نعرف من تاريخ العلم، أن معظم الاكتشافات العلمية والجغرافية تمت عن طريق الصدفة وليس التخطيط المسبق. وكذلك التاريخ يسير في اتجاه غير ما خطط له من يسمونهم بquot;صناع التاريخquot;. فالتطور الاجتماعي والتاريخي غالباً ما يتجه خارج وعي الإنسان وإرادته، ونتائجه تختلف كلياً عن رغبات وتمنيات القادة السياسيين. هذا ما أكده كل من هيغل وتلميذه ماركس، ولكنهما اختلفا في القوى الخفية المحركة لعجلة التاريخ واتجاهه. الأول يعزيها إلى quot;الفكرة المطلقةquot; وquot;الروح الشاملةquot;، والثاني إلى القوى المادية المنتجة للاقتصاد.

ومن هذه الاكتشافات التي تمت عن طريق الصدفة، هو علاج بعض الأمراض العقلية بالصدمة الكهربائية (ECT). وهناك عدة روايات حول هذا الاكتشاف، أذكر واحدة منها لطرافتها وهي غير موثقة. إذ تقول الرواية (والعهدة على الراوي!)، أن أحد المجانين هرب من مستشفى الأمراض العقلية، فركض وراءه الحراس للقبض عليه. فراح يركض إلى أن رأى عموداً كهربائياً فتسلقه إلى قمته، ومسك بالأسلاك الكهربائية فتكهرب وسقط على الأرض مغشياً عليه. والغريب أنه عندما أفاق، كان قد شفى من جنونه، وتصرف كأي إنسان عاقل. على أي حال، ومهما كانت الصدف في اكتشاف العلاج بالصدمة الكهربائية، فهي الآن من الوسائل الناجعة لعلاج بعض الأمراض العقلية والتي يستخدمها الأطباء إلى الآن!

وبمثل ما تعالج بعض الأمراض العقلية بالصدمة الكهربائية وتعطي نتائج جيدة، كذلك على مستوى الشعوب المتخلفة والغارقة في سبات عميق من الجهل والتخلف، مثل شعوبنا العربية، يمكن علاجها بالصدمات. فهذه الشعوب تصرف معظم وقتها تحلم بأمجاد السلف والعهود الغابرة، ترفض الصحوة لكي لا تنهي هذا الحلم الجميل، ولكي تتجنب مواجهة الحاضر البائس التعيس. وهي أيضاً لا يمكن إيقاظها من سباتها العميق إلا بالصدمات المتكررة التي تأتيها على شكل حروب واحتلال واستعمار وكوارث وهزائم.

أجل أن العرب غارقون في سبات عميق، وليس في العالم شعب آخر في حالة انفصام عن الواقع الحاضر ومتعلق بالماضي مثل العرب. لذلك نراهم من أكثر الشعوب اجتراراً للماضي وتعلقاً به وتقديساً له إلى حد العبادة، وممانعة للحداثة ومقاومة للتقدم والحضارة العالمية ورفض الاندماج بالعالم الحر المتحضر. وهذا الموقف المتشدد في رفض التعايش مع العالم بسلام، ناتج عن ثقافتهم البدوية الموروثة والمتأصلة بهم وموضع افتخارهم. فالبداوة نقيض العمران (الحضارة) كما أكد ابن خلدون. وكما قال المؤرخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي أن quot; البداوة حضارة جامدةquot;. وهذا يعني، لو ترك العرب على حالهم بدون تدخل أجنبي، لبقوا متخلفين إلى الأبد. إن سبب تعصب العرب لتقاليدهم وأعرافهم ورفضهم للآخر المختلف، هو انغلاقهم على أنفسهم في عزلة عن العالم حيث كانوا يعيشون في الصحراء العربية على شكل قبائل متناحرة. وكلما توغلت أية مجموعة بشرية في العزلة تعلقت أكثر فأكثر بموروثها الاجتماعي وتعصبت له وازدادت عداءً ورفضاً لثقافات الشعوب الأخرى والتعايش معها.

فالتقدم الذي حصل للعرب في فجر الإسلام كان ثمرة التلاقح الحضاري الذي حصل نتيجة خروج القبائل العربية من عزلتها في الصحراء واختلاطهم مع الأقوام الأخرى من خلال الفتوحات العربية- الإسلامية، ونشر الإسلام خارج الجزيرة العربية، وقيام الدولة الإسلامية. فالمعروف عن معاوية بن أبي سفيان أنه اعتمد على المسيحيين من بقايا الامبراطورية الرومانية في بناء مؤسسات الدولة الأموية وتنظيم دواوينها وإدارة شؤونها، إذ لم يكن للعرب معرفة بهذه الأمور. كذلك معظم الفقهاء والعلماء والفلاسفة الذين برزوا في عهد الحكم العباسي وساهموا في بناء الحضارة الإسلامية هم من غير العرب، إذ ينتمون إلى أقوام أخرى وخاصة من الفرس وآسيا الوسطى، مثل سيبوية ونفطوية وخمرويه، والفارابي، وابن سينا، والرازي، والبخاري، وبن المقفع، والخوارزمي وآلاف غيرهم. وهذا الكلام يؤكده العلامة أحمد أمين، في سفره القيم، فجر الإسلام وضحى الإسلام، وظهر الإسلام...الخ، إذ يؤكد أن العرب ومن خلال فتوحاتهم كسبوا الحضارة و كل شيء من الأقوام التي أخضعوها لحكمهم ونقلوا إلى العالم شيئين فقط: اللغة العربية والدين الإسلامي.

وبعد أن حقق العرب تقدماً ملحوظاً وقطعوا شوطاً كبيراً في التحضر والذي بلغ عصره الذهبي في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، بدأوا في أفول تدريجي إلى أن حصلت لهم كارثة عندما غزتهم بداوة من نوع همجي جديد على أيدي المغول بقيادة هولاكو، فدمروا الحضارة العربية- الإسلامية. ومن ثم جاء الاستعمار العثماني المتخلف ليقضي على آخر ما تبقى من هذه الحضارة وأعاد العرب إلى البداوة ثانية حيث السبات العميق نحو خمسة قرون من الجهل والتخلف.

بدأت النهضة الحديثة بالصدمة الأولى في إيقاظ العرب من سباتهم العميق والتي جاءت من الاحتلال الفرنسي لمصر بقيادة نابليون عام 1798، والذي أدخل مبادئ الحضارة الأوربية فيها والتي تعتبر اللبنة الأولى للنهضة الحديثة في مصر، ومنها انتشر نور الحضارة الغربية إلى بقية البلاد العربية. فأول مطبعة أدخلت في الشرق الأوسط هي (مطبعة بولاق) في مصر. والجدير بالذكر أن هذه المطبعة، وكأي شيء جديد، وكالعادة، قاومها رجال الدين، معترضين على استخدامها في طباعة القرآن الكريم، بحجة أن الحروف المعدنية تدنس كلام الله!! كذلك اعترض رجال الدين على مد أنابيب إسالة الماء في القاهرة في عهد المصلح الكبير محمد علي باشا، حيث هاج وماج رجال الدين من الشوافع مدعين أن أنابيب إسالة الماء بدعة وكل بدعة ضلالة يذهب صاحبها إلى النار والعياذ بالله! فاضطر الباشا أن يستشير رجل ديني آخر من المذهب الحنفي والذي أفتى بجواز هذه الأنابيب. ومن هنا جاءت تسمية صنابير الماء ب-(الحنفية)، والله أعلم!!

ثم جاءت الصدمة العلاجية الثانية خلال الحرب العالمية الأولى التي حررت البلاد العربية من الاستعمار العثماني، حيث أعطت النهضة الحديثة زخماً جديداً على أيدي الحلفاء، بريطانيا وفرنسا، ولو على شكل استعمار. ولكن هذا الاستعمار، وكما يقول الراحل التنويري سلامة موسى، يحمل ترياقه معه، ألا وهو النهضة وإيقاظ الشعوب المستعمرة من غفوتها وذلك بنشر الحضارة الغربية والثقافة وغرس وتنبيه المشاعر الوطنية والقومية في الشعوب المستعمرة.

ففي العراق، واجه الاحتلال البريطاني عام 1914، حرب الجهاد، لا بدوافع المشاعر الوطنية أو القومية، لأن هذه المشاعر لم تكن موجودة بعد، بل بدوافع دينية وذلك دفاعاً عن دولة الخلافة الإسلامية المتمثلة بالإمبراطورية العثمانية. ويا للمفارقة، فالذين أعلنوا حرب الجهاد على الإنكليز في العراق، هم رجال الدين الشيعة الذين قادوا أبناء طائفتهم في ما سمي بحرب الجهاد ضد quot;الكفارquot;. والغريب في الأمر أن الشيعة كانوا من أكثر المستفيدين بتحرير العراق من الإستعمار العثماني، لأن دولة الخلافة الإسلامية العثمانية كانت لا تعترف بالمذهب الشيعي، بل اعتبرتهم مشركين وقتلهم يدخل الجنة، ذات الفكرة التي يتبناها السلفيون المتشددون والتكفيريون من أتباع منظمة القاعدة الإرهابية بقيادة بن لادن والزرقاوي اليوم. على أي حال، انتصر الإنكليز ودخلوا العراق وكانوا سبباً لنهضته وتأسيس دولته الحديثة بحدوده الحالية.

وأما باقي الدول العربية، فهي الأخرى لم تفق من سباتها إلا بعد صدمات متكررة من الاحتلال الأوربي. كذلك الهزائم بسبب الصراع العربي-الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى الآن. وكالعادة، البشر لا يلجؤون إلى الحلول الصائبة إلا بعد أن يستنفدوا جميع الحلول الخاطئة. فقد رفض العرب الحلول الصحيحة الممكنة لحل الصراع العربي-الإسرائيلي مثل قرارات الأمم المتحدة حول التقسيم وقيام دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، تتعايشان بسلام. فأصروا على التحرير الكامل من النهر إلى البحر وإلقاء إسرائيل في البحر لتأكلها الأسماك!! وكانت نتيجة هذه السياسة الديماغوجية الانتحارية أن الفلسطينيين ومن ثم العراقيين هم الذين صاروا طعاماً لأسماك وقرش البحار. وهذا الموقف المتشدد أدى بهم إلى هزائم تلو الهزائم والتي كانت أشدها إذلالاً هي هزيمة حرب حزيران عام 1967 وما تلاها من حروب كارثية. وهذه الصدمات أدت بالتالي إلى إيقاظ الرئيس الراحل أنور السادات كأول زعيم عربي يعترف بالأمر الواقع ويعتمد الحل الصائب، فقبل بحل واقعي سلمي، حيث وقع على اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، والتي بموجبها استرجع جميع أراضيه المحتلة ووفر على شعبه المزيد من الدمار الشامل.

ونتيجة لاتفاقية كامب ديفيد، ثارت ثائرة العرب المتمسكين بإصرار عجيب بالعنجهية البدوية، فحكموا على طرد مصر السادات من الجامعة العربية، فأجابهم بقوله الصريح، أنه استرجع جميع أراضيه المحتلة بدون قطرة دم . وإذا لم تعجبهم هذه الطريقة، فليسترجعوا هم أراضيهم المحتلة بالطريقة التي تناسبهم. ومنذ ذلك الوقت، أي نحو 28 عاماً لم تستطع تلك الحكومات الرافضة لنهج السادات تحرير أراضيها، بل دفعت شعوبها المزيد من الدماء والخسائر في الممتلكات. ثم تتالت الصدمات على شكل حروب عبثية شنها البلطجي وابن شوارع، صدام حسين على إيران ثم احتلاله للكويت، وما شنته قوات التحالف بقيادة أمريكا لتحرير الكويت من الاحتلال البعثي الصدامي الغاشم عام 1991، ومن ثم حرب تحرير العراق نفسه من هذا النظام الفاشي البغيض عام 2003.

ومما تقدم، نفهم أنه لا يمكن إيقاظ الشعوب العربية من غفوتها العميقة التي طالت نحو ثمانية قرون، إلا بالصدمات والضربات عن طريق الاحتلال الأوربي، أي العلاج بالصدمة الكهربائية. وآخر هذه الصدمات كانت حرب تحرير العراق، كما ذكرنا، والتي شنتها قوات التحالف الغربي بقيادة أمريكا لإسقاط النظام البدوي الهمجي المتخلف المتمثل بحكم البعث الصدامي. وحتى في هذه الحالة وإلى الآن، نرى الأعراب مازالوا لم يصحوا بعد من غفوتهم بشكل كامل، فمازالوا يمجدون نظام القتلة والمقابر الجماعية ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة، مفضلين هكذا نظام جائر على النظام الديمقراطي. وهذه المقاومة هي الأخرى نابعة من التقاليد والأعراف البدوية الرافضة للتقدم والحداثة والعصرنة. فالأعراب مشدودين بالماضي ويعيشون فيه ويعبدون السلف الصالح كما مر ذكره.

ولهذه الأسباب، يقاوم العرب محاولات أمريكا لنشر الديمقراطية في المنطقة ويبذلون قصارى جهودهم لإلحاق الهزيمة بالمشروع الأمريكي وذلك عن طريق حرق العراق. وعذرهم هو أن أمريكا لم تسقط حكم البعث في العراق ونشر الديمقراطية في المنطقة من أجل سواد عيون العراقيين، بل لمصالحها الخاصة وعلى رأسها هي أمنها، وأمن إسرائيل والسيطرة على نفط العراق. وقد ذكرنا مراراً وتكراراً كما ذكر غيرنا من الكتاب الليبراليين، أننا نعرف هذه الحقيقة ولسنا سذجاً لننكرها. ولكن هكذا كانت دائماً وأبداً تعمل قوانين التطور وحركة التاريخ. فالمصالح هي الدافع الأساسي لتحريك عجلة التاريخ. والسياسية لا تعرف غير المصالح. لذلك علينا أن ننتهز هذه الفرصة الذهبية حيث التقت خلالها مصلحة شعبنا مع مصلحة أمريكا وحلفائها.

نعم، أمريكا لم تسقط نظام صدام حسين ولا تريد إقامة نظام ديمقراطي في العراق لسواد عيوننا، بل لأنها وصلت إلى قناعة تامة بأن في عصر العولمة، حيث العالم أصبح قرية كونية صغيرة وبعد كارثة 11 سبتمبر 2001، لا يمكن أن يعيش العالم المتحضر بسلام ما لم يتم القضاء على التخلف والاستبداد وبؤر العنف والإرهاب والتوتر في كل مكان. ولأن هذا الإرهاب الذي يهدد أمن العالم، يترعرع ويتكاثر في الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية جائرة مثل النظام البعثي الصدامي في العراق والنظام البعثي في سوريا والفاشية الإسلامية في أفغانستان وإيران، وتصل شروره إلى الدول الغربية، كما حصل في يوم 11 سبتمبر 2001 وما تلاه من أعمال إرهابية في الدول الأوربية. لذلك توصلت الحكومات الغربية إلى قناعة تامة أنه لا يمكن لهذا العالم أن يعيش بسلام إلا بالقضاء على الأنظمة الفاشية المارقة والراعية للإرهاب، وإقامة البديل الديمقراطي في هذه البلدان. وباختصار، أن أمريكا وحلفائها يعملون على إخراج منطقتنا من التخلف والجهل وحكم البداوة والاستبداد، لا هياماً بسواد عيوننا، بل لكي يتخلصوا هم، ويحموا شعوبهم من شرورنا. ونحن نؤيد هذه السياسة بقوة لأنها تتفق مع مصلحة شعوبنا أيضاً.