من رجال سورية في لبنان حيث لاخيار
عبد الرحيم مراد العروبي على طول الخط

رجال سورية في لبنان

عدنان عضوم: القضاء في خدمة الطموح(1)


جميل السيد: CIA لبنانية تقبض على أحشاء الأنظمة السياسية(2)

اسعد حردان: العلماني القوي(3)

ناصر قنديل الذي قفز فوق كل الحواجز(4)

كريم بقرادوني .. الرجل الثالث (5)


غازي كنعان .. المايسترو (6)


إيلي الفرزلي.. الولاء غير المشوب بشائبة(7)

سليمان فرنجية: الجغرافية تتحكم في التاريخ(8)

بلال خبيز من بيروت: لا يمكن فهم طبيعة العلاقة التي تربط الوزير والنائب عبد الرحيم مراد بسورية وسباب ولائه من دون فهم طبيعة التعقيدات التي تحيط بالسنية السياسية في لبنان وسبل انتاجها لزعاماتها الكبرى. لكن نظرة سريعة يلقيها المرء على تاريخ الوزير مراد الشخصي والسياسي قد تمكنه من فهم تعقيدات العلاقة مع سورية وتشابكاتها بالنسبة لشطر واسع من اللبنانيين.

عبد الرحيم مراد ابن قرية من قرى البقاع الغربي. قرية سنية تجاورها قرى مختلطة، ويحيط بها محيط سني ارجح واكثر عمومًا. هذه القرية السهلية شهدت هجرات واسعة نحو المهاجر، خصوصًا الى اميركا الجنوبية، ومعظم الوجهاء والمتنفذين والأثرياء في تلك المنطقة يدينون بقسم من مكانتهم إلى هذه المهاجر.

مراد ايضًا حصّل ثروة من المهاجر، وكان في سبعينات القرن الماضي في منطقته اشبه بحريري صغير، او لنقل حريري محلي. كان يحكى في قريته وجوارها عن ثروته حكايات كثيرة. وعلى عادة اهل القرى في المبالغة والحماسة كان مراد بالنسبة لهؤلاء ثريًا خياليًا ولا تعكس علاقته بأهل بلده حدود ثروته. هذه الثروة المتواضعة بمقاييس هذه الأيام، ساهمت إلى حد بعيد في بروز نجمه حين افول نجم اقرانه. فعبد الرحيم مراد الثري باعتدال، كان واحدًا من ثلاثة في قيادة "الاتحاد الاشتراكي العربي" الناصري الهوى والميول. هذا التنظيم كان في السبعينات هلاميًا بمعنى من المعاني، إذ كان ممثلًا في مؤسسات الحركة الوطنية السياسية، لكنه لم يكن فاعلًا على الأرض. كان تنظيمًا من الوجهاء إلى حد ما، ويستند إلى جماهير بلدية في كل بلدة من البلدات التي تضم بين ابنائها احد وجهائه، ولم ينتج قيادات عالية المستوى على هذا الصعيد.

لا شك ان الناصرية كتيار سياسي عروبي تملك في لبنان تاريخًا فوارًا. فمصر عبد الناصر حكمت لبنان ردحًا من الزمن. وكثيرًا ما عمد معارضو الهيمنة السورية اليوم إلى تشبيه هيمنتها بهيمنة مصر عبد الناصر في الستينات وأواخر الخمسينات من القرن الماضي. وكان السفير المصري في بيروت عبد الحميد غالب يفتي ويقرر ويحل ويربط في بيروت. لكن الهيمنة المصرية على لبنان تعرضت لانتكاستين كبريين. انتكاسة قومية، واخرى محلية.

بعد حرب 1967 والهزيمة التي مني بها العرب ضد إسرائيل، أخذت تيارات القومية العربية في بيروت تتمرد على حكم الأنظمة وتميل شيئًا فشيئًا إلى الوافد الجديد باسم الصراع العربي الإسرائيلي والذي تمثل بالمقاومة الفلسطينية. وكانت حركة القوميين العرب في فرعها اللبناني ناشطة وعلى قدر من الحيوية السياسية سمح لها بجعل الحركة الناصرية تشحب شحوبًا شديدًا بعد انقلابها عليها.

تحول القوميون العرب اللبنانيون والفلسطينيون في لبنان في معظمهم إلى الماركسية، ومن شتات هذه الحركة نشأت تيارات وقوى كان لها أثر بعيد في لبنان وفي مجال القضية الفلسطينية على حد سواء. والحال فإن الحركة الناصرية شهدت في تلك الأثناء بعض أكثر محنها شدة. فتفرقت شذرًا مذرًا، ولم يبق من نواة مؤسسة وفاعلة لبنانيًا من القوميين البعثيين والناصريين، إلا اولئك الذين انتقلوا من حركة القوميين العرب إلى تأسيس منظمة الاشتراكيين اللبنانيين بقيادة محسن ابراهيم ومن ثم منظمة العمل الشيوعي في لبنان التي ايضًا وبعد انشقاقات متعددة آلت قيادتها إلى القومي العربي العتيق.

حال الهيمنة الناصرية في لبنان تشبه في وجوه كثيرة حال الهيمنة السورية. والأرجح، خصوصًا بعد التظاهرة الاخيرة التي قادها حزب الله، ان ما يمكن تسميته بالخط القومي العربي، لن يشهد ضمورًا في عديده في المقبل من الأيام والسنوات. لكن الشرط اللازم والضروري للخروج من شرنقة الحصار الذي يفرضه عليه واقع استرهان البلد تحت مذبح القومية العربية، يحتاج منه إلى نقد ذاتي وتأسيس متجدد على قواعد جديدة تتيح للتيار القومي العربي في لبنان، مرة اخرى، ان يتجدد وفق آليات أخرى غير آليات الهيمنة نفسها التي تبعتها مصر الناصرية وسورية البعثية في حقبتين زمنيتين مختلفتين.

الحركات الناصرية في لبنان شهدت بعد موت عبد الناصر انشقاقات متسعة ومتوالية. ثمة في بيروت وبعض المناطق "اتحاد قوى الشعب العامل" بقيادة كمال شاتيلا، وثمة في صيدا "التنظيم الشعبي الناصري" بقيادة الراحل اغتيالًا في مطلع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، النائب معروف سعد وولده المهندس مصطفى سعد من بعده، وشقيقه الدكتور أسامة بعدما توفى الله النائب مصطفى الابن البكر لمعروف.

ونشط في بيروت الحرب الأهلية تنظيم ناصري آخر كان يقوده ابراهيم قليلات تحت اسم حركة الناصريين المستقلين "المرابطون". هذا التنظيم حقق في الحرب الأهلية شهرة واسعة في ما سمي بحرب الفنادق، وشهد نهاياته في أواخر الثمانينات بعد اشتباكات دامية مع الحزب التقدمي الاشتراكي وحلفائه يومذاك.

وثمة "الاتحاد الاشتراكي العربي" الذي كان مراد من عداد قياداته الأولى، ويتركز نشاطه في منطقة البقاع الغربي. في سنوات الحرب الأهلية الأولى عمدت هذه التنظيمات إلى موالاة الجماهيرية العربية الليبية بوصف قيادتها ايضًا يتيمة الناصرية وفكرها القومي بعد وفاة عبد الناصر. والموالاة لليبيا كانت تعني في عرف اللبنانيين العاديين في زمن الحرب الأهلية اموالًا تغدق على اهل التنظيمات الموالية لا حصر لها ولا عد. هكذا اشتهرعن التنظيم البقاعي المنشأ والمركز بانه تنظيم مرفه، خصوصًا ان لا قوات عسكرية يعتد بها او يحسب حسابها كان يمكن ان يحشدها في الميدان، مع ما يعنيه الحشد في الميدان من نفقات طائلة يحتاج إليها العسكر سلمًا وحربًا.

بعد انحسار الدور الليبي من جهة وخروج المقاومة الفلسطينية من جهة اخرى، وبعدما وضعت الحرب الأهلية اوزارها، اخذ دور التنظيم يضمحل وئيدًا ليحل محل الدور بعض الوجاهات السياسية المناطقية. على هذا تصدر السيد عبد الرحيم مراد واجهة الوجهاء السنة في منطقة البقاع الغربي وكان تصدره يؤذن بلعب دور ما متوسط الحال في السياسة اللبنانية في المقبل من ايامها العجاف.

كان السيد عبد الرحيم مراد منسجمًا مع منبته وطائفته وقناعاته. لم يحتج ان يبدل فيها شيئًا. فهو سني المذهب مع ما يعنيه هذا الأمر في لبنان من اتصال سني وثيق بالفكر القومي العربي وتجلياته على الساحة اللبنانية، وهو ايضًا قومي الهوى لم تهزه العاصفة التي عصفت بالحركة الناصرية في لبنان ولم تغير اتجاهاته، وهذه العاصفة نفسها لم تجعله يتردد في موالاة المقاومة الفلسطينية بصفتها تعبيرًا صافيًا متجددًا عن حركة قومية من طراز آخر. وكان لا بد لهذا الصمود القومي على طول الخط من ان يوالي الوريث الفعلي للهيمنة الفلسطينية على لبنان الذي تمثل بسورية حافظ الاسد في الثمانينات وما تلاها.

فضلًا عن هذا كله كان لاحكام الموقع الجغرافي الذي يتحدر منه اثره الكبير في هذه الموالاة. فالبقاع الغربي اقرب إلى دمشق من حبل الوريد، والعلاقات بين اهل المنطقة والداخل السوري لم تنقطع في اي يوم من الأيام، يضاف إلى هذا كله سبب ارجح يتعلق باستمرار الهيمنة السورية على المنطقة من دون انقطاع او تعديل منذ العام 1976. فالقوات السورية دخلت بيروت وخرجت منها، ودخلت الجبل وخرجت منه، ثم عادت إلى بيروت والجبل، وها هي اليوم تخرج من هذه المناطق، لكنها منذ ان وطأت اقدام الجنود السوريين ارض لبنان عام 1976 لم تتزحزح قيد انملة عن سيطرتها وممارسة نفوذها في البقاع الغربي برمته. هذا كله جعل عبد الرحيم مراد كوجيه سني وكلاعب سياسي لا يتردد في موالاة السوريين. وان بدت سيرته السياسية غامضة المقاصد والأهداف احيانًا فذلك كان على الأغلب الأعم من موجبات واحكام العلاقات المعقدة التي تعقد في كنف السنية السياسية اللبنانية.
في انتخابات 1992 النيابية فاز مراد بمقعد من مقعدي السنة في البقاع الغربي. المقعد الثاني ذهب إلى اللواء سامي الخطيب موالي سورية من دون لبس ولا ابطاء واول وزير داخلية في حكومات الهيمنة السورية عام 1992. لم يكن الفوز مستغربًا، وعلى الأثر عقد السيد عبد الرحيم مراد علاقة مرجحة مع رئيس الحكومة السابق الدكتور سليم الحص. سليم الحص المعارض منذ الطائف وحتى اليوم. كان يشكل في ذلك الزمن نوعًا من الضمير الوطني اللبناني. او لنقل انه شكل لجنة حكماء من كل الطوائف، شكل مع حسين الحسيني ونسيب لحود وبطرس حرب ونجاح واكيم "جبهة الانقاذ والتغيير"، وكان في عدادها كثيرون يذهبون ويعودون، فضلًا عن محمد يوسف بيضون الشيعي البيروتي الذي لازم الحص حتى يوم الانتخابات التي هزمه فيها الحريري. بين هؤلاء كان السيد عبد الرحيم مراد. لكن جبهة "الانقاذ والتغيير" لم تكن مرة جبهة متراصة الصفوف فالرئيس الحص لم يكن يتوسل، وما زالت هذه حاله، وزنًا طائفيًا في الاحتكام إلى زعامته. كان على الدوام يقيم في الخيار والموقع وليس في المنبت والأصل، وربما لهذا السبب تبدو زعامته ضامرة إلى حد بعيد هذه الأيام.

لا شك ان عبد الرحيم مراد والى الحص الملتبس سورية والذي لا يؤمن جانبه إلا ضعيفًا، لأن الوافد على الزعامة السنية بقوة هائلة لا يمكن ردها كان رجلًا مشكوكًا في ولائه القومي، فالقومية العربية في لبنان لها تعريف اضافي سوى الوحدة العربية يدور حول الحذر من المملكة العربية السعودية وسياساتها في لبنان.

والرئيس الحريري كان قادمًا من هذا الحضن الوسيع، والمقاول السعودي في زعامته لا يخفى على أحد. لكن السيد مراد سرعان ما تخلى عن كتلته حين سمي وزيرًا في حكومة الحريري الثانية عام 1995، ففي حين كانت الكتلة التي يرأسها الحص وينتمي إليها غير مرحبة بالتكليف والتأليف لم يتردد السيد مراد في قبول المنصب الوزاري الهامشي الذي عرض عليه. اصبح الآن معالي الوزير. ذلك يعني ان السيد مراد اذا ما احسن اللعب واجاده يمكنه ان يتقدم في الوزارات على نحو لا يوقفه شيء.

والحق ان الوزير انتقل من وزارة التعليم المهني والتقني إلى وزارة التربية الأكثر اهمية، وانتهى اليوم وزيرًا للدفاع. مسيرة لافتة من دون شك. لكنها كانت على حساب تحالفاته القديمة من دون لبس. لم يعد مراد حصيًا وهو لم يكن حريريًا اصلًا. وطبعًا لا يمكننا نسبة ولائه لكرامي، إذًا ليس عبد الرحيم مراد إلا سورية بامتياز.

علاقته بالمسؤولين السوريين ليست خافية، فنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام صديق العائلة، وحين سافر إلى البرازيل استضافه اخوه محمد في دارته طوال زمن الزيارة. وهو من ناحية ثانية مضطر بحكم الجيرة واحوال الناس في البقاع إلى اقامة علاقة مع ضباط سوريين لتسيير امور الأهالي والمواطنين حتى لو لم يكن يحبذ ذلك. وهو اخيرًا يتحدر من قرية قريبة من عنجر وقد بنى بيتًا في شتورا على طريق الشام وليس بعيدًا عن عنجر اكثر من مرمى حجر.

هذا جعل عبد الرحيم مراد مرشحًا لرئاسة الحكومة عند كل ازمة وزارية. لكن العارفين في الأمور يدركون ان طرح اسمه او طرح اسم غيره مثل عدنان القصار او عدنان عضوم يشبه التهويل بحدة الأزمة. اي ما معناه حرفيًا ان رئيس الحكومة سيحكم من خارج عزوته ومن خارج طائفته وبخلاف مآربها واتجاهاتها. وهذا امر فرضته زعامة الحريري الكاسحة على الإدارة السورية طوال فترة من الزمن. إلى حد بدت معه زعامات بيروتية عريقة مثل سليم الحص او شمالية مثل عمر كرامي عاجزة عن تأمين ولاء الطائفة، وما ان يطرق واحدهم باب الحكم للدخول إلى قاعته حتى تخرج الطائفة من النافذة. والحال فإن عبد الرحيم مراد لم يكن من قامة الحص او كرامي بحسب التراتب السياسي في لبنان. وترشيحه لرئاسة الحكومة يعني جورًا على الطائفة الراجحة والفاعلة في لبنان اقتصاديًا وسياسيًا وعمرانيًا.

لم يراع مراد هذه النقطة، ولا احسب ان لبنانيًا سنيًا قد يراعيها، فالمنصب زيان ومغر، ولا يقف امام اغرائه احد. لكن تدرج مراد في الوجاهة والنيابة والوزارة وصولًا إلى الدفاع كان يعني على الدوام قربًا اكثر من الإدارة السورية وامتثالًا لمشيئتها، وانتظامًا في خطها لا تشوبه شوائب كالتي تشوب نادي رؤساء الحكومات الوازنين في لبنان في ظل الهيمنة السورية.

جنى على عبد الرحيم مراد واقعتان لا فكاك منهما: تحدره من سنة الأطراف الذين يصعب دخولهم متن السياسة اللبنانية إلا بشق النفس، وزعامة الحريري الكاسحة التي جعلت الدخول صعبًا على اي كان.

لكن السياسة طاحونة لا تشبع وتستهلك من دون رأفة وتمييز اي كان. والأرجح ان عبد الرحيم مراد الذي بقي وفيًا لموقعه لم يجد غضاضة ابدًا في موالاة سورية، فالهيمنة السورية في حقيقة الأمر ليست إلا وريثة فتح البلد امام المقاومة الفلسطينية وتعريضه لرياح الأرض الأربع، وانضواؤوه من قبل تحت جناح الهيمنة المصرية على نحو يشبه الهيمنة السورية إلى حد بعيد.

بنتسب مراد إلى تيار قومي عربي عريض في البلد له اصوله وله مزاياه، لكن مقتل هذا التيار الدائم وخطيئته المزمنة انه لم يلق بالًا للبنان وطنًا نهائيًا لجميع ابنائه.
قد يجيبك اي كان وهل كان لبنان مستعدًا لقبول جميع ابنائه مواطنين فيه على قدم المساواة؟ الجواب ايضًا لا حاسمة وقاطعة الوضوح ومن دون تردد على الإطلاق. عبد الرحيم مراد ليس فريدًا في محرابه، فالبلد يتبادل الخطيئات القاتلة من جهتيه في الظلام والنور على حد سواء.