عندما ازور بغداد: مدينتي المفضلة والإثيرة، اشعر بان ثمة "طيفاً" او "روحاً" تعمل على تجنيبها العاديات وتحرسها من المهالك التى دأب كثر، بلا وازع من ضمير، إستحداثها للنيل منها. احس بخفق تلك الروح المترعة بالحيوية، وأشعر بنبضها المفعم بالقدرة على التجدد. حاولت، مرة، ان اتماهى مع تلك الروح البغدادية، بـ "القبض" على مشهد واحد من مشاهد بانوراما المدينة الفاتنة، التى تخبئ روحها فيه؛ مشهد يمكن له ان يتبدل مظهره عبر الاوقات المختلفة ويتغيّر: فجراً، وصباحاً، وضحاً، وظهراً، ومساءً؛ لكنه ما فتئ يظل يمنحها القدرة على المقاومة والكفاح، في مواجهة مباشرة لصنوف الاساءات والآذى والطعنات، وانواع الخراب الذي لاقته عبر تاريخها الطويل.
انظر الى مشهد المدينة المرئي، وارى النهر، الذي لطالما اقترن وجوده مع المدينة التى يخترقها، هو الذي يمنحها حيويتها، تلك الحيوية الدائمة والمتجددة التى تغسل ندوبها وتزيل الاساءات التى تتعرض لها. يشكل النهر مع بغداد ثنائياً متلازماً. وهذه الثنائية إجترحت منذ آمد بعيد لحناً خاصاً، أخاله اقرب الى الالحان الموسيقية الرعوية "باستورالي" Pastorale، الذي يشي مضمونه بالبراءة وبالبساطة المجبولة على الفطرة، كما هي حياة البغداديين، هم الذين وان اقاموا في فضاء حضري مرموق، تنادوا الى تلك الطيبة الريفية التى جبلوا عليها. وبمقدور محب بغداد ان يصغي الى ذلك اللحن الشجي الذي تتتالى أنغامه، أحياناً، رقة وعذوبة، وأحيان آخرى، إكتئاب يعصر الإنفاس، كلما مرّ النهر بجانب ضفاف تلك المدينة المدهشة. عندما شاهدتني ابنتي (وهي بالمناسبة معمارية..ايضا)، هي التى تزور مدينتها العزيزة على قلبها، بعد غياب قسري، إستمر 18 سنة، ناظرا ومراقبا المشهد البغدادي المرئي امامي، خطر لها خاطر، مثلما ذلك الذي افكر فيه، قائلةً: "ها هي بغداد لاتزال تقبض "جمرة" روحها المشعة، رغم كل المصائب التى مرت بها، متحدية اؤلئك الذين أرادوا اخماد جذوتها، وسعوا وراء قتل <روحها> التى لا تموت!"
يعرف غالبية المعماريين مقولة <لاتينية> هي: <جينيوس لوجي> ”Genius loci”، وتعني روح المكان، او طيف المكان. ويترجمها البعض بعبقرية المكان. صديقي المعمار معاذ الالوسي، يستنطقها بـ "جنيّ المكان"، واجدا في هذا الاستنطاق تشابهاً مرغوباً: لفظياً ودلالياً بين كلمة "Genius" اللاتينية، و"جنيّ" العربية. يستدعي المعماريون تلك المقولة كناية عن حضور بهيّ لخصوصية المدن "وروحها" وإستثنائيتها، والتى يتعين كشفها وتأملها وتأويليها بغية معرفتها والتعرّف عليها، حتى يمكن ان يكون هناك اتساق للإضافات التصميمية الجديدة او المستحدثة مع ما تنطوي عليه خصائص تلك المدن المحددة من سمات. انها دعوة لإحترام ما ينبغى ان تملكه اية مدينة من خصوصية، وما يمكن إن يسهم في ترسيخ مفاهيم الفرادة فيها.
لكن ما عملناه ببغداد، ولا سيما في السنين الأخيرة، ليس فقط تناسي "واقعة" حضور تلك الروح المتجددة، وإنما، ايضاً، الامتناع عن إضافة اي شئ معماري او تخطيطي مهم لها. ثمة عزوف لايمكن تبريره عن تغاضي الاهتمام ببغداد، ثمة إهمال لم يكن مسوغاً البته لعمارة بغداد ولاعمال تخطيط بغداد. كلنا مسؤول عن ذلك. بالطبع، يتحمل المسؤولية الكبرى من هم في المراتب الادارية الأولى، لكن ذلك لا يعفينا جميعا نحن المعماريين والمخططين والمهندسين وجميع المثقفيين محبي بغداد من تبعات الحالة التى وصلت اليها المدينة التليدة. ثمة وضع غير مقبول، يراد منه تهميش بغداد، وحذفها من "جغرافية" المنجز المعماري والتخطيطي الاقليمي. بيد ان الامر السار في كل ذلك، وهو ما يعوّل محبو بغداد عليه كثيراً، من إن محاولات "وأد" المكان بها، ما برح يقاوم (ولو الي ..حين) عبر جهد "جينيوس لوجي": روح المكان الصامد!
سلام عليك "جنيّ المكان": حارس المدينة الجليلة، وجذوتها المتجددة.
سلام عليك بغداد!

معمار وأكاديمي
&