لا شك في أن الاجتياح الروسي لأراضي جورجيا قد دشن مرحلة جديدة في الوضع الدولي، مرحلة تهدد بتداعيات خطيرة متواصلة، واستقطابات تزيد من التوتر الدولي.
إن المقالات، والتعليقات، لا تزال منهمرة عن الموضوع، ومن ذلك تقارير إيلاف، الواردة من موسكو، والتي تردد ما يرد في الإعلام الروسي الرسمي، من تبريرات، ومحاولة إلقاء المسئوليات على الغرب، وآخر هذه التقارير تقرير 14 سبتمبر الجاري، المعنون quot;القوات الروسية تباشر مغادرة جورجيا وهي تلوح بأعلام النصر.quot;، نعم quot;أعلام النصرquot;، النصر على من؟ أهو انتصار الدب ولكن على من؟!!
الواقع أن الموضوع متشعب جدا، وذو جوانب كثيرة، وهو ما تبينه لنا التطورات الجديدة، وتقف عنده حصيلة ما نشر، وقيل حتى اليوم.
إن هناك، مثلا، الأسباب الحقيقية للغزو؛ المواقف الغربية والدولية، وهل من احتمال نشوء محور دولي واسع حول موسكو يجمع كل الأنظمة الشمولية، والشعبوية، مدعومة بمعظم فصائل اليسار، واليسار المتطرف بخاصة، وبقوى المعارضة في الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي؟ هناك علاقة الغزو بأنابيب الغاز والبترول، وبالمنافذ على البحر الأسود، والوصول للمياه الدافئة؛ هناك الانعكاسات العربية، الموقف السوري بالذات؛ دون أن ننسى الموقف الروسي من القوميات الأخرى، سابقا، واليوم، وثمة نقاط هامة أخرى تستوجب وقفات ولو مختصرة.
من جانبنا، فليس هذا هو مقالنا الأول في إيلاف، بل سبقه مقالنا في 15 آب المنصرم، تحت عنوان: quot;يعاقبون على استقلالهمquot;، كما نشرنا في العديد من المواقع العراقية والعربية مقالا عنوانه quot;ماذا يريد بوتين من جورجياquot;، وقبل ذلك، عدة مقالات في العام المنصرم عن شخصية بوتين، وعقلية المحيطين به، وكيف أنه سار لحد الغزو الروسي تحت شعار أندروبوف: quot;ليس المهم أن تضرب القبضة بل المهم أن تظل مشهرة على رؤوس الجميعquot;! ولكن هاهي القبضة قد هوت على رأس دولة صغيرة كل جريمتها استقلالها، وتقربها من الغرب، وتجربتها الديمقراطية.
ولا شك أيضا أن غزو روسيا إنذار لأوكرانيا ودول البلطيق، بسبب علاقاتها الوثيقة بالغرب، وحرصها على استقلالها، بل وربما أيضا حتى لدول توالي روسيا، كبيلوروسيا، وآذربايجان، ودول آسيا الوسطى، إنذار لها بأن أي محاولة للخروج ولو قليلا عن الخط الروسي، ستؤدي إلى أن تضرب القبضة إياها، سواء بالقوة العسكرية، أو التحريك الداخلي.
لقد كان منتشراً إلى ما قبل يومين أن روسيا ردت على الزحف الجورجي على جمهوريتي أوتيسيتا الجنوبية، وأبخازيا، ذاتي الحكم الذاتي، والتابعتين للسيادة الروسية وفقا لاتفاق رسمي بين الناتو وموسكو عام 1992، وهو اتفاق يقر بسيادة كل الجمهوريات السابقة، وحقها في الانضمام للناتو.
هذا ما انتشر على الصعيد الدولي، مما دفعنا، وغيرنا، لاعتبار التحرك الجورجي حماقة من الرئيس سكاشفيلي أوقعته في الفخ الروسي، المعد له بعناية منذ زمان. أما معلومات اليوم التي نشرت، ومن ذلك في صحيفة نيويورك تايمز المعارضة لبوش، فتبين أن الدبابات الروسية كانت قد دخلت أراضي جورجيا ليلا، وقبل أي تحرك من جورجيا لقواتها، ودخل الروس في يوم افتتاح أولمبياد بكين، مستغلين توجه كل الأنظار إلى هناك، كما تبين هذه المعلومات أن القوات الأوتيستية هي التي بادرت لضرب قرى جورجية. مع ذلك، فقد كان على الرئيس الجورجي عدم التصرف باستعجال، وأن يقدّر توازن القوى العسكرية، ويباشر فورا لطرح قضية العدوان على مجلس الأمن.
لقد اخترعت الدعاية الروسية قصة quot;عدوانquot; جورجيا على رعايا روس، وتنفيذها لquot;حملة إبادةquot;، موهومة، لتبرير عدوانها المسلح، وكانت روسيا قد شجعت سكان المنطقتين على طلب الجنسية الروسية مستغلة العداء مع الجورجيين، وقد تم منح هذه الجنسيات جماعيا منذ 2006، فاعتبرتهم رعايا روسا، جاءت لإنقاذهم من الإبادة. حتى لو صحت روايتها، فالواقع أنها دخلت الأراضي الجورجية لفرض استقلال الجمهوريتين الصغيرتين، تمهيدا لإلحاقهما، فشرعت حالا بعقد معاهدات دفاعية وأمنية معهما.
لقد كتبنا مرارا، كما كتب العديد من الكتاب، بأن من حق روسيا أن تستعيد مكانتها في الساحة الدولية، وأن تكون منيعة، قوية، مزدهرة، وإن من حق الشعب الروسي الشعور بالمرارة لما حدث بانهيار الاتحاد السوفيتي. كل هذا مشروع، ولكن هل بثمن العدوان على جمهورية صغيرة، مستقلة، انفصلت عنها؟ هل باستعمال سلاح النفط والغاز، ضد أية جمهورية سابقة تمارس حريتها في العلاقات الدولية؟ هل بالوهم الروسي القديم عن سلطان القوة العسكرية وحدها؟
أجل، إن المرارة الروسية مشروعة جدا، ولكن هل هذا يعني التفكير باستعادة الجمهوريات المستقلة، أو على الأقل إخضاعها للسياسة، والمصالح الروسية، وطلب الاعتراف بأن القوقاز منطقة نفوذها الخاص؟! هل بممارسة سياسة التصعيد في العلاقات مع الغرب، جريا وراء التكتيك المألوف باختراع بعبع خطر خارجي موهوم؟! هل بتأهيل ستالين في الكتب المدرسية، لا فقط كبطل في الحرب العالمية الثانية، وهو حقا كان بطلا، بل واعتباره ضحية الخطر الخارجي، وتبرير تجاوزاته الكبرى بهذا البعبع؟ هل في دعم دول كإيران الشمولية، التي تتحدى المجتمع الدولي، أو فنزويلا راعية إرهاب quot;الفاركquot;، أو زيمباوبوي الخاضعة لرئيس دكتاتوري دموي، وغيرها من دول مماثلة؟!
في مقالنا المعنون quot;هل تعود الحرب الباردةquot;، بتاريخ 26 فبراير المنصرم، علقنا على تصريحات بوتين النارية الهائجة، والمفاجئة، ضد الولايات المتحدة، واستخدامه لغة الحرب الباردة، وأوردنا عنوان مقال لوموند الفرنسية اليسارية وهو quot;الحنين للحرب الباردةquot;، وكذلك مقال الفيجارو المعنون: quot;حرب باردة حول الدرع المضاد للصواريخ.quot; في ذلك المقال كان تقديرنا أن عودة الحرب الباردة غير واردة، مستندين إلى حاجة كل من روسيا والغرب لبعض، وأشرنا لمجالات تعاون بين روسيا من جهة، وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، حول قضايا خطيرة كالنووي الإيراني، والنووي الكوري، فضلا عن أن الجميع يواجهون خطر حرب الإرهاب الإسلامي، واتفقنا مع الرأي الذاهب إلى أن ما يجري هو حرب المصالح.
ترى هل لا يزال تقديرنا معقولا بعد الغزو الروسي؟
نعتقد أنه لا يمكن الحديث اليوم عن أن الحرب الباردة قد عادت فعلا، مع أن صحفا بريطانية تحدثت عن quot;أول فصول حرب باردة جديدةquot;. ما يحدث هو نشوب توتر دولي خطير، يحتمل تداعيات متواصلة، وينفتح على عدة احتمالات معقدة، قد تكون أكثر خطورة، مما قد يؤدي ذلك تدريجيا إلى مشارف حرب باردة، ولكن بطبعة جديدة، وفي وضع جديد، وبموازين قوى متباينة، علما بأن وزير الخارجية الروسية يدلي بتصريحات التطمين، والتهدئة.العبرة على أية حال في المواقف العملية القادمة
إن مقال الفيجارو يتحدث عن انبعاث مذهب بريجنيف حول quot;السيادة المنقوصةquot;، وكان يقصد بذلك دول أوروبا الشرقية، واليوم يقصد أساسا الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي.
إن مجرى الأوضاع يعتمد على الموقف الروسي، وعلى الموقف الغربي، والأوروبي بالذات.
والسؤال هو: هل ستواصل روسيا التصعيد؟ وهل ستكون الجولة التالية ضد أوكرانيا لإزاحة زعيمها؟ المعلومات تقول إن روسيا خصت مليار دولار لتمويل حملة لتأييد ترشيح رئيسة وزراء جورجيا، لولا، الميالة لروسيا، في انتخابات الرئاسة في أواخر 2009 وأوائل 2010، وهاهي الأزمة تنفجر فعلا بين الرئيس الأوكراني، ورئيسة الوزراء، ولا شك في أن للتحريض الروسي دورا في الأزمة.
إن أوراق روسيا كثيرة، ولكن هل ذلك سيمكنها من مواصلة التصعيد قدما وبلا مقاومة؟ لا نعتقد، وسنعود لذلك في مقالنا القادم.