد وإنّه علم بنيِّة الحسين على الخروج من مكّة الى العراق، ومهما يكن من أمر فأنّ تقييم المسوّر للكوفيين هو الآخر محل نظر، لأنَّ الرجل كان من الوافدين على معاوية بن أبي سفيان بل أذا سمع أسم معاوية (يصلي عليه)39 ــ سير أعلام النبلاء 3 / 392 ــ
وهو المسؤول عن تلكم الرواية التي تدّعي أنّ عليَّاً عليه السلام أراد ان يخطب بنت أبي جهل، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على علي وهاجه أمام المسلمين 40 ــ نفس المصدر 3 /392 ــ وعليه فإنّ ضمير المسور هذا مملوء أو مشحون سلبيّا ضد أهل الكوفة، ومن الغريب أنَّ المسوّر بالوقت الذي يحذّر فيه الحسين من الإصغاء لابن الزبير كان يعيش في كنف عبد الله بن الزبير في الحجاز، بل كان أحد مرتكزاته السياسية، ومراجعه المهمةrsquo; في إتخاذ مواقفه فـ (عن عطاء بن يزيد قال: كان إبن الزبير لا يقطع رأياً دون المسوّر بمكّة) 41 ــ نفس المصدر 3 /393 ــ ويُقال أنّه هو الذي صلّى على عثمان بن عفان 42 ــ تاريخ الخليفة إبن خياط ص 105 ــ
لا استبعد ان هذه الروايات التي تنطوي على تحذير بعض الشخصيات المهمة الحسين من الخروج الى الكوفة مصطنعة للدفاع عن هذه الشخصيات بالذات ، وذلك بغية تحقيق اكثر من هدف، الاوّل هو تبرير تقاعس هذه ا لشخصيات عن نصرة أمامنا الشهيد الحسين، فهم كانوا عارفين بالنتيجة، وهم قد حذّروه من الخروج الى الكوفة لما يمتلكون من خبرة سياسية عن الوضع هناك، وبهذه الطريقة لم يعد هناك مجال لاتخاذ اي موقف ناقد تجاههم،بل العكس هو الصحيح، فإن مجال لوم الحسين عليه السلام ـ في المنطق السياسي العادي، ومنطق الناس آنذاك ــ هنا وارد، لا ن عليّة القوم من ذوي الحصافة السياسية والخبرة باوضاع المجتمع آنذاك كانوا قد كشفوا له عن الحقيقة، ولكن الحسين لم يسمع نصيحة القوم، فهو الذي يتحمّل نتيجة إصراره وعدم سماعه لهذه النصائح التي ادلى بها عبد الله بن عمر والمسور وعبد الله بن المطيع وغيرهم! خاصّة أن تحذيراتهم إنطلقت من واقع كانوا يصرون على توضيحه كاملا، وقد اسدوه صراحة وبلا مواربة، فهل تبقى فرصة لادانة هؤلاء المتخلفين عن النصرة ؟
أنّ تقييمات هؤلاء لأهل الكوفة ــ إنْ صحّت ــ تنبع من ذكريات مرّة لهم مع علي بن أبي طالب ومن ثمّ مع أهل الكوفة تبعاً ، وقد توارث الناس هذه التقييمات بالنقل الأعمى خاصّة على لسان قراء المنبر الحسيني، فتحوّلت إلى شبه عقيدة سارية مع الأيام، وليس من شك كانت هناك محاولات جادّة لتشويه سمعة وتاريخ الكوفيين، وذلك إمعاناً بالحقد على علي بن أبي طالب من طرف خفي، فالمقصود هو الرمز قبل كل شي. وسوف نتعرض إلى مسؤولية دم الكوفيين عن الدم الحسيني بالتفاصيل، ولا حول ولا قوة ألا بالله.

يتبع

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة