توفيق رباحي

للوهلة الأولى، يبدو القول إن إسرائيل هي مصدر أعقد المشاكل التي يعيشها العالم، ضربا من المبالغة. لكن بشيء من التأني، لا يوجد أقرب إلى الحقيقة والواقع من هذا الكلام.


ببساطة شديدة. منطقة الشرق الأوسط هي الاكثر توترا وتعقيداً وتهديدا لاستقرار العالم. صحيح أن فيها تعقيدات دينية وإثنية وطائفية واقتصادية، وآثار استعمار متعدد الاشكال والاسماء، لكن هذه تفرعات لمشكلة حقيقية أكبر اسمها إسرائيل. هي السبب الأول للتوتر. وهي المعرقل لمحاولات الابتعاد عن التوتر. ربما يجوز حتى القول إن الهموم الأخرى، حديثة العهد، من طائفية وعرقية وتناقضات دينية وثقافية ولغوية، طفت على السطح وفرضت نفسها على سكان المنطقة عندما عجزوا عن التغلب على المعضلة الأساسية، أو التعايش معها: إسرائيل.


مصيبة المنطقة أنها لم تحل هذه المشكلة ولم تستطع التعايش معها.


الباقي تحصيل حاصل: من أيلول الاسود في الأردن إلى الحرب الأهلية في لبنان، مرورا بالانقلابات العديدة ووصولا إلى تنظيم القاعدة واسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي، كلها نتائج للمعضلة الأساسية العالقة.
طالما لم يحل سكان منطقة الشرق الأوسط ضياع فلسطين حلا عادلا، إنسانيا وجغرافيا واقتصاديا، لن تعرف المنطقة استقرارا أو شعوراً بالأمان. ستبقى هذه المعضلة سببا وذريعة لكثير من القلاقل والاضطرابات التي ستقبل عليها المنطقة.


كل واحد يستطيع ان يقتل أو يفعل ما يشاء، في الخليل أو لندن أو نيوجرزي أو الدار البيضاء، حبا في فلسطين أو كرها في إسرائيل.


الحكومات الإسرائيلية، على اختلاف ألوانها وائتلافاتها، لا تفعل شيئا في الاتجاه الإيجابي، بل تصر على تفضيل العكس. مذبحة غزة المستمرة منذ أيام هي بذور لمئة سنة من الحقد. الضحايا يذهبون إلى دنيا اخرى، والمنشآت يعاد بناؤها أو لا يعاد، لكن قلوب الأحياء من البشر وذاكرتهم لا يمكن أن تنسى بسهولة أو تشفى.


مذبحة هذه الايام هي الوصفة المثالية أيضا لميلاد مئة أسامة بن لادن ومئة ايمن الظاهري وأبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي. والمشكلة أن هؤلاء «المواليد» الجدد يوجهون غضبهم ليس لإسرائيل وحدها، بل للعالم كله.
قبل اثنين وثلاثين عاما ارتكب الإسرائيليون بتواطؤ من بعض اللبنانيين مجزرتي صبرا وشاتيلا، واحتلت قوات إسرائيلية بيروت في ساعات، تم ذلك بعيداً عن الكاميرات. اليوم اختلف الأمر، الناس يشاهدون القتل مباشرة على مدار الساعة. ولا يمكن انتظار أن تترك الصور التي تبثها الفضائيات لجثث مهملة في الشوارع وعائلات هائمة على وجوهها وسط الخراب، غير مزيد من الحقد والرغبة في الانتقام.


هل يدرك القادة الإسرائيليون هذه الحقيقة الخطيرة؟ هل يدركون أنهم بأسبوعين أو ثلاثة من الحرب يُبعدون السلام نصف قرن؟ لو كانوا يدركون ما غامروا بتكرار هذه الحرب كل سنتين أو أقل، وهم يعرفون سلفا أنهم لن ينتصروا في أيٍّ منها ولن يجتثوا سكان غزة من ارضهم وبيوتهم، ولن يفصلوا حركة حماس والجهاد الإسلامي والفصائل الأخرى عن النسيج الاجتماعي الفلسطيني، أو من قلوب الناس.


والمقصود بالسلام هنا ليس فقط بين دولتين أو كيانين، بل أهم، السلم الداخلي للأفراد والمجتمعات، الإسرائيليون قبل غيرهم.


ليت المعضلة توقفت هنا. لقد امتدت إلى دول وقارات أخرى يفقد نسيجها الاجتماعي السكاني بعضا من تناغمه وانسجامه بسبب هذه الحرب القذرة التي تشنها اسرائيل هناك في غزة. فرنسا تشكل الدليل الصارخ عندما يخرج الآلاف، في كل مرة، منددين بهذه الحرب، فيصطدمون مع يهود متعصبين ومع رجال الأمن، فتضطر الحكومة للتدخل بإلغاء التظاهرات في بلد يستمد وجوده من حرية أفراده.


الذين خرجوا ويخرجون للتظاهر ضد اسرائيل، في فرنسا وغيرها من الدول الغربية، ليسوا عربا قوميين وبعثيين، وليسوا مسلمين متشددين يحلمون بنكاح أربع نساء وسبي بنات النصارى، كما تقول القوالب الجاهزة. إنهم فرنسيون وبريطانيون ونمساويون وسويديون وغير ذلك من الجنسيات، هالهم الظلم فانتفضوا وكان بينهم عرب ومسلمون أو ذوو أصول عربية ومسلمة. لا يمكن ان يكون هؤلاء جميعاً متآمرون على إسرائيل أو معادون للسامية ولليهود. هذه المعزوفة تنطلي علينا عندما يكون أصحاب الفعل سود الرؤوس وذوي لحى كثة، وليس على أوروبيين وامريكيين شُقر بضمائر حية. هناك اليوم في فرنسا مشكلة أمنية واجتماعية مخيفة سببها إسرائيل وحروبها الأزلية. مشكلة ثلاثية الاضلاع: فرنسيون من اصول عربية ومسلمة من جهة، ويهود يعانون من من عقدة الاضطهاد إلى الأبد من جهة أخرى، ومؤسسات الدولة الفرنسية من جهة ثالثة.


كلما حلقت طائرات حربية اسرائيلية في سماء غزة أو تحركت أسراب دبابات باتجاه أرضها، استنفر المسؤولون الفرنسيون انفسهم تحسبا لردود الفعل في مدنهم وشوارعهم. بتجرد، لا يبدو للعرب والمسلمين ومنطقة الشرق الأوسط مشكلة واضحة مع الحكومات الغربية، لولا إسرائيل.


إسرائيل تضع القادة الغربيين في مأزق سياسي واخلاقي مفتوح في الزمن. هؤلاء القادة الذين اتفقوا، هذه المرة ككل مرة، على أن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها يدركون في قرارة أنفسهم أنهم يكذبون، وأن هذه الدولة التي «تورطوا» معها تفرط في استعمال القوة وتبالغ في القتل والإجرام، لكنهم لا يجرؤون على رفع الصوت ضدها لأنهم مكبلون بقوانين هم وضعوها أو وجدوها، ومكبلون بماضيهم الأوروبي القريب عندما ساق آباؤهم واجدادهم اليهود الى أفران المحرقة.


ليست غزة هي فقط التي تعاني من إسرائيل، هي الجزء الصاخب من المعاناة. المطلوب إنقاذ العالم من هذه الدولة وغطرستها وابتزازها المستمر. آنذاك ترتاح غزة.