رغم ان آخر الأنباء تشير في وقت كتابة هذا المقال الى تفاؤل مشوب بالحذر إزاء فتح جزء من المجال الجوي البريطاني في وقت أقرب من ذلك الذي تحدث عنه الخبراء سابقا، فإن الصورة عموما تبقى قاتمة. فسحابة الرماد البركاني الآتية من آيسلندا لاتزال تجلس عاليا فوق البلاد مستفيدة من غياب الرياح التي يمكن ان تبددها ومجبرة الطائرات بالتالي على الاحتماء بأمان الأرض. ورغم أن ثمة أحاديث عن احتمال فتح الجو أمام بعض السفريات فجر الأحد، فهذا يظل من باب التمني لا أكثر.

لندن:إذا افترضنا جدلا أن الستار قد أسدل على أزمة العاصفة البركانية في هذه اللحظة، فإن الخسائر التي منيت بها شركات الطيران على وجه الخصوص فادحة حقا وتبلغ فوق المليار جنيه (1.53 مليار دولار) تبعا للتقديرات المحافظة. وهناك بالطبع صفوف المسافرين التي تراصت (حوالي 6 ملايين مسافر عبر مختلف مطارات أوروبا وخاصة في دولها الشمالية) وسيحتاج أمر إعادة المياه الى مجاريها في ما يتعلق بهم الى أيام.لكن هذا نفسه لا يشكّل سوى البداية. فعلى صعيد انقشاع السحابة نهائيا تتحدث تقديرات الخبراء والمشتغلين بالأرصاد الجوية عن أيام، تبعا للمتفائلة، وربما أسبوع أو اثنين تبعا للمحافظة... ولكن ربما ما بين ستة أشهر و18 شهرا تبعا لأكثرها تشاؤما.

وربما كان بعض البريطانيين في شيء من حيرة لأن البلاد، على غير المعتاد، تتمتع بسماء صافية في هذه الأيام... أو هكذا يبدو للعيان. لكن الواقع هو ان laquo;الرؤيةraquo; ليست هي المشكلة الأولى وإنما طبيعة الرماد البركاني نفسه. فهو يحمل في مكوناته مواد كيماوية آكلة لمعادن أجسام الطائرات إضافة الى جزيئات دقيقة من الرمل والزجاج كفيلة بتعطيل محركاتها في التو واللحظة. ويذكر ان طائرة تابعة شركة الخطوط الجوية البريطانية طارت عبر سحابة بركانية في العام 1982 أصيبت فورا بتعطل محركاتها الأربعة على أن قبطانها الماهر تمكن من الهبوط بها في سلام.وقد أدى هذا الوضع الجديد - الذي يمتد تأثيره ليشمل العديد من القطاعات الأخرى ذات الصلة مثل السياحة والفنادق والأهم من ذلك حركة الاستيراد والتصدير - لانخفاض مؤشر الفاينانشيال تايمز 27 نقطة الى مستوى 5797 في معاملات السبت. وكانت شركة laquo;بريتيش ايرويزraquo; للطيران أكبر المتضررين إذ هبطت أسهمها بواقع جنيهين و38 بنسا مع بدء التعامل في أسواق الأسهم.

وبريطانيا (ومعها آيرلندا بالضرورة) ليست هي الوحيدة التي تختنق بالسحابة البركانية. فقد أعلنت آيسلندا نفسها إضافة الى بلجيكا والدنمارك والسويد وفنلندا وهولندا والنرويج إغلاق مجالاتها الجوية. ولاحقا انضمت اوكرانيا وروسيا البيضاء (بيلاروس) الى هذه القائمة، وأغلقت المانيا معظم مطاراتها. وحتى روسيا أعلنت أنها تعاني من المشكلة - وإن كان بقدر أقل من هذه الدول - فأغلقت بعض مطاراتها فترات مختلفة من الوقت، وحدث الأمر نفسه في شمال ايطاليا المفترض نظريا ان تكون بعيدة عن مسار السحابة.

ويصح القول هنا إن laquo;مصائب عند قوم فوائدraquo;. ذلك ان إغلاق المجال الجوي البريطاني تحديدا وخسائر شركات طيرانها مثل laquo;بريتيش ايرويزraquo; وlaquo;فيرجينraquo; وlaquo;إيزي جيتraquo; وlaquo;ريانيرraquo; وغيرها يصبّان أرباحا هائلة في خزانة laquo;يورو ستارraquo;، صاحبة القطارات السريعة التي تربط بريطانيا بأوروبا عبر فرنسا بالنفق الطويل تحت laquo;المانشraquo; أو laquo;القنال الانكليزيraquo;، والى حد ما في خزانة شركات العَبّارات البحرية مثل laquo;Pamp;Oraquo;. فقد أصبحت تلك القطارات (والعبّارات لغير الذين في عجلة من أمرهم) هي الوسيلة الوحيدة للانتقال من بريطانيا وأوروبا والعكس.ونتيجة لهذا الحال، تدافع آلاف المسافرين لانتهاز هذه الفرصة بحيث وجدت يورو ستار أنها عاجزة عن الإيفاء بكل الطلب. ولذا فقد وجهت نصائحها الى الركاب بالعزوف عن الحضور الى محطاتها الرئيسية في لندن وباريس وبروكسيل الا إذا كانت لديهم تذاكر السفر. وقاد هذا بدوره للمرة الأولى منذ مولد الشركة الى تداول التذاكر في السوق السوداء بأسعار باهظة.

ولكن، وسط كل هذا الجو الكئيب، فإن النظرة المتأنية والتفكير الهادى يكشف أن استمرار إغلاق المجال الجوي لبريطاني، وإن كان كارثة على شركات الطيران، فهو لا ينطبق بالضرورة على المجالات الأخرى بكل ذلك القدر، على الأقل تبعا لمواقع الاقتصاد والمال الإلكترونية. فقد دفع بعض الخبراء الماليين الذي يدلون بمختلف آرائهم في الموضوع بأن القطاع السياحي على سبيل المثال، سيبقى كما هو. فكما أن بريطانيا لا تستطيع استقبال المزيد من السيّاح، فهي لن تفقد اولئك الموجودين على أراضيها بسبب انهم غادرين عن العودة الى بلادهم. ووجود هؤلاء السياح في بريطانيا - وإن كانوا مرغمين - يعني أن الفنادق والمطاعم والمقاهي والمتاجر وأماكن الترفيه ستظل في خدمتهم وجباية الأموال من جيوبهم. وحتى لو كان هذا بقدر أقل، فهو على الأقل يعوّض عن بعض الخسائر في هذا الوضع غير المألوف.

والشركات التي تعتمد على أعمالها الأجنبية لن تتأثر بشكل كبير أيضا. والشكر هنا للتكنولوجيا الحديثة التي تتيح للاجتماعات والمؤتمرات أن تعقد من خلال وسائل الاتصال الإلكتروني مثل laquo;سكايبraquo; وlaquo;ماسينجرraquo; وغيرها. وحتى في مجال التجارة الدولية فإن العجز عن التصدير يوازنه العجز عن الاستيراد، أي أن الخسائر في المبيعات تعوض عنها المكاسب في توقف المشتريات. هذا، طبعا، باستثناء الصادرات والواردات laquo;الهالكةraquo; كالأطعمة على سبيل المثال.لكن كل هذا بالطبع وضع laquo;غير طبيعيraquo; والشركات لا تحسب الأمور بهذه البساطة. ولذا فإن الخسارة الهائلة الحقيقية تكمن في توقف عجلة التجارة على هذا النحو. وقطعا فإن الاقتصاد البريطاني، الذي ذاق الأمرين خلال العامين المنصرمين جراء سحابة الأزمة المالية العالمية، ليس بحاجة الى أي سحابة أخرى تجثم على صدره مثلما يحدث الآن.