علي الغفلي

ليست المفاوضات المباشرة أمراً سيئاً بالضرورة، إذ إنها تعد أحد أنماط التفاعلات الدبلوماسية بين الأطراف الدولية، وكان بالإمكان أن ينسحب هذا الوصف على المفاوضات المباشرة التي بدأت هذا الأسبوع بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، غير أن بعض الحقائق تقف حائلاً دون ذلك . من ذلك، أن المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين كانت قد اكتسبت الغطاء الرسمي العربي قبل نحو أربعة شهور، ولكنها لم تلبث أن تعثرت، وليس من الواضح أن الجانبين قد توصلا من خلالها إلى أية نتائج ذات أهمية، وهي لذلك لا تمثل خلفية جيدة تبرر الدخول في المفاوضات المباشرة بالمستوى المطلوب من الثقة . كما أن غياب النتائح المرجوة من المفاوضات غير المباشرة يشير بشكل مؤكد إلى إخفاق الطرف الثالث الرئيسي فيها، وهو الولايات المتحدة، في القيام بمهام الوساطة والتقريب بين وجهات نظر الفلسطينيين وrdquo;الإسرائيليينrdquo;، ولم ينل ذلك الإخفاق نصيبه اللازم من التوضيح من حيث تعيين الأسباب التي أدت إليه وتحديد كيفية منعه من التأثير سلباً في المفاوضات المباشرة . من الواضح إذاً أن المفاوضات المباشرة لا يمكنها أن تستفيد من أي مخرجات إيجابية مفترضة أو دروس مستفادة من سابقتها غير المباشرة، وهذه الحقيقة بحد ذاتها تصنع توجساً عميقاً حول موضوعات وآليات المواجهة الدبلوماسية بين فريق السلطة وفريق بنيامين نتنياهو، في أجواء تتناقص خلالها التدخلات المساعدة من قبل وساطات الطرف الثالث .

يدخل الطرف الفلسطيني في المفاوضات المباشرة ضمن انطباع حقيقي، مفاده أن السلطة الفلسطينية تعرضت إلى ضغوط أمريكية قاسية بهدف جرجرتها إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وهو أمر مفهوم على أية حال نظراً للموقف الضعيف الذي تجد فيه نفسها في مواجهة تشدد نتنياهو الذي وجد بدوره دعماً إضافياً في تصلّب أوباما .

واقع الأمر أن تقوية موقف الرئيس عباس ليست مسؤوليته وحده، إذ كان ينبغي أن يجد القائد الفلسطيني الدعم اللازم من قبل الدول العربية، والتي ما كان ينبغي لها أن تسمح له بالدخول في مواجهات المفاوضات المباشرة من دون أن تمده بكل ما من شأنه أن يدعم موقفه التفاوضي من جهة، ويضع الحدود المعقولة للضغوط التي يمكن أن تمارسها حكومة نتنياهو وإدارة أوباما عليه من جهة أخرى، ولكن هذا لم يحدث للأسف . بإمكان الرئيس عباس أن ينقل إلى القيادات العربية حجم الضغط الكبير الذي مارسته الدبلوماسية الأمريكية عليه من أجل أن يقبل التفاوض مباشرة مع ldquo;إسرائيلrdquo;، ولكن كان ينبغي على الحكومات العربية المعنية أن تستخدم فهمها الخاص لمخاطر السماح لحكومة نتنياهو بالانفراد بالسلطة الفلسطينية، وأن تتشدد بدورها في المطالبة بتحديد المرجعية المناسبة للمفاوضات وكذلك توفير الضمانات المطمئنة التي يحتاجها الفلسطينيون بشكل خاص والعرب بشكل عام .

يتحمل كل من الفلسطينيين والعرب نصيباً هائلاً من مسؤولية الضعف المسيطر على الدبلوماسية الفلسطينية في المفاوضات المباشرة الجارية حالياً، وذلك باعتبار الإخفاق المدوي في توحيد الصف الفلسطيني . لقد فات أوان المطالبة باحتواء الخلافات بين معسكري فتح وحماس، وحان أوان دفع ثمن الانقسام المشين بين الأشقاء الفلسطينيين . ما فتئت أقلام المناصرين للقضية الفلسطينية وأصوات المتعاطفين مع التسوية العادلة لحقوق الشعب الفلسطيني تناشد القادة العرب الاجتهاد في التقريب بين الجناحين المتناحرين والنجاح في رأب الصدع بينهما، وذلك في ظل الفهم العام والمبدئي بأن الوحدة الفلسطينية هي مصلحة كبرى تجسد مطلباً أساسياً لا غنى عنه بالنسبة لدعم جهود المقاومة المسلحة وخوض دهاليز الدبلوماسية السلمية على حد سواء . لقد ذهبت مطالبات الوحدة الفلسطينية أدراج الرياح . وليس من شأن المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; أن توفر الأجواء المناسبة لإحياء الآمال الواقعية بإمكانية جمع الشمل الفلسطيني . بل إن العكس صحيح، إذ من المؤكد أن أحد أسوأ تفاقمات هذه المفاوضات يتمثل في تعميق الخلافات في النسيح السياسي الفلسطيني .

لم تنتظر القوى الفلسطينية التي تتبنى نهج المقاومة المسلحة مطولاً، إذ سرعان ما أعلنت عن نيتها التدخل من أجل التأثير في مسار المفاوضات مع الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; بالوسائل التي ستؤدي إلى انحرافه أو تعطيله أو إيقافه، وشرعت بالفعل بتشكيل وتجهيز المجموعات التي سوف تتولى القيام بهذه المهمة، وهذا بدوره يعني شيئاً واحداً وهو أنها تعتزم شن سلسلة من العمليات الموجهة ضد الكيان الصهيوني، ويمكن بالطبع النظر إلى العملية المسلحة التي استهدفت أربعة مستوطنين ldquo;إسرائيليينrdquo; في مطلع هذا الشهر ضمن هذا المنظور . وبشكل عام، سوف تشكل أعمال العنف المتبادل التي ستستهدف المصالح الفلسطينية وrdquo;الإسرائيليةrdquo; أثناء المفاوضات المباشرة تحدياً هائلاً بالنسبة لإرادة التسوية الدبلوماسية، وهذا أمر متوقع ومفهوم من خلال حصيلة التجربة المتولدة من متابعة سير عملية السلام بين الجانبين خلال السنوات العشرين الماضية، وستتوقف فرص استمرار المفاوضات من جهة وإمكانية التوصل إلى النتائج الملموسة من جهة أخرى على قدرة كل من الجانبين على احتواء التداعيات السلبية لهذه العمليات ومنعها من التأثير بشكل مدمر على سلامة طاولة التفاوض، وهذا أمر تحيطه الشكوك العميقة بكل تأكيد .

لقد امتلك الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب فرصة تدشين عملية السلام في الشرق الأوسط، وأتيحت أمام خلفه كلينتون فرص متعددة انتهزها من أجل تمكين الفلسطينيين وrdquo;الإسرائيليينrdquo; من التوصل إلى اتفاقات سلام مهمة، وتفنن خلفه الرئيس بوش في تبديد جهود الدبلوماسية الأمريكية في خصوص معالجة الصراع في الشرق الأوسط . ومن المفهوم أن الرئيس أوباما يستحق بدوره أن ينال فرصته كقائد لدبلوماسية الدولة العظمى من أجل أن يدلو بدلوه في جهود تسوية المسألة الفلسطينية . لذا ينبغي على أوباما أن يباشر هذه المهمة بالشكل الذي يرمم أوجه الخلل التي تسببت بها نشاطات الإدارات السابقة، ويبني على الأسس البناءة التي تم ترسيخها في السابق، ويحقق في الوقت ذاته المعطيات المتزنة التي ظل يبشر بها منذ فوزه بانتخابات الرئاسة قبل نحو عامين، لعله يحقق النجاح المنشود في معالجة القضية الفلسطينية .