فيما تستعد العائلات العراقية لوداع شهر رمضان الكريم، واستقبال عيد الفطر المبارك، يخيّم على البلاد تشاؤم واسع من قدرة الحكومة على النهوض بالواقع الخدمي الذي لم يتحسن بشكل ملحوظ، لاسيما قطاع الكهرباء، وما صاحبه من اتهامات فساد بين الأطراف السياسية اختلط فيها الأمر على المواطن، وضاعت بموجبه الأسباب الفعلية والمتهمون الحقيقيون في نهب أموال المال العام.


أمهات عراقيات توزعن الحلوى للمحتاجين والفقراء في العيد داخل المقابر عن أرواح ابنائها الشهداء

وسيم باسم من بغداد: لأن العراق يشهد في الغالب توقيتين لثبوت رؤية الهلال الشرعية شيعيًا وسنيًا، فإن السلطات الحكومية جعلت عطلة العيد هذه العام ستة أيام، تبدأ من الثلاثاء، مراعاة لاختلاف التوقيت بين الوقفين السني والشيعي في تحديد يوم العيد، في ظل انحسار واضح للعنف الطائفي، وعودة إلى مظاهر العيد المشترك في المناطق المختلطة طائفيًا.

رغبة في الفرح
لكن رغبة العراقي في الفرح على رغم تردي الواقع الخدمي والسياسي، تفوق اليأس، ليعبّر عن طريق فعاليات اجتماعية ودينية تحديه للصعاب، ورغبته في الحياة، وإحياء الكثير من التقاليد والعادات التي تميزت بها الحياة العراقية عبر مئات السنين.

واهم ما يميز العراقيين، لاسيما الأمهات، هو ذلك النزوع العميق إلى تذكر موتاهم، لاسيما قتلى الحروب والنزاعات الطائفية التي حصدت الكثير من أبناء الشباب العراقي، وهو نزوع مفرح في أيام العيد، لكنه يختلط بالدموع والذكرى لراحلين أعزاء على قلب الأمهات اللواتي ثكلن بالزوج أو الابن أو الجار أو الصديق.

فرح وحزن في مقبرة الأعظمية
تستعد أم رؤوف في منطقة الصالحية في بغداد لتجديد قبر ابنها المدفون في مقبرة الأعظمية (شمال بغداد على الجانب الشرقي لنهر دجلة)، حيث اتفقت مع عامل بناء على وضع لوحة دالة جديدة له، وتنظيف المكان حول القبر، على أن يكون جاهزًا قبل العيد. واستشهد رؤوف وهو شاب في العشرينيات أبان معركة مسلحة في شارع حيفا بين جماعة مسلحة وقوات حكومية عام 2006.

و مقبرة الأعظمية في بغداد، وتعرف بمقبرة الأمام الأعظم، حيث إنها تحيط بمسجد الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، الذي دفن فيها عام 150هـ/767م، تعد من أكبر المقابر، وتضم بين جنباتها الكثير من ضحايا العنف الطائفي، وتزدحم بالزائرين في أيام الأعياد.

بخور وحلوى في العيد في مقبرة السلام في النجف
فيما تواصل أم مصطفى (60 سنة) في الكرادة الشرقية (منطقة في بغداد على الجانب الشرقي لنهر دجلة) التي فقدت اثنين من أبنائها، الأول، وهو احمد أثناء حرب الخليج الثانية، والثاني مصطفى الذي قتل في عام 2005 في ذروة العنف الطائفي على يد جماعات مسلحة، تواصل استعدادها لاستقبال عيد الفطر بإعداد الحلوى والمعجنات، الا ان مهمتها الأولى هي زيارة قبري ابنيها في مقبرة السلام في النجف (160 كم جنوب بغداد) في أول أيام العيدوتوزيع ما صنعته يداها على زوار المقابر والفقراء.

تضم مقبرة وادي السلام، التي تعد من اكبر المقابر في العراق، الآلاف من ضحايا الحروب والعنف الطائفي، وتضم مدافن الأنبياء آدم ونوح وهود وصالح عليهم السلام، ما يجعل تاريخها يعود الى عصور موغلة في القدم، وتزدحم بالمئات من أبناء الموتى والشهداء في الأعياد.

وتقول أم مصطفى إنها تذهب في أول يوم من كل عيد، حيث تبكي على قبري ابنيها، وتتلو لساعات طوال القرآن حتى تغيب الشمس.

زيارة القبور .. عند كل الطوائف
في كل مقابر العراق، يحرص العراقيون من الطائفتين السنية والشيعية في الأعياد على زيارة القبور، موزعين النذور والهدايا، وسط حركة دؤوبة لمقرئي القرآن إحياء لذكرى الشهداء والموتى، يرافق ذلك زيارة الأضرحة المقدسة ورش القبور بالماء وقراءة والأدعية وإشعال الشموع والبخور.

يقول سعيد السيد حسين ويعمل في مقبرة السلام في النجف إن المقبرة تشهد حركة دؤوبة في أيام العيد، لاسيما أهالي الشهداء من الشباب، حيث تحرص الأسر، لاسيما الأمهات، على تذكر الأبناء والإخوة الراحلين عن الحياة الدنيا.

في الجانب الآخر من العيد، يتزاور الجيران في ما بينهم، ويجتمع الأقرباء والأصدقاء مع بعضهم في فعالية اجتماعية يستذكر فيها الناس بعضهم وتتقوى صلة القربى، وتصلح فيها النفوس المتخاصمة. ووجدت أم احمد في عيد الفطر المقبل فرصة لتنظيم (مشية) إلى أهل فتاة خطبتها لابنها.

quot;الكليجةquot; وquot;عيديةquot; الأطفال
غالبًا ما يجد العراقيون في العيد فرصة لإتمام صفقات الزواج والسفرات الجماعية وإقامة الولائم. ويأسف الحاج أبو توفيق على الكثير من طقوس العيد التي اندرست مع الزمن، فلا يرى أبو توفيق من ملامح أعياد الماضي سوى quot;الكليجةquot; وquot;عيديةquot; الأطفال. وquot;الكليجةquot; هي معجنات تتفنن المرأة العراقية في إعدادها من الدقيق والسمن والسكر وتحشى بالمكسرات والتمر والسمسم في قوالب صغيرة ومتنوعة.

أما quot;العيديةquot; فهي هدايا نقدية صغيرة يقدمها الكبار إلى الأطفال لزرع الفرح والسرور في نفوسهم. وفي معظم مدن العراق فإن صور العيد تنعكس على الحياة اليومية، وهي صور اللعب والتنزه في جماعات في الأسواق والمتنزهات، إضافة إلى فعاليات فولكلورية من مثل quot;المراجيحquot;، ودواليب الهواء والعربات التي تجرها الخيول والحمير، وهي تنقل الأطفال من مكان إلى آخر، وهم يرددون أغاني وأناشيد فولكلورية شعبية.

نكات العيد تلذع المفسدين
كما تقام في الكثير من المساجد، الولائم التي يحضرها الفقراء والمحتاجون في فعاليات تكافلية يسعى الجميع إلى إدامتها، على رغم المتغيرات الاجتماعية التي أبعدت الناس عن بعضهم البعض إلى حد مقلق، كما يقول الباحث في الفولكلور العراقي احمد الحسني، الذي يتألم لفقد أعياد العراق نكهتها بسبب تطورات العصر، والمفاهيم الغربية التي دخلت إلى المجتمع العراقي بقوة، إضافة إلى الهزات الاجتماعية التي تعرض لها المجتمع بسبب الحصار لسنين طويلة والحروب التي استمر لأكثر من عقد.

إلا ان ما يعكر صفو العيد بحسب رجل الدين رحيم الياسري، أزمات الخدمات التي استفحلت بشكل كبير هذا العام، لاسيما أزمة الكهرباء المستفحلة، وما رافقها من اتهامات الفساد بين الكتل السياسية، إلى درجة ان الكثير من (نكات) العيد المقبل تدور حول المفسدين من السياسيين.

عيد واحد لكل الطوائف
مع انحسار العنف الطائفي، بدأت عائلات من مختلف الطوائف في المناطق المختلطة طائفيًا، تزور بعضها بعضًا، وتقيم الموائد المشتركة، إضافة إلى فعاليات اجتماعية في أيام الأعياد بصورة خاصة.

ففي مدينة الأعظمية في بغداد استعادت عائلة أبو قادر علاقاتها الحميمة مع اسر في مدينة الكاظمية، حيث اتفق الطرفان على زيارات متبادلة في العيد تنظم على هامشها الولائم وفعاليات الفرح وجلسات السمر.

ويقول أبو قادر إن سنوات العنف الطائفي لم تكن سوى حالة طارئة، سببتها ظروف سياسية واجتماعية، بسبب ظروف الحرب التي أزالت نسق الدولة والحياة العراقية، مما أدى إلى ظهور سلوكيات شاذة في المجتمع.