كنت بين اليقظة والنوم وأنا أسمع دقات بعيدة متتالية على باب غرفتي، رفعت رأسي ونظرت إلى المنبه على يساري فكانت عقاربه تشير إلى 9.10د صباحا، وأصوات الحيوانات وهي تتقاتل في فيلم وثاقي على national géographique علما أني نمت وتركت التلفاز مشتغلا، فقلت بصوت مرتفع نعم أدخل، فدخل ومدّ يده إلى قفل الإنارة، فإذ بوالدي، فقلت بعد التحية، تفضل واجلس على كرسي المكتب، فلم يشأ أن يجلس أمام مكتبي وهو يكاد يختفي تحت الأوراق المكدسة والكتب المبعثرة، أتذكر أنه حمل كتابا كان أمامه مباشرة وعلى غلافه صورة لسقراط عريض الجبهة، تأملها في لمحة وجيزة ثم رماه، وملامح وجهه تدل على عدم رضاه عن ما رآه، ثم سحب الكرسي بجوار الباب وجلس، تنهّت ثم قال: كيف لك أن تستطيع العيش في هذه الوضعية المزرية ومع فوضى الأوراق وصور المجانين؟ فقلت له: لقد تعودت يا أبي على ذلك ولا أستطيع مفارقة هؤلاء المجانين. فقال: والصورة التي على غلاف ذلك الكتاب - وهو يشير بأصبعه إلى الكتاب الذي حمله قبل قليل- لمن تعود؟ فقلت له إلى سقراط. هل سبق لك وأن سمعت به؟ فقال: نعم، سمعت به لأول مرة من أحد الحصادين الذين كنت أحصد معهم الشعير بمناجلنا، وكان يقول لنا: إننا نشقى شقاوة سقراط، وحينها لم أكن أعرف من هو سقراط، معتقدا أنه أحد أساطير الحصاد، وإذ به هو يكتب الكتب، فقلت له: بل هو فيلسوف يوناني ولم يكتب كتابا بل حياته كانت كلها كتاب.
سكت ثم قال لي: أتعرف لماذا جئت إليك في هذا الوقت؟ فقلت له: لا لا أعرف. فقال: لقد مرت عشرة أيام على تخرجك ونيلك لشهادة الماجستير، والآن ما عليك إلا أن تنضم لآخوك في المحل لتساعده على تقطيع اللحوم وتنظيف أجهزة المحل، فهو لا يستطيع أن يتحمل أتعابه لوحده، خاصة وأن زبائن المحل صاروا كثرا. فقلت له: في الحقيقة يا أبي أنا باحث ولا أستطيع أن أعمل عملا آخر غير البحث، وما كدت أنهي كلامي حتى نهض من مكانه منفجرا في وجهي وهو يقول: ماذا تقول؟، باحث !، عن أي بحث تتكلم، أتظنون أنفسكم باحثين، وبالله عليك عن أي شيء تبحثون، هي أجبني؟ ثقل لساني قبل أن أجيبه- حينها شعرت أن هذا أصعب سؤال طرح علي في حياتي- فقلت له: نحن المهتمين بالفلسفة نبحث عن العالم السوّي وننقد كلّ مالا يتطابق مع المنطق والعقل وباختصار نبحث عن الحقيقة. فقال وهو يبتسم مستهزئا، الحقيقة !، وهل تعتقدون أن الحقيقة موجودة فعلا؟، وهل فلسفتكم علمتكم طيلة هذه السنين كيف تصلون إليها؟، ومن أعطى لكم الحق أن تنقدون الآخرين وما لا يرضيكم وأنتم لستم إلا بشرا مثلهم، ثم جلس وقال وهو يتكلم بصوت منخفض: لا يوجد شيء يسمى الحقيقة في هذا العالم، وكل واحدا فينا هو فريسة لآخر يراقبه وهو لا يشعر، وما نعرفه عن الحب والطيبة وغيرها من القيم ليست هي إلا خديعة، فنحن البشر نتقارب لتبادل الحاجات والمنافع لا غير، وعندما تكون طريقة حصولنا على حاجتنا صعبة نلجأ إلى الطيبة والحب والكلام المنمق، ولكن بمجرد حصولنا عليها تختفي تلك القيم، فكثيرا من الأصدقاء ما تخاصموا وصاروا أعداء لبعضهم البعض، وكم من الأعداء تصادقوا بسبب تقاسمهم نفس الحاجة والفريسة، فهي أوهام وكذب، وإنما حياتنا هي كلها صراع مستمر نشعر به عندما يواجهنا الطرف الأخر مباشرة وما عادا ذلك فهو مستتر وخفي، يختفي وراء الخير والمحبة والسلم، ثم التفت وهو يشير إلى التلفاز، أنظر نحن مثل تلك الضباع التي تترصد ذلك الأسد وهو مستلقي بجانب فريسته ليسترجع أنفاسه، وهم يحطون به يتضورون جوعا، فعالمنا لا يختلف كثيرا عن عالمهم إلا بشيء واحد، ألا وهو النفاق والكذب والخداع.
&أدهشني كلام والدي واعتبرته أفضل درس تلقيته في حياتي، فقلت له: إذا وما هو الحل؟ فقال: الحل هو العمل وأن تبني عالمك الخاص بجهدك، والشيء الوحيد الذي لا يخدعك في هذا العالم هو عملك وجهدك وما عادا ذلك فهو محل شك، وهذا هو الذي أردتك أن تقوم به، ثم قال: ألم تعلمكم فلسفتكم هذا الواقع؟ فقلت له: يكاد ينعدم باستثناء القلة، فقال: أتستطيع أن تخبرني باسم أحدهم، فقلت له: أبرزهم هو نيتشه، فقال هذا هو الفيلسوف الذي كان من الأجدر لكم قراءته والتعلم منه، أما ما عادا هذا فهو إلا نفاق وكذب، ثم قال وهل كتب كتبا، فقلت له نعم، له كتبا كثيرة أهمها" هكذا تكلم زرادشت"، فقال: أتقصد زراداشت الماجوسي، فقلت له تكاد أن تقول ذلك، سكت قليلا ثم قلت له: حسنا غدا سأباشر العمل مع أخي في المحل، فقام من مكانه قائلا: هكذا أريدك يا بني، قبل أن تباشر العمل سنعلمك كيف تقطع الأشياء قبل تقطيع اللحوم ثم انصرف.

.....يتبع
&