بحسب ما نُشر في وسائل الإعلام خلال الأسابيع الأخيرة، تدور داخل حركة حماس الإرهابية نقاشات غير مسبوقة حول مستقبلها بعد الحرب، تتضمن خيار التحول إلى حزب سياسي يعمل ضمن الإطار الفلسطيني الرسمي ويحمل هويتها الإسلامية - الوطنية. وأرى أن مجرد تداول مثل هذه الفكرة يشير إلى أن الحركة تدرك حجم التحولات التي فرضتها الحرب، وأن العودة إلى ما قبل مجزرة 7 أكتوبر لم تعد ممكنة. فالتطورات العسكرية والسياسية، والخطوط التي أعيد رسمها داخل غزة، تدفع الحركة دفعًا إلى إعادة تعريف دورها في النظام الفلسطيني.
وفي الحقيقة، لا يمكن فهم حديث حركة حماس الإرهابية عن التحوّل إلى حزب سياسي بمعزل عن السقف الجديد الذي تفرضه الوقائع على الأرض بعد حرب غزة، وفي مقدمتها الخط الأصفر الذي يعيد رسم الجغرافيا والنفوذ داخل القطاع. ومن وجهة نظري كمراقب، فإن الحركة لا تطرح فكرة الحزب من باب المراجعة الفكرية، بل لأن الخريطة الأمنية والسياسية التي يجري صياغتها– بما تتضمنه من مناطق إعادة إعمار محصورة، وانتقال سكاني من مناطق مدمرة إلى مربعات جديدة خلف الخط الأصفر الذي تشرف عليه وتديره دولة إسرائيل، وتشكيل مليشيات فلسطينية محدودة لحماية تلك المربعات – تدفع الحركة نحو نموذج سياسي مختلف، أقل قدرة على حمل السلاح، وأكثر خضوعًا لشروط الواقع الجديد.
وبحسب مراقبين، فإن التحول الحزبي هنا ليس خيارًا إراديًا، بل انعكاس طبيعي لتغيّر وظيفة الحركة ضمن غزة المعاد هندستها. ويبدو واضحًا، أن النقاش الداخلي داخل حماس لا يمثل مراجعة فكرية جذرية، بقدر ما هو بحث عن مخرج واقعي يحمي ما تبقّى من بنيتها وشرعيتها. فالحرب الأخيرة استهدفت بنيتها التحتية وقياداتها ومصادر قوتها، وتراجعت بيئة الدعم الإقليمي، وتزايد الضغط الدولي لإعادة هندسة المشهد الفلسطيني بالكامل. وفي تقديري، فإن الحديث عن حزب سياسي هنا هو أقرب إلى محاولة لتخفيف وطأة الاستهداف الدولي، والظهور كفاعل سياسي قابل للاحتواء، لا كتنظيم مسلح خارج السياق.
وهنا، ولتوضيح طبيعة هذا التناقض بين الطموح السياسي والسلوك العملي، لا بد من العودة إلى محطة مفصلية في تاريخ الحركة. فمن المعروف أن "حماس" ليست جديدة على العمل السياسي؛ فقد خاضت انتخابات 2006 وقدّمت نفسها حينها كخيار إصلاحي داخل النظام الفلسطيني، لكن ما إن وصلت إلى سدة الحكم حتى انقلبت على شركائها، واستخدمت كل وسائل التنكيل بعناصر السلطة الفلسطينية من السحل في الشوارع إلى رميهم من أعالي المباني، وذلك لفرض سلطتها على قطاع غزة.
وبلا شك، فإن هذا السلوك لم يكن مجرد خطأ تكتيكي، بل كان تعبيراً عن بنية عقائدية ترى الشراكة السياسية حالة ظرفية، لا خياراً وطنياً ملزماً. ولذلك، فإن أي حديث جديد عن تحول حماس إلى حزب سياسي سيظل محكوماً بسؤال جوهري، وتزداد أهميته اليوم على ضوء التحولات الجارية: هل يمكن لمن انقلب على شريكه الوطني أن يتحوّل فجأة إلى لاعب سياسي مدني ملتزم بقواعد اللعبة السياسية؟
الإشكال الحقيقي، في رأيي، أن العقيدة المنحرفة والتكفيرية الأساسية التي تستند إليها الحركة لم تخضع لمراجعة معلنة، لا نصاً ولا ممارسة. فخطاب "حماس" ما زال يقدّم نفسه باعتباره حركة مقاومة إسلامية ذات مرجعية أيديولوجية متطرفة واضحة، ترى الصراع مع دولة إسرائيل صراعاً مفتوحاً لا نهاية له، وتنظر إلى الطيف الفلسطيني الذي لا ينتمي لها بوصفه منحرفاً أو كافرا.
وهذا الواقع العقائدي، بطبيعته، يجعل أي حديث عن التحول الحزبي مشروطًا بمراجعات لم تظهر ملامحها حتى الآن.
وتتحدث تقارير متعددة عن صيغ تفاوضية يتم بحثها والنظر فيها خلف الكواليس، تتجاوز مفهوم وقف إطلاق النار التقليدي لتصل إلى ترتيبات أعمق تتعلق بالسلاح والأمن. بعض هذه الصيغ طرحها القيادي في حماس - موسى أبومرزوق - في مقابلة تلفزيونية، وهي تتضمن تسليم الأسلحة الثقيلة والإبقاء على الأسلحة الخفيفة، مع التعهد بحماية المستوطنات الإسرائيلية، وذلك مقابل الاعتراف بدور سياسي أو إداري للحركة في غزة.
وبالانتقال من ملف السلاح إلى ملف الجغرافيا وإعادة الإعمار، تتضح صورة أشمل للتحولات المقترحة. ويمكن كذلك النظر إلى هذه المقترحات في سياق أوسع، خصوصاً إذا ما قبلت الحركة – صراحة أو ضمناً – بواقع جديد يقوم على ما يسميه البعض منطقة “الخط الأصفر” الذي يقسّم غزة فعلياً إلى منطقتين مختلفتين في الإدارة والسيطرة.
وقد تبدو هذه السيناريوهات صادمة، لكنها، في الحقيقة، تعكس منطق البقاء الذي يتحرك بين البراغماتية والشعارات. ومن هذا المنظور تحديدًا، يصبح فهم سلوك الحركة في سياق الهدنة الطويلة ضرورة تحليلية. فمن وجهة نظري، فإن الحركة صراحة لا تسعى إلى سلام دائم بقدر ما تبحث عن هدنة طويلة الأمد، ربما لعقود. هذه المقاربة تعكس استراتيجية إعادة بناء القوة، وليس إعادة بناء السياسة. فالهدنة بالنسبة لهذه التنظيمات الإرهابية ليست نهاية الصراع، بل استراحة لإعادة ترتيب الصفوف وانتظار تغيّر الظروف.
وبذلك، يصبح مشروع التحول إلى حزب سياسي مجرد جسر بين مرحلتين، هما مرحلة الحركة المسلحة التي تواجه الاستهداف، ومرحلة التنظيم السياسي الذي يتحرك من داخل المؤسسات ويتغذّى على السلطة والمال، ويتدثر بخطاب ناعم يخفي جوهره القديم. وعند هذه النقطة، يصبح من الضروري تقييم الصورة كاملة قبل الحكم على جدوى هذا التحول.
بحسب ما أرى فإن ما يُطرح اليوم حول تحول حركة حماس إلى حزب سياسي يمثل محاولة أو مسرحية هزلية سمجة للهروب إلى الأمام، ويشير إلى أن الحركة تسعى إلى حماية مكاسبها وإعادة التموضع لا أكثر، وأن حركة حماس من الواضح أنها ستقدم كل التنازلات الممكنة لكي تبقى مهما كان حجم التنازلات المطلوبة منها.























التعليقات