إيلاف: يحط القارئ الرحال، وهو يقرأ هذا العمل في صحراء توات، ويهيم بين أرجائها الواسعة، ويكتشف تضاريسها الرملية وحكاية قصورها العتيقة، ويقف عند التركيبة النفسية والجسمية للذات الصحرواية، ونظرتها للأشياء المحيطة بها، ونظرتها إلى ذاتها وتفسيرها لكثير من المواقف.. وبين محطة وأخرى يقف القارئ حائرا وسط زخم هائل من تخوم الذاكرة والعادات والتقاليد واختلاف الّلهجات وغزارة القاموس اللغوي الصحراوي ولولا تلك الهوامش الشارحة التي أرفقها الكاتب في كثير من الصفحات لوقف عاجزا أمام فهم معانيها وتخطي كثير من عتباتها، إنها بدورها تؤكد من جديد على أن الجزائر قارة شاسعة، من الصعب الإلمام بكل حدودها واكتشاف أقاليمها.
ولأن الرواية تأريخ للإنسان والمكان، فقد جاءت “مملكة الزيوان” تأريخا لإقليم توات، ووثيقة تحيل إلى التاريخ في مزاوجة جميلة بين المتخيل والذاكرة عندما لخصت فترة مهمة جدا من تاريخ المنطقة، وفضحت كثيرا من التفاصيل المسكوت عنها في هذا المجتمع، الذي إضافة إلى معاناته من قسوة الطبيعة والظروف، يكتنفه كثير من الغموض والملابسات كنظرته للمرأة وحرمانها من الميراث، ومقت يوم ميلادها وكل ما يتعلق بها، فهي “لا ترث ما حُبَّس من الميراث “ص 41 .
وفي سرد الكاتب لتفاصيل حياة الذكر وكيفية الإحتفاء به منذ يوم مولده، واعتباره نعمة لا يحظى بها إلا من تبتسم له الحياة وتفتح له أبواب الإرث والمال والتعمير.. إلا رصد لنظرة المجتمع التواتي للأنثى، والحطّ من شأنها والتشاؤم بيوم مولدها، فلم تحظ مريمو بالعناية التي حظي بها أخوها يقول الكاتب “.. لم تحظ بتلك العناية والحظوة التي حظيت بها في مراحل طفولتي الأولى بالرغم من أنها الولد البكر للبيت” ص 42. هذا ما يربط المنطقة بالمجتمع الجاهلي قديما في تعامله مع الأنثى.
ولأن صاحبها حاج أحمد، له مرجعية تاريخية من خلال كتابه “التاريخ الثقافي لإقليم توات” فقد استطاع التأريخ لمنطقة توات، إبداعا بتميز ودقة وجرأة، وقد وشت الرواية بميوله التاريخية من خلال اختياره لبطله التخصص في التاريخ، مفسرا ميوله للتاريخ بقوله: “...مدى شغفي وحبّي لمملكة الزيوان، ومعرفة تاريخها القديم، والوسيط والحديث، والمعاصر.. معرفة حضارتها وثقافتها”.ص.206
وفي هذا، إثبات لأهمية دراسة التاريخ وإظهار لقدرته في حفظ تراث الأمم والشعوب والحضارات.
يسلم الكاتب سلطة سرد الأحداث إلى البطل /الجنين، وهي تقنية فنية جميلة أضفت على النص نوعا من التجريب الروائي التخييلي، فيرويها في تراتب نمطي وينقل سيرته منذ كان حلما يراود أحشاء أمه وهاجسا يطاردها، فتحقق بذلك أمنية قبيلة تفضل الذكور على الإناث، ومن خلال سرده للأحداث بانتظام، يحكي سيرته في مجتمع صحراوي، وينقل تفاصيل الحياة المعقدة وتأثير العادات والتقاليد والتزام الفرد الصحراوي بها، ينقل لنا تفاصيل العيش ونمط الحياة والأكل والشرب، ويصف الأزقة الضيقة والرمل والبلح، والأشياء وعلاقتها بالإنسان، وانتشار مظاهر السحر والشعوذة.
تتحرك شخوص الرواية، في فضاء غرائبي يعكس نفسيتها ويجعلها شخصيات تراثية فلكلورية بداية من اختيار الكاتب لأسمائها ذات الدلالات العميقة التي يتكفل الكاتب في شرح بعض منها، نذكر منها: (مريوشة، قامو، مريمو، نفوسة، الداعلي، يرقش، أمبريركة، الغيواني، أميزار...) ويتابع حركاتها ويصف تغير أحوالها وصراعها من أجل ضمان لقمة العيش، والحفاظ على إسم العائلة من خلال إنجاب الذكور بدل الإناث، وهي ظاهرة ركزت عليها الرواية، وفي استعانة الكاتب بالجنين الذكر، الذي يسرد تفاصيل الحكاية انعكاساً لحدّة الأزمة التي تعاني منها المرأة في منطقة توات وتهميش المجتمع لها، ولعل هذه الظاهرة النفسية الإنسانية الإجتماعية، تكون بيت القصيد في “مملكة الزيوان”، فمن خلالها يُسرب الكاتب ويتعرض لمظاهر أخرى متفشية، فيفضحها ويحاول التركيز عليها من أجل تخليص المجتمع من تلابيب الجهل وسطوة العادات وجبروت التقاليد، ويعبر عن ذلك بلغة تتراوح بين البساطة والتعقيد الذي تطلب من الكاتب تقديم قاموس شارح كلما شعر بأن الأمر يستوجب ذلك، وهي دعوة إلى ضرورة معرفة ثقافة الآخر واكتشاف لهجاته، وفي المقابل هي إشارة إلى التنوع الثقافي واللغوي واختلاف اللهجات في كل إقليم من أقاليم الجزائر.
أخيراً، إن “مملكة الزيوان” رواية تفتح فضاء الصحراء المنغلق على باقي الفضاءات الأخرى، وتكشف عمق الصحراء وتنوع العادات والتقاليد والذهنيات، وهي تأشيرة تسمح للمتلقي بقراءة تاريخ توات إبداعا، فيكتشف ويتمتع في الوقت ذاته، وهي رواية بدورها ستفتح أفق الكتابة الروائية الصحراوية وستشجع الكاتب وكل المبدعين لمزيد من العطاء الإبداعي الذي يكسر الحدود بين الشمال والجنوب، ويُنطق كثيرا من التضاريس الساكنة ويحرك كثيرا من الجمال الكامن بين دفتي الجماد هناك بعيدا في موطن الرمل والبلح.
صدرت الرواية بحلتها الجديدة عن دار فضاءات في العاصمة الأردنية 2015 ، ويُذكر أن الروائي الدكتور الصديق حاج أحمد الزيواني من مواليد1967 بزاوية الشيخ المغيلي ولاية أدرار الجزائرية، وهو روائيّ وأكاديميّ، وأستاذ لسانيات النص بجامعة أدرار، من أعماله المنشورة "التاريخ الثقافيّ لإقليم توات" و"محمد بن بادي.. حياته وأعماله" و"الدرس اللغويّ بتوات".
&