من مفكرة سفير عربي في اليابان

سيمر العالم بتغيرات كبيرة في القرن الواحد والعشرين، فيتوقع بعض علماء الاقتصاد بأن يتجاوز الاقتصاد الصيني الاقتصاد الأمريكي في عام 2015، ليصبح الاقتصاد العالمي الأول، كما سيتصاعد اقتصاد الهند، والبرازيل، وتركيا، ليصبحوا في قمة الاقتصاد العالمي مع الاقتصاد الغربي. وقد بدأت الولايات المتحدة مراجعة إستراتيجياتها الخارجية، بعد أن زادت ديونها، وأرهقت قوتها الاقتصادية والعسكرية، فربطت قياداتها الأمن الأمريكي بعملية السلام في الشرق الأوسط، وليعلن مسئوليها العسكريين، وبصراحة، عن خطر السلوك الإسرائيلي، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على نتائج حرب العراق وأفغانستان. وقد زادت الضغوط الأمريكية على النظام الإسرائيلي، بالرغم من الجهود الكبيرة، والقوية، من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. وتحاول الولايات المتحدة أن تخلق توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط، لضمان السلام والاستقرار، وتوفير ظروف مناسبة لسوق عولمة حرة، تتدفق منها طاقة النفط بسهولة، وتتحرك فيها المنتجات العالمية، وتستهلك. وبذلك، تنشط سوق تجارة العولمة، فتنتقل بضائع وخدمات الدول النامية إلى دول الغرب، وتنتقل الصناعات التكنولوجية من الدول الغربية للدول النامية، فتشتغل المصانع، وتوظف القوى العاملة، ليتطور الاقتصاد، ويقل الفقر، وتنخفض نسب الجريمة والتطرف، ليضمن الغرب والعالم أمنه واستقراره، ويقل الصرف على ميزانية الأمن والجيش. وتعمل الولايات المتحدة على خلق توازن القوى في آسيا، بين الصين والهند، وفي أوروبا، بين الناتو وروسيا، كما تحاول أن تخلق توازن جديد في الشرق الأوسط، بين إيران وتركيا، وإسرائيل مع سوريا ومصر. والسؤال لعزيزي القارئ: ما هي الإستراتيجية الأمريكية القادمة في الشرق الأوسط؟ هل فعلا ستعمل الولايات المتحدة على إضعاف إيران، أم ستتحالف معها؟ وهل ستركع أمام التعنت الإسرائيلي، أم ستوجهه بتوازنات جديدة في الشرق الأوسط؟
سنحاول عزيزي القارئ أن نطرح، تصورات أحد مفكري الإستراتيجية الأمريكية، عن توازن القوى في عالم العولمة الجديد، ولنلاحظ بأن معظم مفكرو الغرب، يعالجون الإستراتيجية الخارجية لبلادهم، من خلال منظار رئيس وزراء بريطانيا السابق، ونستن تشرشل، الذي لخص فلسفته في السياسة الخارجية في قوله، بأن ليس هناك أعداء أو أصدقاء دائمين، بل هناك مصالح دائمة. ولم تختلف فلسفة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حتى الآن، عن هذه الفلسفة، والتي أبرزها المحلل السياسي الاستراتيجي الأمريكي، جورج فريدمان، في مقالاته التي نشرت بالصحيفة الإلكترونية، ستراتفور، في شهر مارس الماضي، وسنبدأ في هذا الجزء عرض مقاله، quot;التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه صفقة أمريكية إيرانية.quot; يقول الكاتب: quot;لقد وصلت الولايات المتحدة لنقطة عليها الاختيار بين أن تقبل بأن تطور إيران سلاحها النووي حينما تشاء، أو تتخذ خطوات عسكرية للوقاية، ولكن هناك أيضا خيار استراتيجي ثالث، تستطيع واشنطن من خلاله أن تحدد السؤال الإيراني. ومع أننا لا نعرف، كيف تفكر قيادات الطرفين، ومع ذلك سنحاول أن نتفحص ذلك، بنظرية جيوبولتيكية، ولنبدأ نقاش الخيارين المطروحين.quot; فيطرح الكاتب أولا خيار دبلوماسية المقاطعة، فيعتقد بأن الدبلوماسية تحتاج لتحالف عالمي متكامل، لفرض مقاطعة تشل الاقتصاد الإيراني، لتغير الجمهورية الإسلامية الإيرانية سلوكها. وفي تصور الكاتب بأن السلاح الدبلوماسي المتوفر، هو فرض الحظر الكامل، على استيراد إيران للغازولين، فهي تستورد 35% من حاجاتها. وليس من المتوقع أن يؤدي ذلك الحظر لشلل اقتصادها، ولكن هي المقاطعة الوحيدة المؤثرة، وقد لا تشارك الصين فيها، فهي تستورد 11% من حاجاتها النفطية من إيران، كما أن روسيا قد تقرر المشاركة في المقاطعة، ولكن لم تحدد الوقت. quot;فالروس قانعون بمشاهدة الولايات المتحدة متورطة في الشرق الأوسط، ولا يرغبون لحل مشاكلها في المنطقة على حساب مصالحهم.quot; وبعدم مشاركة الصين والروس في المقاطعة، لن تكون هذه المقاطعة مؤلمة لإيران، وبما أن الأنواع المقاطعة الأخرى رمزية، فلن تكون مؤثرة.
ويعتقد الكاتب بأن الخيار العسكري ضد إيران له مخاطره، فيحتاج لدقة معلومات مخابراتية عن المواقع النووية، ولدرجة دقة متناهية للوصول إليها، ولهجوم جوي ناجح، وتقييم مستمر عن مدى نجاح الهجوم العسكري، ومتابعة الهجوم لتدمير المنشئات النووية الباقية. كما يجب أن يؤدي الهجوم لأكثر من أن يؤخر البرنامج النووي لعدة شهور أو سنوات، وإذا كان خطر إيران النووية كبير ليبرر الحرب، فيجب أن تكون النتيجة حتمية. ويتصور الكاتب، بأن جميع هذه الخطوات معرضة للفشل، وحتى لو نجح الهجوم العسكري، سيبقى السؤال ما الذي سيحصل بعد يوم الهجوم. quot;فلدي إيران تضادها، فلديها منظمات مضادة لتستخدمها، ولديها قوة مؤثرة في العراق، تستطيع أن تبقي الجيش الأمريكي فيه، والذي تحتاجه الولايات المتحدة في مناطق أخرى. ولديها إمكانية لسد مضيق هرمز بالألغام والصورايخ، لتشل الملاحة في الخليج، ليرتفع سعر النفط بشكل جنوني، ويزيد من أزمة الاقتصاد العالمي.quot; ويبدو بأن إيران غير مقتنعة بقيام أمريكا بخطوة quot;غبيةquot; كهذه، وتنتظر منها حل ثالث. ويؤكد الكاتب بأن أمام الولايات المتحدة أن تقبل بخطورة إيران نووية، أو أن تقوم بهجوم عسكري نتائجه غير مضمونة، بل وخيمة، وما دام الخيارين غير مقبولين، فقد نحتاج لخيار ثالث.
ويعتقد الكاتب بأن هناك حاجة لمراجعة التحدي الإيراني، لوضع تصورات جديدة، ليمكن التعامل معها بآلية جديدة، مختلفة، فيعلق بقوله: quot;فتحديد المشكلة بالبرنامج النووي، يبقي الولايات المتحدة في مواقع مستحيلة، وقد نأمل أن تؤدي تصاعد الاضطرابات في إيران ضد الحكومة لتغير النظام. ونحن لا نعتقد بأن هذه المعارضة جادة الخطورة، وحتى لو نجحت فلن تفرز نظام صديق للولايات المتحدة، والانتظار لثورة جديدة تعني التوقف عن مواجهة المشكلة والقبول بإيران نووية، وهذا خيار استراتيجي آخر. وتعتبر إيران حتى هذه اللحظة، القوة الإقليمية الأولى في الخليج، وليس هناك قوة تواجهها، أن لم تبقي الولايات المتحدة قواتها العسكرية الكبيرة في المنطقة. ومع أن تركيا أقوى عسكريا من إيران، ولكنها بعيدة عن الخليج، وهي مشغولة بأمور أخرى حاليا، ولا تريد أن تواجه إيران، بل ولفترة طويلة. ويعني ذلك بأن على الولايات المتحدة البقاء في العراق، فبغداد ضعيفة لمنع تحركات إيران في الخليج، بالإضافة بأن حكومتها صديقة لإيران.quot;
ويعتمد الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، تاريخيا، على توازن القوى بين العراق وإيران، وحينما ضعف هذا التوازن في عام 1990، تم غزو الكويت. ولم تندفع الولايات المتحدة في العراق في عام 1991، لأنها لم تنوي خلخلة توازن القوى بخلق فراغ في العراق، بل حاولت أن تحافظ على هذا التوازن قدر الإمكان، حتى لا تضطر لدفع جيشها في المنطقة. وقد أرتبط قرار غزو العراق، في عام 2003، بفرضية، بأن تدمير نظام البعث، سيؤدي لحكومة عراقية تستطيع أن تبقي على التوازن الإيراني العراقي. وقد خطأت هذه التوقعات، وبدل أن تصبح العراق قوة تضاد إيران، أصبحت دولة تابعة لها. وقد شجعت إيران الغزو الأمريكي للعراق، بسبب رغبتها للقضاء على حكم صدام، وخلق الظروف لكي تضم العراق للفلك الإيراني، وبعد أن حدث ذلك، اضطرت الولايات المتحدة توسيع غزو العراق، وهو الفخ الذي حاولت إدارة بوش تجنبه، ومن الصعوبة تحديد تأثير إيران على العراق، فمع أنها لا تستطيع فرض حكومة مؤيدة لها، ولكنها تستطيع منع تشكل حكومة عراقية قوية.
ويحلل الكاتب المصالح الأمريكية والإيرانية في المنطقة، فيؤكد بأن إيران تستطيع أن تمنع العراق من أن تصبح قوة موازنة لها، ولديها جميع الأسباب لتلك الرغبة، وفي الواقع، إن العراق، وليست الأسلحة النووية، هي القضية الأساسية بين الولايات المتحدة وإيران. فتريد إيران أن تنسحب الولايات المتحدة من المنطقة، لكي تأخذ مكانها كقوة إقليمية في الخليج، بينما تحتاج الولايات المتحدة أن تنسحب من العراق، لكي تواجه قواتها العسكرية التحديات في أفغانستان، والتي تحتاج فيها أيضا لمساعدة إيران. فبقاء الجيش الأمريكي في العراق، مع حرب أفغانستان، يضعف الولايات المتحدة عالميا، فعليها الانسحاب من أفغانستان، أو أن توفر قوة هائلة من الجيش الأمريكي للدفاع عنها، ولن يحدث الخيار الأول قريبا، كما أن الخيار الثاني مستحيل اقتصاديا. ولم يعد أمام الولايات المتحدة إلا خيار خلق توازن القوى مع إيران، بدون أبقاء الجيش الأمريكي في العراق، وبدون توقع توازن عراقي ضد إيران، لأن إيران لن تسمح بذلك. وتبقى المشكلة النووية، ليست المشكلة الأساسية، فعلى الولايات المتحدة أن تراجع هذا التحدي، لتخلق تحالف غير عادي مع عدو، لكي تحقق أهدافها الإستراتيجية.
وعرض الكاتب تحالفات الولايات المتحدة سابقا مع أعدائها، فقد تحالف فرانكن روزفلت مع ستالين لوقف النازية، وتحالف رتشارد نيكسون مع الصين، بينما كانت توفر لفيتنام الشمالية الأسلحة لقتل الجنود الأمريكيين. فاعتبر الرئيس نيكسون التحالف مع الصين مهم، لمواجهة الخطر السوفيتي، لخلق توازن بين الاتحاد السوفيتي والصين. ولو راجعنا التاريخ الأمريكي لوجدنا الكثير من التحالفات الانتهازية لحل الأزمات المستحيلة، والتحالف مع ستالين وماو، يمثل تحالف مع أعداء سابقين لصد قوة ثالثة أخطر. ويكرر البعض بأن أحمد نجاد quot;مجنون،quot; كما قيل سابقا بأن ستالين وماو مجانين. وفعلا، قال احمدي نجاد أشياء غريبة، واصدر الكثير من التهديدات، ولكن حينما تجاهل روزفلت ما قاله ستالين، وتجاهل نيكسون ما قاله ماو، اكتشفا بأن أفعال ستالين وماو أكثر عقلانية من خطاباتهم، وسيان ما يقوله الإيرانيون وما يفعلوه مختلفان. ويحاول الكاتب تدارس المصالح الأمريكية والإيرانية من جديد مع تذكر التحالفات الانتهازية السابقة. فتحتاج الولايات المتحدة للمحافظة على تدفق النفط من مضيق هرمز، ولا تستطيع أن تتحمل أي انقطاع له، كما عليها أن تمنع أية قوة وحيدة من السيطرة على نفط الخليج، والذي سيوفر لتلك الدولة قوة هائلة في عالم العولمة الجديد. وتحتاج الولايات المتحدة خفض قواتها في العراق، وعليها التعامل مع التحدي الإيراني مباشرة، وستتحالف معها أوروبا في المقاطعة، بينما ستتلاعب روسيا والصين في تطبيق ذلك، كما عليها منع إسرائيل من الهجوم، وستحتاج إيران ضمان بقاء نظامها، وتريد ضمان عدم رجوع خطر العراق مرة أخرى.
وبمراجعة المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وإيران، سنجد بأن الولايات المتحدة في حرب مع القاعدة، وهم أعداء لإيران أيضا، ولا تريد إيران جيوش أجنبية على حدودها الشرقية والغربية، ولا تريد ذلك الولايات المتحدة أيضا. كما لا تريد الولايات المتحدة انقطاع النفط، بينما تريد إيران الاستفادة من أموال نفطها، وتتفهم إيران بأن الولايات المتحدة هي الخطر الوحيد ضد بقائها، ولو استطاعت إيران حل مشكلة الولايات المتحدة ستضمن بقاء نظامها. وتحتاج الولايات الأمريكية لفهم الحقيقة، بان الاعتماد على العراق لصد إيران غير ممكن، وإمامها إبقاء جيشها في العراق، أو أن تقبل بالواقع، بأن تلعب إيران دورها في المنطقة، بتحالف أمريكي. ويستطرد الكاتب في القول: quot;فأولا خيارات واشنطن الحالية غير مقبولة. وهناك ثلاثة خيارات للمصالح الأمريكية الإيرانية المشتركة. فالقوتان لديهما صراع مع القوى المتطرفة السنية، ويريدان خفض القوات في المنطقة، ويحتاجان لضمان ضخ النفط للسوق العالمية. والمشكلة الإستراتيجية هي القوة الإيرانية في الخليج، ولدراستها نحتاج لفهم النموذج الصيني، فقد أطلقت الصين خطابات معارضة قبل وبعد زيارة نيكسون وكيسنجر، ولكن كل ما قامت به داخليا، لم يكن خطرا كبيرا في السياسة الخارجية، وعلاقة الصين بالولايات المتحدة كانت علاقة أساسية للصين، ومع استمرارها في خطاباتها ضد الامبريالية، كانت حذرة من أن تخسر فوائد هذه العلاقة. وخطر الإستراتيجية الثالثة هو أن تتجاوز إيران الخطوط الحمراء وتحتل آبار النفط الخليجية، وسيدفع ذلك حتما لتدخل أمريكي هائل، بينما لن تهتم الولايات المتحدة بالتأثير الإيراني الغير مباشر، من المشاركة المالية في المشاريع الإقليمية، وحتى دورها المذهبي في المنطقة، فقد حددت الولايات المتحدة مدى القوة الإيرانية في المنطقة، ولن تسمح بتجاوزها.
ويعتقد الكاتب بأن الخاسر الكبير في الإستراتيجية الثالثة هي دول الخليج، quot;فمن غير العراق، سيصعب عليهم الدفاع عن أنفسهم، كما أنه ليس للولايات المتحدة أية مصالح طويلة الأمد في علاقاتها الاقتصادية والسياسية معهم، فليس من صالحها التدخل، ما دام النفط يتدفق للسوق العالمية، ولا توجد قوة وحيدة مسيطرة على تدفقه.quot; وستغضب إسرائيل من كل ذلك، فهي تريد من الولايات المتحدة أن تخلصها من السلاح النووي الإيراني، ولكن التخلص من هذا الخطر ليس خيار مع الأخطار المرافقة، فالخيار الوحيد هو إيران نووية، خارج العلاقات الأمريكية الإيرانية أو ضمنها. وسيحل التفاهم مع إيران مشاكل متصاعدة للولايات المتحدة، كما أن تركيا أقوى من إيران، وعلاقتها مع الولايات المتحدة دقيقة، وستغضب تركيا من الترتيبات الجديدة، ولكن ستصبح تركيا القوة الموازنة ضد إيران، فتضعف قوة إيران في العراق، لتستطيع أن تخرج الولايات المتحدة منها. وستكون الصدمة السياسية كبيرة، وخطوة صعبة لشعبية الرئيس اوباما، بينما سيستطيع أحمدي نجاد بيع هذه الصفقة بسهولة على الإيرانيين. والسؤال: هل فعلا ستواجه المنطقة كل هذه التوقعات؟ وهل ستستعد حكوماتها للتعامل مع هذه التوازنات الجديدة؟ وهل ستحافظ دولها على قوة خشنة رادعة، وتستفيد من قوتها الناعمة، بنشر إصلاحات اقتصادية وسياسية لخلق بيئة تناغم واستقرار؟ أم ستسيطر الانفعالات العاطفية على شعوبها، لتتكرر الصراعات والحروب الدامية، فتعطل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتهدد أمن واستقرار المنطقة؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان