عمان - بسام البدارين

ثلاثة اسباب تدفع اي مراقب سياسي او اعلامي في الاردن لتجنب تجاهل المداخلات السياسية والنقدية التي نقلت مؤخرا عن مدير جهاز المخابرات السابق محمد الذهبي واثارت موجة غير مسبوقة من الجدل الداخلي.
السبب الاول ان الذهبي هو اول مدير امني رفيع المستوى يتحدث علنا وبسرعة بعد خروجه من الموقع ويطرح مناقشات نقدية علنية، والثاني التأثير الارباكي المتوقع لتعليقات الجنرال الذهبي على وضع ومصير ومستقبل حكومة شقيقه الرئيس نادر الذهبي.
والسبب الثالث هو الانطباع العام بأن ما قاله الذهبي او سمح بنقله على لسانه وفيما يخص تفاصيل وموضوعات حساسة يتعاكس واحيانا يتناقض مع الاجراءات العملية التي حصلت في نفس الاطار عندما كان الذهبي الرجل الابرز في فوهة القرار.
عمليا يملأ الذهبي الدنيا ضجيجا منذ تسعة اشهر تقريبا في البلاد باجتهاداته المثيرة سواء عندما كان في قمة صناعة القرار او عندما اخلى موقعه لكن واقعيا لا احد يعرف حتى الآن بصورة محددة التكتيك المستوطن في ذهن الرجل من وراء الاجتهادات السياسية والاعلامية التي خرق فيها القواعد المألوفة وفجر الجدل وفتح بعض الملفات الحمراء.
وفي عمان اليوم لا يوجد خلاف ابدا على مستوى ذكاء وحيوية وشباب وثقافة الجنرال الذهبي وديناميكيته في الحكم او بعيدا عنه، ولا يوجد خلاف اطلاقا على انه من الطراز الذي يعرف تماما ما الذي يفعله فألد خصومه يعترفون بذلك.
لكن يوجد خلاف مزمن عند طرح السؤال الحائر الذي يدور بقوة بين كل المعنيين في البلاد الآن .. لماذا يفعل الذهبي ما يفعله؟ والمقصود لماذا سارع وفي اليوم الاول بعد التقاعد لزيارة احد الاعلاميين في منزله من ضحايا الاقصاء في عهده؟، ولماذا تقبل بسرعة على الاقل عشر دعوات اجتماعية خلافا لما يفعله جنرالات الامن بالعادة؟ والاهم لماذا تحدث في قضايا حساسة وبزاوية نقدية في المجالس الاجتماعية قبل ان يتوج الامر بحديث صحافي مع كاتب يساري اشكالي انجز- اي الحديث- بلغة حريصة ولماعة على قياس الفكر الذي يتبناه الكاتب وتياره السياسي؟
الاجابات هنا ايضا حائرة ولا تبدو متاحة ببساطة لكن الحيثيات التي يرددها اصدقاء الذهبي والمقربون منه تشير الى ان الرجل رفض او تجاهل خمس دعوات على الاقل وجهت له بعنوان الهدوء والصمت، كما فعل اسلافه سميح البطيخي وسعد خير وغيرهم... بين هذه الدعوات رجاءات عائلية وثلاث منها على الاقل حركها شقيقه الرئيس نادر عبر اصدقاء مشتركين.
وفي عمان اليوم ليس سرا ان الذهبي الجنرال تمتع دوما بسحر خاص وبجاذبية سياسية واعلامية، فقد كان معجبا بالمساحات السياسية التي تخطها تجربة نظيره المصري عمر سليمان مع تحفظات على بعض التفاصيل وفتح قنوات الاتصال والتحاور مع كثيرين قبل ان يتورط بشبكة محبين او مدعي ولاء لشخصه الحقوا بتجربته في المحصلة ضرارا كبيرا. وما نقل صحافيا على لسان الذهبي الجنرال مؤخرا عبر صحيفة 'الاخبار' اللبنانية المحسوبة على المقاومة وتلقفته المواقع الالكترونية باستثناء اهمها 'عمون' يعيد ترسيم حدود تجربة هذا الرجل الذي دخل سواء خطط لذلك ام لم يفعل التاريخ السياسي الاردني الحديث عندما دخل في لعبة الحكم وعندما خرج منها ايضا.
لسبب او لاخر يرفض كثيرون القسوة على الذهبي ولسبب او لاخر استفز الرجل الكثيرين بنشاطاته المثيرة بعد ترك الموقع مشكلا بصرف النظر عن الوقوف معه او ضده حالة مستجدة لم يعهدها المشهد من قبل فمدير المخابرات الاسبق الوحيد الذي دخل المعترك السياسي بعد التقاعد بسنوات واصطف لجانب الرؤية النقدية هو احمد عبيدات لكن الامر في حالة عبيدات تطلب عدة سنوات ثم رئاسة الوزراء.
ومن الواضح للمراقبين ان تحركات الذهبي الاخيرة تتأسس على هامش التسامح ورحابة الصدر التي يتمتع بها الملك عبدالله الثاني شخصيا الذي يعرف رجاله بأنه يحتمل الحوار وبان بامكانهم الاستقلال برأيهم وبان ثقافته الشخصية والذهنية لا تتقبل فكرة العقاب على رأي، ففي الاردن لا مجال لمطاردة اي كان بسبب اجتهاداته وارائه.
حصل ذلك مع عبيدات وقبله مع عبد الكريم الكباريتي وعدنان ابو عودة وغيرهم ممن اختلفوا بالرأي مع القصر وعليه يستطيع الذهبي القول بان من حقه الشخصي كمواطن وحتى كمسؤول سابق ان يفكر ويبادر ويحاور ويناور مادامت الحالة الحوارية تشمل اخرين ولا تنطوي على خروج من النظام او عليه.
وهذه الحجة قد تكون مقبولة ومعقولة وممكنة لكنها صعبة للغاية بالنسبة للجنرال الذهبي، فالرجل واحد من اهم وارفع مسؤولي الامن في السنوات العشر الماضية والتحاقه بدائرة الشغب المعقول بمضمون سياسي مسألة ممكنة لكن تجاوز ذلك لمستويات غير المعقول مسألة غير مجربة حتى الآن الا انه يمكن القول ان ردود الفعل بكل الاحوال ستحكمها التفاصيل ومستويات استرسال الجنرال الذهبي فيما هو فيه.
والمهم ان الذهبي من حيث خطط او لم يفعل فرض اليوم سابقة يمكن ان يحتفل بها الديمقراطيون والاصلاحيون ودعاة التغيير والحريات الاعلامية، فلا يوجد لجمهور المجتمع المدني ما هو افضل من الاستفادة وطنيا من الملاحظات النقدية التي يمكن ان يطرحها جنرالات الامن السابقون خصوصا عندما تصدر عن اقلام يسارية صاحبة وجهة نظر في المسائل والقضايا، ذلك قد يشكل اضافة حقيقية وجوهرية للحياة السياسية في بلد يتقرر فيه الانفتاح في اعلى المستويات بشرطين الاول يتمثل في ان لا تكون الاهداف شخصية او مبنية على اسس شخصية ضيقة، والثاني يتعلق بتوفر حد ادنى من الانسجام بين الممارسة والفكرة لان الأنقلاب على الممارسة الذاتية شيء وتطوير اليات التفكير شيء اخر تماما.
وهنا يبرز الاشكال في الكلام المهم الذي ينقل عن الذهبي بعد ان تمنع الرجل عن نفي او تأكيد ما نقلته صحيفة 'الاخبار' اللبنانية عنه وما ينقله يوميا عنه مجالسوه او الوسطاء الذين استخدمهم في الماضي بالرغم من ان ناشر الحديث المثير وهو الصحافي ناهض حتر اوضح لاحقا بان ما نشر هو مقال تحليلي وليس مقابلة صحافية.
ووفقا لمقتضيات المقال او المقابلة التحليلية اياها وعلى سبيل المثال دعا الذهبي بعد خروجه لتقارب مع سورية وحزب الله وحماس وايران وثقافة المقاومة عموما كما يفهم من الكلام المنشور، لكن سجل الممارسة العملية يقول بأن عهد الذهبي تخللته قصة اسلحة حماس التي تخزن في الاردن، واشارة علنية في اجتماع عام بعد مقتل ابو مصعب الزرقاوي فهم منها توفر القدرة الامنية على احضار حسن نصرالله مكتفا بمعنى اعتقاله.
وسجل الممارسة يقول ان مرحلة الذهبي في الادارة تتناقض مع المضمون الذي نشرته صحيفة 'الاخبار' فسورية اتهمت بدعم خلفي لخلية الجيوسي التي حاولت تفجير مقر المخابرات العامة وايران اتهمت بدفع حماس لتنظيم عمليات في الساحة الاردنية وبان حماس وخصصت عشرة ملايين دولار لدعم مرشحي جبهة العمل الاسلامي في الآنتخابات الاردنية وبأن التكتيك الذي اتبع في تزوير الانتخابات الاخيرة كان هدفه الوطني ابعاد مرشحي حماس.
وفي النتيجة لم يؤكد الذهبي او ينفي تسجيله مقابلة صحافية وكاتب هذه المقابلة المفترضة قال بانه اعتمد على اراء للذهبي قالها في مناسبات عامة لكن ما نشر لم يسمعه احد من الذهبي علنا او حتى سرا خلافا لانه يتناقض تماما مع توجهات وقرارات ملموسة وعلنية لادارة الذهبي عندما كان في مستوى القرار، مما يدفع الرجل لواحد من خيارين اما الاعلان عن تغير وتبدل قناعاته وتراجعه عن سياساته في الماضي او الاعلان عن عدم تسجيل اي حديث مع اي صحيفة، وهو خيار بات مطروحا الآن.
في المحصلة، ما يمكن تلمسه هو الاثار العاصفة للسابقة المثيرة التي اجترحها الجنرال الذهبي بحيث تغيرت الآن الكثير من المعطيات على الارض وهي مسألة تشغل ذهن الجميع الآن لكنها على الارجح ستبقى مستقرة في الذهن السياسي لسنوات طويلة وستغير بعض الوقائع بصرف النظر عن استرسال الجنرال الذهبي او اقتناعه لاحقا بتخفيف الرتم وتسكين الايقاع.