&

التيه
•&بعد سنوات من التشبث والعناد للبقاء في الأرض التي لم تمحو خطواتنا بعد... هربنا نحو الشتات لا نلوي على شيء سوى الأمان قبل أن تُجز الرقاب...
ربما يومها كنا نحتفظ بالامل او ببقاياه بأن ما يلبد السماء هو بقايا مُزنة حاقدة ستُفرغ عتمتها و تمضي... لكن لم تنتهِ تفاصيل التغريبة السورية.... هربنا نحو الشتات ففجعنا بالتيه يلقي بعباءته القلقة على ما تبقى من أيامنا....
أيام التيه.....
ارواحنا تائهة... تتوق لما مضى... تحلم بما هو آتٍ، تغفو كل ليلة بلا طائل فما مضى لن يعود، و ما سيأتي لن يمد لنا قشة الامل للغارقين....
حقائبنا تائهة.... تستلقي نصف فارغة... لعل لحظة منتظرة تحين... تائهة مثلنا على ارصفة سُرق منها الدفء....
عيوننا تائهة.... متلكئة عند نهاية أرض يباب و بداية ارض خضراء لا تمنح للأفق إلا مزيداً من الحَيرة.....
خطواتنا تائهة... كأقدام حثيثة نحو السراب الذي سيبقى وهماً مشتهى تنهشه حقيقتنا المتوارية عن العقول....
وسائدنا تائهة.... غريبةً كما نحن نستلقي على أسّرة طارئة و نحدق باسقف طارئة، ونغفو في عمق نوم طارئ.....
حنيننا تائه.... تمتلىء خابيته العجوز بالذكريات و تفرغ ذاكرته بنسيان ينثال من قعر الخابية... قطرة... قطرة....
سنوات التيه... أم أبناء التيه؟؟!!!...
ذاك الخوف الذي صرخ معنا حيرة عند صرختنا الأولى ظل صداه يقّرع الذاكرة... يذكّرنا دائماً أننا أبناء التيه، و ان سنوات التيه المتواترة و المتوارثة من اجدادنا تدفعنا لعمق التيه و خواءه.... فنصبح أبناء التيه، و نرسم سنوات التيه القادمة بريشةٍ عابثة و بيد مرتجفة و بالوانٍ رمادية.

الفَقدُ...
** أصبح التساؤل الهامس صراخاً.... و الأفكار الهادئة صخباً... و المصطلحات النبيلة شعارات....
كل شيء ينهار بسرعة لم يسبق لها مثيل...الأوطان... القميم... الروابط... الرؤى.... الانسان...
إنه زمن الفَقد... نفقد كل شيء بشكل منظم و كأن هناك يد شيطانية تحيل الجمال مسوخاً... و الايمان كفراً.... و الأوطان منافٍ....
ربما كان علينا ان نهرع مع الهاربين من كل شيء و ان نترك كل ما تربينا عليه رهن الحياة القادمة حتى لو كانت بتفاصيل لا تشبهنا، لان الهاربين عادة يختارون الحياة غير مبالين إن كانت بلا نكهة... بلا تفاصيل.... بلا ذاكرة... فقط حياة تشبه عبئاً على الذاكرة البشرية لان من يريد أن يحياها لا تهمه الحواس الستة فيها بل طوق نجاة من الموت ليس إلا.
ربما هو الهذيان كما يراه من سبقونا بل الاصح هكذا يسمونه.... ربما أصبح الوطن كلمة تثير الاستهجان و الريبة بقدراتك العقلية و النفسية... هكذا و بكل بساطة... إلقِ بكل شيء خلفك... صرختك الازلى.... طفولتك... سيرة صباك... أصدقاؤك... جيرانك.... و ابدأ من جديد و تأقلم مُرَوضاً بلا انتظار... و لكن حتى الحيوانات المفترسة بعد ترويضها تغفو في اقفاص محكمة الاغلاق و أحيانا تفترس مروضيها.
ربما كُتِبَ على من تشبث باسفلت جاحد أن يتأرجح بين تكفيرٍ و تكفير... هناك الحياة كفر... الايمان كفر.... الفكر كفر.... الرأي كفر..... و هنا الوطن كفر... الحنين كفر.... الغربة كفر.... الشوق كفر.
فما الذي جنيناه من تشبثنا و رحيلنا و هروبنا؟؟؟!!!.
لاشيء في الوطن قُمِعت حريتنا و موهبتنا و فرصتنا بالحياة، و في المهجر قُمِعت انسانيتنا و عاطفتنا و مشاعرنا، و في المرتين يقمعنا ابن بلدنا و صديقنا و جارنا و قريبنا.
ربما كان الاجدر بنا أن نعرف أن هناك من يقول: وطنك حيث تعلق قبعتك، و ان هناك من يختصر إرث بلاد من تاريخ و عراقة بأسماء من وهم، و أن هناك من يوسوس في دماغنا أن ننسى و نعلق قبعتنا خلف أول باب في المنفى....
ربما بات التساؤل عن المنفى كوطن بديل واقعاً و ليس تسرعاً و لهاثاً خلف وهم و سراب النسيان، و ربما باتت الذاكرة عبء من يحملها، و ربما انهار كل شيء هنا و ليس هناك... تَماسُكنا... تشبثنا... ذاكرتنا.... حنيننا.
و ربما علينا ان نذعن للفقد الذي يسيطر على أيامنا ما مضى منها و ما سيأتي.... فكل شيء يتضاءل و يصبح شمعة شاحبة عندما تفقد بلدك... و تاريخك... و احبابك، و لا يبقى امامك إلا أن تحصي كل صباح أوراق الفقد التي تمتلىء بكل ما مضى... ليقول لك المنفى سعيداً:
أهلاً بك لاجئاً جديداً... منفياً جديداً... مثخناً بالفقد الذي عليك ان تتجرعه ليبتسم لك الجميع ابتسامة عجوز كأيامك القادمة.

&

وحيداً....

•&وحيداً في محطة القطار....
وحده الزمن يتآكل و الفراغ يحتشد بالانتظار....
وحيداً على قارعة الزمن....
كفراشةٍ هجرت ما تبقى من رفرفة طليقة...
وحيداً تحت شجر الانتظار...
أخضراً كأنه يمنح الأمل و يبني للخيبة عشاً بين الأغصان...
وحيداً بلا بلاد...
كعصفورٍ ملّ التحليق واستمرأ الارتطام بزجاج النوافذ المغلقة...
وحيداً بلا اغنية...
عابرة كغيمة صيف لا تترك في الذاكرة إلا أمطاراً صيفية خجلى...
وحيداً في الأفق الهادىء....
مجرداً من كل الصخب و العنفوان و التحدي... ساكناً كشمسٍ تهرع نحو الغروب...
وحيداً في الصمت الممتد....
قانطاً ككمنجةٍ تقطعت أوتارها، و ذرفت لحنها الأخير دمعة... دمعة.
وحيداً في الصباحات المختلفة....
كتلميذٍ يتململ من واجبه اليومي و لا يملك إلا الإذعان لعصا المعلم و تأديبه...
وحيداً في الليالي الخافتة....
كقنديلٍ يهزم الليل و يعاند العتمة الممتلئة بيقين الخوف البارد....
وحيد أنا...
كما كنت... كما انا... كما سأكون....
أنتظر أنشوطة الخلاص.....
احلم بطوق النجاة....
من يمدّه لي بيدٍ لا ترتجف؟؟!!.

كاتب سوري مقيم بالسويد
&