أشهر صعبة تختصر رحلة "خطف" فيها طيار وطاقمه من قبل تاجر مخدرات دولي لبناني الأصل، عبر تلقي الكابتن اتصالا على هاتفه الفضائي من أحد أفراد العصابة يهدد فيها بتنفيذ الأوامر تحت طائلة سلامتهم الشخصية وإفشاء أسرارهم، إلا أن الطاقم تمكن من مراوغة المهربين بصعوبة وبمساعدة الانتربول نال البراءة عندما شهد على الواقعة بتفاصيلها.


بعد عشر دقائق على إقلاع الطائرة تلقى قائدها اتصالًا على الهاتف الفضائي. وقال المتصل بالانكليزية إن عليه أن يواصل الطيران إذا أراد ألا يحدث شيء لأفراد الطاقم أو لعائلاتهم التي خلفوها وراءهم.&

كان التهديد حقيقيًا لا يمكن الاستهانة به. إذ حرص مهرّبو المخدرات على إفهام الطيار أنهم إلى جانب رقم الهاتف الفضائي يعرفون بيانات جوازات مرور أفراد الطاقم وبلدانهم الأصلية وعناوينهم. يضاف إلى ذلك أن المضيفة تحدثت عن حياتها الخاصة مع امرأة لبنانية اسمها ريما طاؤوق.

الفوضى تعم مقر شركة الطيران في سويسرا، حيث يتذكر الجميع قصة الطائرة، التي حُملت بالمخدرات في كراكاس عام 2004. وانتهى الأمر بمصادرة الطائرة وسجن مساعد الطيار في فنزويلا. وهو سيناريو مرعب بالنسبة إلى رئيس الشركة السويسرية إيريك فايسكوبف، الذي لا يريد أن يفقد الطائرة التي يملكها رجل أعمال ألماني.&
&
1 % شك
الشركة تثق بالطيار كارل لوكيرت 99 في المئة، ولكن هناك 1 في المئة من الظنون بأن أفراد الطاقم قد يكونون طرفًا في المؤامرة. في قمرة قيادة الطائرة التابعة لشركة غلوبال إكسبريس لا يتوقف الهاتف عن الرنين، ويريد المتصل أن يعرف أين تحلق الطائرة على وجه الدقة. ويتوقع أفراد الطاقم أن تكون الطائرة تحت المراقبة الأرضية أيضًا.&&

لا أحد على متن الطائرة يعرف ماذا تحوي الأكياس البيضاء وأفراد الطاقم يخافون أن يفتحوها. إذ قد تكون هناك قنبلة مخفية فيها. يضاف إلى ذلك أنهم قلقون من وجود متفجرات على متن الطائرة، وقد تكون مربوطة بأجهزة رصد لتحديد المواقع ومبرمَجة للانفجار إذا خرجت الطائرة عن المسار الذي أمر المهرّبون باتباعه.

طاؤوق تأمر
ريما طاؤوق تتصل على الهاتف الفضائي معتذرة، لأن الأمور لم تجر حسب الخطة المرسومة. لكن الطيار لوكيرت يفقد أعصابه ويصرخ في الهاتف متهمًا إياها بتخريب حياة أفراد الطاقم. يخاف أفراد الطاقم من أن يُقتلوا حين تهبط طائرتهم في غضون ست ساعات. لكن طاؤوق تقول للطيار إن عليهم مواصلة الرحلة إلى بنين، وإنها ستدبر إرسال صهريج وقود يكون بانتظارهم هناك. وما إن ينتهوا من تفريغ حمولتهم تستطيع الطائرة مواصلة رحلتها إلى أوروبا، كما قالت لهم.&

أفراد الطاقم لا يصدقون كلمة مما قالته ريما، والطيار ومساعده يفكران في صرف النظر عن التوجّه إلى أفريقيا أصلًا. ويتصل أفراد الطاقم بعائلاتهم، فيما يطلب الطيار من صديقته أن تأخذ ابنتهما وتختفيا في مكان ما. واتصل الطيار بالشرطة الدولية "أنتربول" في فرنسا، التي وعدته بالعودة إليه، بعد قليلة، ولكنها لم تفعل.&&
&
تغيير المسار
في النهاية اتصلت شرطة "الانتربول" في مقر شركة الطيران في سويسرا. وأجرى المحققون تحريات في فنزويلا حيث قيل لهم إن الطائرة مسروقة. كما حذرت الانتربول من الهبوط في بنين قائلة ان اخراج الطائرة أو افراد طاقمها من البلد سيكون صعبا.& واخيرا قررت الانتربول إرسال عناصر لحماية عائلات افراد الطاقم.&

حان الوقت لتنفيذ خطة بديلة. وفي مقر الشركة كان خبراء يعكفون على حساب المسافة التي يمكن أن تقطعها الطائرة بما لديها من وقود. ومن بين سائر الوجهات الأوروبية فان جزيرة غران كناريا هي الأقرب. لذا توافق الانتربول على هبوط الطائرة في جزر الكناري، واعدة افراد الطاقم بتوفير الحماية لهم كشهود في قضية تهريب مخدرات.&

يغير الطيار لوكيرت مسار الطائرة، ويقفل جهاز الاتصال الذي يحدد موقعها. وبذا تكون الطائرة غير مرئية عمليًا. كما يرتفع الطيار الى 14 الف متر للخروج من المجال الجوي الذي تستخدمه الطائرات المدنية عادة. وحين يتصل مهربو المخدرات سائلين عن موقع الطائرة يعطيهم افراد الطاقم إحداثياتها من المسار الذي حددته العصابة لهم الى افريقيا.

مراوغة المهربين
صوت المتصل يقول للطيار ان يغير مساره الى بوركينا فاسو ويعطيه اسماء عدد من المطارات غالبيتها مطارات عسكرية. لكن طائرة غلوبال اكسبريس لا تستطيع الهبوط في كل مطار بسبب مواصفاتها. كما ان المدرج يجب ان يتحمل 45 طنا. يتجه الطيار نحو جزيرة غران كناريا، ويغلق الهاتف الفضائي لدى الاقتراب منها. وحين تهبط الطائرة فانها تهبط& قبل 45 دقيقة على موعد هبوطها، الذي فرضه المهرّبون في افريقيا.&

كانت السلطات الاسبانية بانتظار الطائرة، حيث استقبل افراد طاقمها ضباط امن ملثمون، وأخذوهم الى مكان مجهول. بذلك تمكن الطيار ومساعده وافراط الطاقم الآخرون الذين لم يناموا من خداع مهرّبي المخدرات. لكن هذه لم تكن نهاية الرحلة. إذ نُقل افراد الطاقم الى زنازين في المطار أولًا ثم الى مقر الشرطة في جزيرة لاس بالماس.

قطعة مطاط للنوم عليها
بدأ افراد الطاقم يدركون ببطء ان الأمور لا تجري على ما يرام في جزر الكناري. فمساعد الطيار يعرف بعض الاسبانية، وسمع رجال الشرطة يقولون "سنعطي الضئيل منهم ثلاثة أو اربعة كؤوس بيرة وستنفك عقدة لسانه". إذ يُنظر الى افراد الطاقم جميعا على أنهم متهمون، وحُبسوا انفراديا في زنازين في القبو، لا يدخلها الضوء، وليس فيها مرحاض. وتسلم كل واحد منهم قطعة مطاطية للنوم عليها.&

وهنأ الاسبان أنفسهم على وقوع صيد سمين من مهربي المخدرات بأيديهم. لكن رئيس الشركة التي تملك الطائرة ايريك فايسكوبف لا يستطيع حتى الآن ان يفهم ما حدث تاليا.&& فان جميع الوعود التي قدمها الشخص الذي اتصل به من الانتربول لم تُنفذ، والضحايا تحولوا الى مجرمين. يضاف الى ذلك ان محامي الدفاع الذي عينته المحكمة لا يستطيع ان يفعل الكثير بعدما قيل له ان ملفات القضية وثائق مصنفة. والقاضية التي تنظر في القضية أخذت اجازة أمومة، في حين ان بديلها لا يفعل شيئا.&

وبعد ثمانية اسابيع على هبوط الطائرة في لاس بالماس، كان افراد طاقم الطائرة ما زالوا وراء القضبان، والطائرة عالقة في اسبانيا، والشركة تخسر عشرات آلاف اليوروهات كل يوم، ومالك الطائرة بدأ يشعر بالغضب.

في السجن مع منحرفين
في فنزويلا قال وزير الداخلية الفنزويلي طارق العيسمي في مؤتمر صحافي ان السلطات افترضت ان الطائرة خُطفت. وان المسؤولين اتصلوا بالأمم المتحدة وبدأوا التحقيق على الفور. وامتنع الوزير عن الاشارة الى ان افراد الطاقم هم الذي اتصلوا وسلموا أنفسهم. وبذلك يبدو كل شيء ضد الطيار لوكيرت وافراد طاقمه.

في هذه الأثناء قامت الشرطة الاسبانية بوزن وفحص 47 كيسا كانت على متن الطائرة فيها 1588 كلغم من الكوكايين. لكن التحقيق يتحول الى مهزلة. فجهاز التسجيل في قمرة القيادة الذي يمكن ان يقدم معلومات في غاية الأهمية لم يُؤخذ من الطائرة إلا بعد اسابيع. وخلال هذه الفترة صعد افراد الشرطة مرات عديدة الى الطائرة حيث كانوا يشغِّلون مولدها الاحتياط، وبذلك إبقاء جهاز التسجيل عاملا باستمرار ليسجل اصواتا جديدة على الأصوات التي سجلها خلال رحلة الطائرة عبر المحيط. وحين قررت الشرطة الاسبانية الاستماع الى التسجيل لم تسمع إلا اصوات افرادها الذين صعدوا الى الطائرة. وتجري الشرطة الالمانية تحقيقها الخاص بها، وتقدم أدلة الى سلطات جزر الكناري تبرئ ساحة افراد طاقم الطائرة، بحسب مجلة شبيغل في تقريرها عن القضية.

أُلقي عدد من الفنزويليين في السجن الذي يُحبس فيه افراد طاقم الطائرة. وبدأ الخوف ينتاب افراد الطاقم من ان يستخدم مهربو المخدرات نزلاء في السجن للانتقام منهم لأنهم أجهضوا عملية التهريب.&

اخيرًا تحقق بعض التقدم في تشرين الأول/اكتوبر عندما تمكن الطيار لوكيرت من مقابلة مدير السجن، واستطاع والداه جمع 60 الف يورو لدفع الكفالة التي حددتها المحكمة مقابل الافراج عنه وعن افراد طاقمه. وأصبحوا طلقاء، لكنهم ممنوعون من مغادرة اسبانيا. وأُعيدت الطائرة الى مالكها.&
&
شرطة لبنان
في غضون ذلك سلمت امرأة نفسها الى الشرطة اللبنانية في بيروت، قائلة انها ريما طاؤوق، وافقت على ان تكون مسافرة على الطائرة مقابل 30 الف يورو وعدوها بها. وقيل لها ان الطائرة ستحمل شحنة ممنوعة، ولكنهم لم يقولوا شيئا عن مخدرات، كما ادعت.&

الرجل الذي اتفق معها للقيام بهذه المهمة معروف بين الأجهزة الأمنية الدولية. اسمه علي قليلات، وهو من أكبر الحيتان في تجارة المخدرات والسلاح الدولية. ولديه ستة اسماء مستعارة على الأقل، وسنة ميلاده تكون احيانا 1970 واحيانا اخرى 1963. ولديه جوازات سفر من ليبيريا وهولندا وفنزويلا ولبنان.&

هوية جديدة
هناك حتى تقرير اعده مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة عن قليلات يركز على بيع اسلحة في عام 2003 الى ليبيريا. وبحسب التقرير فان احدى شركات قليلات كانت ضالعة في نقل 300 كلاشنكوف و700 طلقة الى نظام تشارلس تايلور. ويعتقد محققون ان قليلات ضالع في صفقات أخرى عدة لبيع السلاح.&

ولدى السلطات الالمانية ايضا ملف عن قليلات. وتنقل مجلة شبيغل عن مصادر المانية ان قليلات "كان مرات عديدة هدف اجهزة تحقيقات دولية للاشتباه في مشاركته في تجارة المخدرات والسلاح الدولية". وفي عام 2011 ضُبطت طائرة في جمهورية الدومنيكان تحمل 1.1 طن من الكوكايين. وتوصل المحققون الاميركيون الى ان قليلات على الأرجح ضالع في العملية وبدأوا عملية مطاردة دولية. وفي شباط/فبراير تكللت مطاردتهم بالنجاح حين اعتُقل قليلات في بروكسل.&
&
اليوم قليلات موقوف في سجن محروس باجراءات أمنية مشددة، ويرافقه الى جلسات المحكمة ستة ضباط يرتدون سترات واقية من الرصاص. وقرر القضاء البلجيكي ان بالامكان تسليم قليلات الى الولايات المتحدة، رغم ان القرار ما زال ينتظر من وزارة العدل البلجيكية ان تبت فيه نهائيا.

اجمالا حُبس 18 شخصا بالارتباط مع قضية قليلات بينهم 9 من افراد الحرس الوطني البوليفي واثنان من هيئة الطيران المدني وعميل في الخدمة السرية ومراقب جوي.& وجميعهم تسلموا مبالغ نقدية تتراوح من 19 الف يورو الى 188 الف يورو قبضها ضابط في الحرس الوطني البوليفي. ويُقال ان مجرما اسمه ايفرين بيريدا كان حلقة الوصل بين العصابة المحلية وعصابات المخدرات في كولومبيا.

مرت اشهر قبل السماح لأفراد طاقم الطائرة بالعودة الى المانيا، ونحو 6 اشهر قبل ان تغلق السلطات الاسبانية القضية الجنائية ضد الطيار لوكيرت وافراد طاقمه. واعطته الشرطة الالمانية هوية جديدة، وهو اليوم يعيش مع عائلته في مدينة أخرى. لكنه يقول ان لا شيء اليوم كما كان قبل هذه الحادثة.