&منذ ثلاثة أيام لم أعرف طعم النوم بسبب ألام حادة في أذني اليسرى، وأمام كثرة التأوهات والآلام، حفزتني عائلتي بإلحاح على ضرورة زيارة طبيب الأذن الوحيد في البلدة، والذي سبق لي وأن زرته مرتين في شهر واحد بهدف علاج الأذن نفسها، والتي كانت دوما علاجاته تنتهي بالفشل ويستمر الألم، وبسببه فقدت الثقة فيه وفي أمثاله الذين يملئون المجتمع، وأمام إصرار العائلة وتعمق ألامي قررت إعادة زيارة طبيب من جديد، وبمجرد وصولي إلى مقر عيادته كانت حجرة الانتظار مليئة عن آخرها بالمرضى وبعضهم جالس على الرصيف أمام المقر، فاتخذت مكانا لي وسط الحشد، وأنا أنصت إلى ألامي ومن حين إلى آخر أسترق السمع من ما يدور بين المرضى، وتقريبا كل أحاديثهم كادت أن تصنع براديغم ثقافي حول مفهوم العذاب، يتقاطع في الكثير من مشاهده مع ألام المسيح.
&فالشخص الذي كان بجانبي الأمين، شيخ طاعن في السن يتكلم بصوت مرتفع عن تاريخ فشله، والذي أرجعه لمحاولات الغش التي تعرض لها في حياته في جميع الأماكن التي قصدها حتى أماكن دار العبادة كما قال، وعليه خلص إلى أن حالته الراهنة هي نتيجة للحيل التي حطمت أماله وأحلامه التي كان يحملها منذ نعومة طفولته، ويختم حديثه أنه يخشى أن يتعرض إلى غش جديد من الطبيب الذي سيفحصه فيما بعد، وقبل أن يكمل حديثه لم أتماسك نفسي وقلت له: في هذه الحالة عليك أن تتمسك بإرادتك وتثق في المقربين، فالتفت إلي وانفجرت عيناه في وجهي وراء شبكة دموية تغلفهما، ولو لا العروق والأعصاب التي تربطها بجوفهما لقفزتا على وجهي، مما جعلني ألزم الصمت على الفور. وفي الجهة المقابلة، كان شاب في منتصف العشرينيات، ويظهر من سماته وجهه وكلامه أنه شخص ورع، فطلب من الجميع أن يتحلوا بالصبر وأن يقارنوا أنفسهم بالنبي أيوب، فبعضهم تظهر على أذانهم بقع بيضاء(قطنة) والبعض الآخر يضع يده على أذانهم لعلهم يسكتون ألمها، ومرة تلو المرة يخرج الطبيب من حجرته ليستطلع الحشد المريض والسرور بادي على وجه، ولكنه لم يراني من بينهم بسبب عجلته، وأوامره التي يوجهها إلى مساعديه على ضرورة التحكم في القاعة وفرض النظام.
وبينما أنا أنصت لحديث القاعة، فإذ بي ألمح الطبيب يحدق في وجهي من فجوة باب حجرته، والظاهر أنه عرفني خاصة وأن آخر زيارتي له لم يمر عليها إلا بضعة أيام، ومن خلال نظراته العقابية يبدو أنه انزعج من وجودي في القاعة وسط المرضى وكان يتمنى أن لا أتحدث مع أي أحد منهم حتى لا أخبرهم بإخفاقاتي المتكررة معه، وفي هذه اللحظات يخرج المريض الذي كان يفحصه وهو يتأوه ويتمتم ولا أحد فهم ما يقول، ونادى باسمي، فسارعت إلى الدخول وبعض المرضى لم يعجبهم الحال رغم أنهم يعرفون أنه دوري، فدخلت وألقيت عليه التحية ولكنه لم يرد، فجلست أمام مكتبه الخشبي الذي يبدو أنه من مخلفات التواجد العثماني ببلادنا، والأدوات التي تملأ حجرته من مخاريط وجهاز صوتي أزراره محطمة، تعكس روح العصور الوسطى وذكرتني ببيطليموس والزهراوي وابن الهيثم، وبعدما كتب اسمي باللغة فرنسية في سجل قديم يكاد يملأ مساحة مكتبه، قال لي: اليمنى أو اليسرى؟، قلت له لم أفهم، فتجهم وجهه وقال الأذن اليمنى أو اليسرى؟ فقلت له: الإثنين معا. اليسرى بقت مسدودة منذ آخر زيارة لك، واليمنى تعاني من تموجات صوتية، وكأن كلامي لم يعجبه. فقال لي: استدر ووضع على رأسه مصباح يشبه مصابيح عمال الكهوف وفي يده منظار، ثم وضع في أذني مخروط معدني ومرر عبره قضيب معدني إلى أن لامس طبلة أذني، وقال لي كيف تشعر الآن؟ فقلت له: ألام حادة. فقال لي: جيد، ولم أفهم لماذا قالها، ثم قام وبدأ يكتب في الوصفة، ووصف لي فيها نفس الأدوية التي سبق وأن وصفها لي في الوصفات السابقة، فقلت له وما هي أسباب ألام أذني؟ فقال: إنه الإهمال، وواصل كلامه، سبق لي وأن حذرتك من أن تبتعد عن الماء، وحينها تذكرت مباشرة الحكيم طاليس، فسألته، ولكن كيف أن أبتعد عن الماء وأنا أشربه وأستحم به؟ فقال: كرهت من هذا الكلام، والمشكلة هي مشكلتك وليست مشكلتي، المهم الماء ابتعد عنه، فقلت له: حسنا سأفكر في حلول أخرى وربما سألجأ إلى التيمم، وسلم لي والوصفة، وحينها أدخلت يدي في جيبي لأدفع له حقوق العلاج، وعيناه ترافقا حركات يدي داخل جيبي، قلت له كم هو الثمن؟ فابتسم بتهذب، وقال ألف دينار فقط، فقلت له هذا كثير، بهذا الثمن ألا تعمقون ألام المرضى، فانزعج وقال لي، عليك أن تشتري الدواء من الصيدلية المجاورة لي، وعندما تمرض مرة أخرى إن شاء الله تسعدني خدمتك وأغلق الباب من ورائك، فخرجت من حجرته والكل يحدق في أذني، وبعدها قصدت الصيدلية المجاورة للعيادة، ورفعت رأسي لأقرأ اسمها لعلني أجدها >>صيدلية أفلاطون<<، وإذ بي أجدها >>صيدلية البركة<< وبمجرد أن وطأت بهو الصيدلية<< قام الصيدلي من مكانه وبدأ يجمع علب الأدوية من الرفوف ويضعها أمامي. في البداية اعتقدت أنه يحضرها لغيري، وإذ به قال لي هذا هو دوائك، فقلت له: أنا أحتاج الدواء الذي هو موصوف في هذه الوصفة، فأخذها من يدي بعنف وقرأها، فعرف أنه أخطأ في دواء واحد فابتسم في وجهي ليبرر عن خطأه وأرجعه إلى مكانه، فتعجبت في نفسي من قوة فراسته، إلى درجة أنني شككت فيه، على أنه كان يتنصت عن ما دار بيني وبين الطبيب الذي لا يفصلهما إلا جدار رقيق، وبدأ يخبرني طرق تناول الدواء، وقال هذه ستة إبر من نوع (غبرة)، وحينها تأكدت أن المقطع الأول مع الطبيب قد انتهي وسأبدأ المقطع الثاني مع الذين سيتناوبون على حقن جسدي بالإبر في العيادة.