في سياق حملةٍ إعلامية تستعد لها مجموعة كبيرة من الصحفيين والمثقفين الكرد في إقليم كردستان، غايتها ممارسة الضغوط على المسؤولين الحكوميين والحزبيين في الاقليم للكشف عن ممتلكاتهم واموالهم وارصدتهم داخل العراق وخارجه، وتقديم اقرار رسمي بما في ذمتهم من اموال، يقول وزير الصحة في حكومة الإقليم زريان عثمان، وهو من أبرز الوزراء المشهودين لهم بالنزاهة والمهنية: quot;بقدر ما يتعلق الامر بي شخصيا، فانني مستعد منذ اللحظة وحتى آخر يوم من عمري للكشف عما في ذمتي من اموالٍ وممتلكات شخصية، بل انني وابنائي أيضاً مسؤولون جميعا امام الشعب والتاريخ عن اية مخالفة مالية، واعلن استعدادي للمساءلة ازاء اي مبلغ مالي مسجل باسمي غير ما تقاضيته رسمياً كمستحقات شرعية عن وظيفتي الرسمية. (...) انني افضل، بل ادعو جميع المسؤولين الحزبيين والحكوميين وحتى المديرين العامين الى الكشف عن ممتلكاتهم قبل المباشرة بمزاولة مهامهم الرسمية في الحكومة، كما ادعو الى تشكيل هيئة للنزاهة لتتولى القيام بهذه المهمة في اقليم كردستان، من خلال مقررات الذمة المالية لجميع المسؤولين قبل تسلم الوظائف وبعد مغادرتهم لها، واخضاعهم للمساءلة الدقيقة بغية معرفة اي مبلغ غير شرعي، وفي اعتقادي لو لم يتم اتخاذ مثل هكذا اجراءات فان الفساد المالي المستشري في الاقليم سوف لن ينتهي ابداًquot;(الشرق الأوسط، 20 مارس 2009).

رغم أنّ كلام الوزير، هو من حيث المبدأ، كلامٌ في علاج القادم من كردستان، أكثر مما يكون كلاماً في محاسبة السابق والراهن منها، وهو بالتالي كلامٌ يبحث عن حلولٍ ممكنة لquot;كردستان الفاسدةquot; من الآن فصاعداً، وذلك quot;من خلال الكشف عن ممتلكات المسؤولين قبل المباشرة بمزاولة مهامهم الرسمية في الحكومةquot;. فهذه quot;الماقبلquot;، أي ممتلكات المسؤولين السابقين والراهنين(بكبارهم وصغارهم) القابضين على شئون الحكم والإدراة في كردستان، لم تخضع للكشف، قبل دخولهم إلى quot;تاريخ الكرسيquot;. وذلك لأكثر من سبب معروف. فلا حدود ممكنة، إذن، لمحاسبة ممكنة لهؤلاء المسؤولين، طالما ليس هناك جرد أو كشف للسابق من أموالهم، وطالما لاوجود لحدودٍ تفصل بين ملكهم في ماقبل الكرسي عن ما بعده.

ولكن الجديد الجريء في كلام الوزير، بإعتباره مسؤولاً رفيع المستوى في الحكومة، هو أنه يؤكد خلافاً لquot;كلام المسؤولينquot; الكرد الكبار، بأنّ quot;الفساد عادة يبدأ من اعلى الهرم باتجاه القاعدةquot;. وهذا يعني أنّ أول الفساد قد بدأ في أعلى الهرم، وأعلى الفوق من كردستان، بإتجاه القاعدة والتحت منها.

فحتى الآن، الغالبية الساحقة ممن تناولوا قضية الفساد في كردستان(خصوصاً المحسوبين على السلطة وأحزابها)، سواء خبراً، أو تعليقاً، أو تحقيقاً، أو دراسةً، أو تحليلاً، إنما تناولوها كquot;قصة متفق على وجودها وحضورهاquot;، غير محددة، غير معلّمة، غير معرّفة، وكأنها quot;قصة نكرةquot;، أبطالها نكرة، وأحداثها نكرة، وأسبابها ودوافعها نكرة، تحدث في جغرافيا معرّفة اسمها إقليم كردستان.

فالمسؤولون الكبار أنفسهم، في الرئاسات الثلاث(البرلمان والحكومة والإقليم)، يبصمون بالعشرة على وجود سرطان اسمه الفساد، ولكن من هو القائم على أعمال الفساد؛ أين هو الفساد بالتحديد؛ وهو من أين إلى أين، من مًن إلى مَن؛ ما هي أدواته، ووسائله، وقنواته وشبكاته؛ وكيف السبيل إلى القضاء عليه، ولماذا لا تبدأ الخطوة الأولى لمعالجته، وذلك بتشكيل quot;هيئة للنزاهةquot; كأضعف الإيمان، لأجل الكشف عن المسؤولين المشتغلين بتدبير الفساد وعشعشته وتنظيمه وتسييره؟


هذه أسئلة، لا يقترب إليها المسؤول الكردي الكبير، ومن حواليه من أصحاب الشأن والقرار في كردستان. أسئلةٌ جوهرية كهذه، هي لا تزال بعيدة عن الطرح في ذهنية الفوق الكردي في المجمل، لأن أي اقتراب، برأيي، إلى السؤال عن رأس الفساد، سيكون اقتراباً من أعلى الهرم في الفوق الكردي المسؤول، المتقاسم مناصفةً بين الحزبين الكرديين الحاكمين، الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني.

عليه، لا يمكن الحديث، برأيي، عن الفساد في كردستان، هكذا وكأنها قضية هلامية في الفضاء، دون وضع النقاط على حروفه.
لا يمكن الحديث عن رأس الفساد، إذن، دون الحديث عن رأس كردستان.


والقصد من رأس كردستان، ههنا، هو كل الفوق في الحزبين المالكين لكردستان، بدءاً من مسؤول الفرع(اللق في الديمقراطي الكردستاني والملبَند في الإتحاد الوطني) إلى رأس الهرم الحزبي المتمثل بالرئيس أو الأمين العام؛ كل هذا الفوق quot;الكبير الكثيرquot; هو فوق إما متورط وموقوعٌ في الفساد، أو موقعٌ وساكتٌ عليه. فهو في المنتهى، المسؤول الأول والأخير عن تفشيه وانتشاره كالسرطان في كل أرجاء كردستان.

ليس من قبيل الصدفة، ان تكون ملكية كل الشركات الكبيرة والمهمة ذات الشأن، عائدة لمسؤولين كبار ذات شأن. فالمسؤول quot;الرفيع المستوىquot;، هو quot;شريك صافيquot; في الشركات الكبيرة الكردية quot;الصافيةquot;، لا لشيء سوى لأن كل شيء يجب أن يمر تحت توقيعه quot;الصافيquot;.


مام الإتحاد الوطني الكردستاني الرئيس جلال طالباني، تحدث قبل سنوات، مراراً عن quot;مليونيريةquot; مملكته، الذين تجاوز عددهم الثلاثة آلاف مليونير.

ندّه ومنافسه القوي، نوشيروان مصطفى رأس التيار الإصلاحي في الإتحاد الوطني، حصل بإعترف هذا الأخير، على عشرة ملايين دولار لإنشاء مؤسسة إعلامية، مقابل ابتعاده وتنحيه عن قيادة الحزب. وحين نشبت حرب كلامية بينه(مصطفى) والقيادي البارز في الإتحاد ملا بختيار، حيث عيّره هذا الأخير بصفقة الملايين العشرة التي حصدها من quot;مال الحزبquot;، ردّ عليه نوشيروان مصطفى بقوة، قائلاً: quot;الملايين العشرة التي حصلت عليها، هي حقي الطبيعي في حزبٍ كنت من مؤسسيه..هو حقي كحق كل الآخرين فيهquot;.

هذا هو كلام أبرز شخصية في كردستان يعوّل عليها الآن، ويُعلّق عليها الأمل بquot;إصلاحquot; القادم من كردستان.
فالحزب وفق مبدأ quot;كبار إقليم كردستانquot; وزعماء أحزابه الكبيرة، هو quot;ماركة مسجلةquot; بإسم أولي أمره وصحابته وquot;أوليائه الصالحينquot;. فملك الحزب هو من ملك أصحابه، وما للحزب من أموالٍ وممتلكاتٍ، تعود في المنتهى إلى جيوب الكبار من فوقه!

أما خزينة كردستان فهي خزينة متقاسمة مناصفةً، ككل ما فوقها وتحتها، بين الحزبين، فيفتي فيفتي. وأقرب مثال طازج على ذلك، هو الخلاف الذي نشب بين جناحي quot;الصقورquot; وquot;الحمائمquot; أو quot;المقاتلينquot; وquot;المقاولينquot; في الإتحاد الوطني، حيث أنّ بعض المصادر تعيد أحد الأسباب المباشرة لعودة هذه الخلافات التي كانت قائمة أصلاً، إلى اختفاء 800 مليون دولار حصة الإتحاد من واردات النفط واستثماره التي بلغت مليار وستمائة مليون دولار. فالوارد القادم من النفط وعقوده التي يتقاتل عليها فوق كردستان في هولير مع فوق عراق المركز في بغداد، يعود في النهاية إلى quot;الخزينة الحزبية المقدسةquot;، التي إليها تعود كل ملكية كردستان.

وحول quot;مشكلة النفط وعقودهاquot; في إقليم كردستان، يتفق كل من المستشار الاقتصادي جاك باسكال والخبير الدولي كريك موتيت على أن العقود التي أبرمتها حكومة الإقليم ستتسبب بأزمة اقتصادية، الأمر الذي ركز عليه جاك باسكال في التقرير الذي أعده بالقول، quot;بحسب تقرير مجموعة قيران النفطية، بسبب عدم تصدير النفط من إقليم كردستان بطرق سليمة، فإن حكومة الإقليم تتكبد يومياً خسائر تبلغ 7،1 مليون دولار، أي 620 مليون دولار سنوياًquot;(مؤسسة ثروة، 16 مارس 2009).

لهذا طالبت كتلة كوسرت رسول، التي هددت طالباني بquot;الإستقالةquot;، آنذاك، بquot;الشفافيةquot; في التعاطي مع quot;مال الحزبquot;. والقصد من هذه الشفافية، على ما يبدو، هو quot;الشفافية الداخليةquot;، أي داخل البيت الحزبي، على مستوى كباره، لدى تقاسم الثروات والأموال، لا الشفافية المؤمّل فيها، بين الحزب كسلطة والشعب كمتسلط عليه!

وعلى حد قول آري هارسين، وهو أحد المناضلين في صفوف البيشمركة سابقاً، والذي عمل صحفياً في صحيفة أوينة، لاحقاً، فquot; إن كردستان تبدو احيانا وكأنها دويلة مافيا، quot;حيث لا وجود للشفافية. إن الحزبين الرئيسين يقتسمان ميزانية الاقليم بينهما، إذ يستحوذ الديمقراطي الكردستاني على 52 في المئة منها بينما تكون حصة الاتحاد الوطني 48 في المئة. إنها لديمقراطية غريبة حقاquot;(البي بي سي، 11 يناير 2008).


هوشنك بروكا

[email protected]