يعالج هذا المقال قرار الولايات المتحدة المحتمل بتوجيه ضربة لايران على خلفية المفاعل النووي الإيراني، لتخمين كيفية تفكير أصحاب القرار من الطرفين وتوقعاتنا لمجرى الأحداث الرئيسية في حالة حصول الصدام، وذلك بالاستفادة من نظرية اللعبة في السياسة الدولية (أو المباريات في بعض المصادر العربية) والتي تتميز عن النظريات الأخرى (مثل المنظومة الدولية والتوازن) بأنها تقوم على التعريف بوضعية وقدرات الطرفين (الولايات المتحدة وإيران) واحتساب النتائج المتوقعة لهذا القرار وتلك الخطوة المضادة في مراحل الصراع المختلفة. ولن يهتم المقال بتفاصيل المعطيات بل بأسس اللعبة كتمرين ذهني على تصور الموضوع وتداعياته الممكنة.
لم تحجب الاجتماعات المتكررة للوكالة الدولية للطاقة الذرية (المكلفة بمراقبة منع انتشار الأسلحة النووية) حقيقة أن الصراع الجوهري حول الطاقة النووية الايرانية يدور بين الولايات المتحدة وحلفائها (إسرائيل بالخصوص) من جهة وإيران من جهة أخرى، لتخوف الطرف الأول من إمكانية تحول الأبحاث الايرانية السلمية إلى إنتاج الأسلحة النووية. وتقف عدة أسباب وراء خطورة هذا التخوف الغربي: 1- إيران دولة quot;شموليةquot; وقرار استخدام السلاح النووي سيكون بيد فئة صغيرة قد تتصرف دون حساب المخاطر حتى على شعبها. 2- إنها دولة مسلمة فقد يقع السلاح لاحقاً بيد المعادين للغرب وهي بذلك أخطر من النظام الشمولي في كوريا الشمالية مثلاً. 3- وهي فعلياً تتميز حالياً بنظامها وأيديولوجيتها quot;المتطرفةquot;، فهي تعلن العداء لاسرائيل ويجاهر رئيسها بهدف مسحها من الخارطة 4- وبعد كل هذا وذاك فهي قريبة جغرافياً من إسرائيل وتأثيرها كبير على قطاعات مهمة (حزب الله وبعض المنظمات الفلسطينية) في البلدان المحيطة باسرائيل، إضافة الى تحالفها منذ عقود مع سوريا.
القوى المتواجدة
تراهن إيران، كما يبدو أيضاً من تصريحات قادتها، على تحرك الجماهير الواسعة من العرب والمسلمين لنصرتها وضرب مصالح الدول العدوة إن هي تعرضت لضربة عسكرية وتراهن أيضاً على قدرتها على إغلاق مضيق هرمز وما يعنيه ذلك من قطع لامداد أكثر من ثلث النفط العالمي المتجه الى البلدان المستهلكة. وتراهن الآن أيضاً على ترسانتها العسكرية لضرب إسرائيل (وربما لمهاجمة دول quot;عدوةquot; أخرى) وخصوصاً بصواريخ شهاب3 التي ستزرع الدمار والرعب في الدولة quot;اللقيطةquot; والبلدان quot;العميلةquot;، وقد تُمهد (لمحو إسرائيل من على الكرة الأرضية)... أما الولايات المتحدة (وحلفاؤها لا سيما إسرائيل) فتراهن على القوات الجوية الضاربة والصواريخ بعيدة المدى من القواعد الأرضية والبحرية(الغواصات) وعلى القوات العسكرية المتواجدة في الدول المحيطة بإيران وعلى تحالف أو تعاون الأنظمة العربية وأخيراً على المنظمات الحليفة وquot;العملاءquot; المتواجدين داخل إيران لشن عمليات التخريب وتوفير المعلومات.
القرار الخطير
رغم أن المؤشرات تدل على أن الضربة قادمة، ولكن هذا لا يعني بالمرة أنها مؤكدة لأن توجيه الولايات المتحدة لأي ضربة لإيران ستكون ذات عواقب خطيرة لذلك فمن الممكن أن يتفادى الجميع هذه الأخطار بقبول حل دبلوماسي. إذن في حال اتخذ هذا القرار الخطير بتوجيه الضربة لايران، فستتحقق على الأرجح وبشكل عام الخطوات الآتية وعواقبها:
-بداية، لن تحرج الولايات المتحدة نفسها أمام المجتمع الدولي بتوجيه ضربة دون غطاء quot;شرعيquot; دولي بل ستترك على الأغلب لاسرائيل توجيه الضربة الأولى لتدمير المواقع العديدة المشكوك بها. ويشكل هذا الخيار الأكثر تحقيقاً للأهداف المرجوة بأقل الخسائر، فاسرائيل عودت العالم على quot;حقهاquot; في الدفاع عن نفسها ولو بأعمال القرصنة والاعتداء على أراضي وممتلكات الغير وقتل المدنيين. نعم قد تؤدي هذه الضربة الى إحراج الولايات المتحدة إزاء حلفائها العرب والمسلمين، لذلك تمت تهيئة الأرضية لا سيما من خلال التأكيد على أخطار القنبلة النووية الايرانية على نفس الأنظمة وعلى ما تسببه سياسات إيران في المنطقة من معاناة لحد الآن حيث عرقلت مع حلفائها الحل السلمي والمفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل وتسببت في الاضطراب الجاري في لبنان، ولذلك يتوقع أن تكتفي الأنظمة العربية بالبيانات الساخطة.
-عند ذاك ستضرب إيران مفاعل ديمونة ومواقع أخرى تراها استراتيجية بالنسبة لأسرائيل ولكن الأخيرة تملك صواريخ باتريوت وأمثالها لضرب الصواريخ القادمة قبل أن تصل الى أهدافها. وقد جهزتها الولايات المتحدة بها (ضمن تداعيات احتلال الكويت) حتى لا تكون في وضع المضطر لاستخدام السلاح النووي عند ضربها بسلسلة من الصواريخ المدمرة. أما في حالة إصابة الصواريخ الايرانية لأهداف إسرائيلية خطيرة رغم الصواريخ المضادة للصواريخ فستضرب أسرائيل (ومعها الولايات المتحدة بطريقة أو أخرى) إيران بوابل من الصواريخ الموجعة. فإن لم تتوقف عن قصفها، فسيعطي ذلك الضوء الأخضر لاسرائيل لاستخدام ترسانتها بتدرج حتى تصل ربما الى استخدام السلاح النووي، ضربة واحدة للتنبيه ثم المزيد إذا استمر الايرانيون في قصفهم لها. علماً بأن قصف ديمونة لن يمنع إسرائيل من استخدام سلاحها النووي، إذ نتوقع أنها قامت بنقل الكثير من رؤوسها النووية الى مخابئ تحت الأرض في القواعد الجوية بالخصوص لتسهيل تحميلها على الطائرات العسكرية.
-وإذا فكرت إيران باغلاق مضيق هرمز ومنع الملاحة البحرية فلن يكون صعباً على الولايات المتحدة استصدار قرار عاجل من مجلس الأمن يعطيها الضوء الأخضر لضرب المصالح الايرانية وحتى في غياب هذا القرار ستحتج بتهديد مصالحها العليا ومصالح حلفائها في منطقة الخليج وتباشر قصفها الكثيف للمواقع والمصالح الايرانية.
-في هذه الأثناء نتوقع أن تحرك إيران حلفاءها في مختلف الدول وبمختلف الأساليب ربما التخريبية أيضاً، ولكن الولايات المتحدة من طرفها تعول على عزل سوريا عن إيران قبل توجيه ضربة لها (وهو ما يجري حالياً عن طريق المفاوضات مع إسرائيل ومغازلة فرنسا لها) مما سيؤدي الى قطع الإمدادات عن حزب الله وعلى نجاح غالبية الحكومات في قمع هذه التحركات وهي في المهد. وهنا يشكل لبنان وأفغانستان وباكستان أكثر البلدان عرضة لخطر الاضطرابات. أما العراقيون، فعموماً لا ينبغي لحكومة إيران التعويل عليهم، في نظري، فحلفاؤهم الأكراد (سابقاً) منشغلون بتثبيت quot;إقليمهمquot; وشيعة العراق حتى لو تعاطف الكثير منهم معها فلن ينهضوا لنصرتها لأنهم quot;شبعواquot; من الحروب ولأن غالبيتهم الساحقة تؤمن بمرجعياتها الكبرى في النجف لا بولاية الفقيه. نعم ستحظى إيران بتعاطف بعض الجماعات المسلحة الحليفة أو المتعاونة (شيعية وسنية) وهذه سيسهل ضربها باعتبارها منظمات quot;إرهابيةquot; خاضعة لأجندة أجنبية...
وهكذا ستؤدي هذه المواجهة الى ربح أكبر بكثير للولايات المتحدة وحلفائها (إزالة الخطر الايراني وإضعاف الجمهورية الاسلامية عسكرياً واقتصادياً وتعديل أوضاع المنطقة لصالح التطبيع) مقابل خسائر محدودة نسبياً. أما الجانب الإيراني فسيعاني من خسائر كبرى (تدمير مواقع نووية وقواعد عسكرية وربما صناعات ومنشئات مدنية) لا تقارن بمكاسبها (تدمير بعض المواقع الاسرائيلية والأمريكية وربما العربية واكتساب تعاطف قطاعات مهمة من الرأي العام العربي والاسلامي). هذا إذا قبلت بتجرع السم والانسحاب قبل اضطرار إسرائيل لضربها نووياً.
وإذا كانت العلوم السياسية والاجتماعية تفتقر بطبيعتها الى دقة العلوم المادية فالسياسة الدولية تتميز أكثر منها بغموض المواضيع وتعقد العوامل والمؤثرات وانعدام التجانس نسبة الى المجتمع الداخلي (اسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية، الكويت ط4، 1985، ص37). لذلك فان ما قدمته من تصور يحتاج بالتأكيد الى تطوير أو لمقابلته بسيناريو مختلف. ولكن المهم أنه ممكن الحصول وبالتالي يفرض على صناع القرار الايرانيين التريث كثيراً وعدم نسيان أن ما تحتاجه إيران وكل دول العالم الثالث أكثر من المفاعلات النووية، رغم أهميتها، هو بناء الانسان والمجتمع القوي بمؤسساته السياسية والاقتصادية في أوضاع تسمح لطاقات الأمة ولو تدريجياً بالانطلاق في ظل حريات التعبير والتنظيم والمشاركة في القرار على مختلف المستويات لأن هذا البناء وهذه المؤسسات هي أساس رقي المجتمعات وهي التي ستجعلنا في مصاف الدول المتقدمة والقوية.