يجد الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع نفسه على خط التماس الأخطر في الشرق الأوسط؛ حيث يتحرك كقائد مُقلَق من ماضيه المتطرف إلى رجل دولة براغماتي، فرحلته الدراماتيكية من مُدرَج على قوائم الإرهاب الأميركية إلى ضيف في البيت الأبيض تُلخّص التغيرات الجيوسياسية المدوية، لكن هذا التحول لم يكن هدية مجانية. فمنذ صعوده إلى الرئاسة أصبح الشرع يدير لعبة توازن مستحيلة حيث يتوجب عليه تحقيق التوافق بين مصالح الولايات المتحدة الساعية لإخراج سوريا من فلك طهران، وإسرائيل التي تفرض شروطًا أمنية صارمة، بينما يسعى هو لإعادة بناء دولة مزقتها الحرب. فهل يمكن لـ"آخر رجل يقف" في سوريا أن ينجو من هذه الضغوط المزدوجة ويحقق الاستقلال؟ أم أن ثمن الاعتراف الدولي هو التنازل عن سيادة بلاده؟
تفكيك الماضي: كيف تغيّرت النظرة الأميركية؟
كان الشرع قبل وصوله إلى الرئاسة شخصية مثيرة للجدل، مُدرَجًا على قوائم الإرهاب الأميركية، ولم يتوقع أحد أن يستقبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرئيس السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض نظرًا لماضيه كجهادي حارب إلى جانب تنظيم القاعدة. ومع ذلك شهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة أحداثًا استثنائية مع زيارة الشرع إلى مقرها وإلقائه خطابًا أمام الجمعية، وهذا كان الخطاب الأول لرئيس سوري منذ عام 1967. هذه التطورات تعكس جهود الشرع وحكومته الجديدة لتغيير الصورة النمطية لسوريا وتقديم نفسها كحليف محتمل للغرب.
في أيار (مايو) 2025 أعلنت وزارة الخزانة الأميركية تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا والسماح بتعاملات مع الشرع بعدما كان مدرجًا تحت اسم أبو محمد الجولاني. هذا القرار جاء بعد إلغاء المكافأة المالية المخصصة لمن يدلي بمعلومات تساعد في اعتقاله، وعقد لقاءات وصفها دبلوماسيون أميركيون بـ"الإيجابية" مع وفد أميركي رفيع في دمشق. ويعتبر هذا التحول في الموقف الأميركي دليلًا على تغيير في الاستراتيجية، حيث ترى واشنطن في الشرع قائدًا قادرًا على إخراج سوريا من فلك طهران وإعادة الاستقرار للمنطقة.
المصالح الأميركية في سوريا ما بعد الأسد
تتمحور المصالح الأميركية في سوريا ما بعد الأسد حول عدة محاور رئيسية، أهمها ضمان الاستقرار الإقليمي، مكافحة الإرهاب، وإعادة الإعمار. وترى الولايات المتحدة في أحمد الشرع شريكًا محتملاً يمكنه تحقيق هذه الأهداف، خاصة بعد تأكيده على سعي سوريا لبناء علاقات متوازنة مع جميع الدول. وتركز المطالب الأميركية على انضمام سوريا إلى "اتفاقيات أبراهام"، وطرد الفصائل الإرهابية الأجنبية من سوريا، وضمان الأمن الإقليمي، كما تهدف واشنطن إلى إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من دمشق لتعزيز وجودها في المنطقة.
تفاصيل المطالب والضغوط الأميركية
تتطلب المطالب الأميركية من سوريا التزامًا سياسيًا وأمنيًا كبيرًا، مثل انضمام سوريا إلى "اتفاقيات أبراهام" التي يمكن أن تمثل خطوة دبلوماسية كبرى من شأنها تعزيز العلاقات بين سوريا وبعض الدول في المنطقة وإسرائيل، أما طرد الفصائل الإرهابية الأجنبية بما في ذلك الفلسطينية فهو شرط أمني يهدف إلى نزع فتيل التوترات الإقليمية. وتُعد هذه المطالب جزءًا من استراتيجية أميركية أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، حيث يُنظر إلى الشرع كأداة أميركية لصناعة سوريا وفق مصالح إسرائيل ومحاولة لإحلال الجماعات الدينية في أنظمة الحكم في المنطقة.
الولايات المتحدة بقيادة الرئيس ترامب ملتزمة تمامًا بدعم الشرع ومقتنعة بقدرته على تغيير مسار سوريا، حيث يرى ترامب في الشرع قائدًا قادرًا على إخراج سوريا من فلك طهران. ويُعد هذا التقارب التاريخي بين سوريا والولايات المتحدة تحولًا إقليميًا له تأثيرات بعيدة المدى على توازن القوى في المنطقة، خصوصًا في ظل تباين مصالح القوى الإقليمية. ولا شك أن هذه المصالح المتشابكة تشكل تحديًا للشرع الذي عليه أن يتنقل بحذر بين هذه المطالب لضمان استقرار سوريا ومستقبلها.
الضغوط الإسرائيلية وشروط الأمن الإقليمي
في مقابل المصالح الأميركية تواجه قيادة الشرع ضغوطًا إسرائيلية قوية تتركز بشكل أساسي على الشروط الأمنية، بالرغم من أن الشرع صرّح بأنه "لا يثق بإسرائيل"، إلا أنه أقرّ بأنه "لا مفر من اتفاق قريب معها". وقد ربط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التعامل مع الشرع بالتعاون في إقامة منطقة منزوعة السلاح على الحدود. كما أن إسرائيل تحذر من تغيير التوازن العسكري في سوريا، وتخشى من صعود الشرع الذي يُنظر إليه كقائد يملك مشروعًا واضحًا للاستقلال عن الهيمنة الغربية. هذا التوتر يعكس مخاوف إسرائيلية عميقة من أي تحولات قد تهدد أمنها الإقليمي.
طبيعة المفاوضات ومطالب إسرائيل
تركز المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، والتي وصفها الشرع بأنها "تقدم نحو اتفاق أمني"، على العودة لاتفاقية "فض الاشتباك" القائمة منذ عقود. ومع ذلك تتجاوز مطالب إسرائيل مجرد التوافق على الحدود، فهي تهدف إلى ضمان عدم وجود أي تهديد عسكري من الأراضي السورية، بما في ذلك طرد الفصائل الأجنبية المسلحة التي قد تشكل خطرًا على أمنها. وهذه المطالب تعكس استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد للحفاظ على تفوقها الأمني في المنطقة.
تخوفات إسرائيلية وتوازن القوى
تتخوف إسرائيل من أي تغيير في ميزان القوى في سوريا قد يهدد أمنها، خاصة في ظل وجود الشرع. كما أن إسرائيل تخشى من صعود الشرع بسبب مشروعه الواضح للاستقلال عن الهيمنة الغربية، والذي قد يتعارض مع المصالح الإسرائيلية في المنطقة. هذا التخوف يدفع إسرائيل إلى فرض شروط أمنية صارمة، مما يجعل دور الشرع معقدًا في الموازنة بين هذه المطالب وضمان استقرار سوريا.
مستقبل سوريا في ظل قيادة الشرع
تعتبر قدرة أحمد الشرع على إدارة هذه التوازنات الدقيقة بين المصالح الأميركية والإسرائيلية والمصالح الوطنية السورية عاملاً حاسمًا في تحديد مدى استقرار سوريا ومستقبلها. فالتحديات التي يواجهها الشرع هائلة، بدءًا من إعادة إعمار بلد مزقته الحرب وصولاً إلى إعادة دمج سوريا في المجتمع الدولي.
التحديات الداخلية والخارجية
داخليًا يواجه الشرع تحديات اقتصادية واجتماعية ضخمة، تتطلب إعادة بناء البنية التحتية وتوفير فرص عمل وتحقيق المصالحة الوطنية، كما يتعين عليه التعامل مع القضايا المتعلقة بالعدالة للجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب. خارجيًا يتطلب منه الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية مع التأكيد على سيادة سوريا واستقلالها.
التعاون الإقليمي والدولي
يسعى الشرع إلى بناء علاقات مع الولايات المتحدة ويؤكد وجود مصالح مشتركة، كما يسعى لدعم روسيا في مجلس الأمن لتعزيز موقف سوريا. أما على الصعيد الإقليمي، يمكن للمملكة العربية السعودية أن تلعب دورًا مهمًا في إعادة إعمار سوريا، كما يمكن لتركيا أن تلعب دورًا مهمًا في استقرار سوريا في حال تخلت عن مطامعها في محاولاتها إلحاق سوريا بالخلافة العثمانية. ويمثل كل هذا شبكة معقدة من العلاقات التي يجب على الشرع إدارتها ببراعة لضمان مستقبل مستقر ومزدهر لسوريا. إن نجاحه في تحقيق هذا التوازن سيعيد لسوريا دورها كفاعل إقليمي مهم وينهي سنوات من العزلة.
























التعليقات