تشهد إيران في الأشهر الأخيرة تراكماً نوعياً للأزمات على المستويين الداخلي والخارجي: جفاف المياه، تلوّث خانق في المدن، انهيار القدرة الشرائية، واحتقان اجتماعي لا يهدأ. لكنّ الجديد هذه المرة ليس في طبيعة الأزمات ذاتها، بل في مكان انفجارها السياسي: في قلب رأس النظام، عند علي خامنئي ومراكز القوة المحيطة به، حيث تحوّلت كل أزمة إلى ملف سياسي يمسّ مباشرة بقاء نظام ولاية الفقيه.
خطاب خامنئي الأخير بمناسبة «يوم البسيج» كان نموذجًا مكثّفًا لهذا المأزق. في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 ظهر المرشد في كلمة متلفزة حاول فيها أن يقدّم صورة عن «تماسك» النظام، لكنه كشف في الوقت نفسه عن خشيته العميقة من التآكل الداخلي.
أولاً، توقّف مطولاً عند «البسيج»، واصفًا هذه القوة بأنها «حركة وطنية قيّمة» و«ثروة كبرى ينبغي عدم التفريط بها»، مؤكّداً أنّ حاجة إيران إلى البسيج «أكبر من كل الدول» بسبب كثرة الأعداء. هذه اللغة لا تعبّر عن ثقة، بل عن خوف من تراجع هذا الذراع الشعبي–الأمني الذي اعتمد عليه النظام طوال عقود لقمع الاحتجاجات وحماية هياكل السلطة. تسريبات عديدة من داخل إيران تتحدث عن تململ واسع داخل البسيج، وعن رِدّة فعل سلبية على المشاركة في قمع الانتفاضات السابقة. حين يكرّر المرشد أنّ هذه «الثروة يجب ألا تُفقد»، فهو عملياً يعترف بأنّ خطر فقدانها قائم.
ثانياً، حاول خامنئي أن يقدّم قراءة انتصارية للحرب الأخيرة التي استمرّت 12 يوماً بين إيران وإسرائيل، عبر المعادلة التقليدية: «أرادوا إسقاط النظام، لكننا ما زلنا هنا، إذاً نحن منتصرون». هذا النوع من الخطاب موجّه بالدرجة الأولى إلى البسيج وقواعد النظام التي تعيش حالة إحباط من كلفة المغامرات الخارجية والداخلية. الفكرة هي تحويل مجرّد البقاء الفيزيائي للسلطة إلى «نصر استراتيجي»، في الوقت الذي يتعمّق فيه الشعور العام بأن الشعب هو من يدفع الثمن وحده.
ثالثاً، كان الأكثر دلالة في خطاب المرشد هو نفيه القاطع للأنباء عن رسالة أُرسلت من الرئيس مسعود بزشكيان إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. خامنئي وصف هذه الأنباء بأنها «كذب محض»، لكنّ التسلسل الزمني للأحداث يروي شيئًا آخر: رئيس منظمة الحج والزيارة أعلن أنه حمل رسالة خطّية من بزشكيان إلى بن سلمان، والإعلام السعودي أكّد تلقي الرسالة، والحكومة الإيرانية قالت إنّ مضمونها «شكر على حسن إدارة الحج»، رغم أن موسم الحج انتهى قبل خمسة أشهر!
الأهم من ذلك كان تسريب شخصيات من داخل النظام، مثل مصطفى كواكبيان، لمعلومات تفيد بأنّ الرسالة حملت في الواقع مبادرة إيرانية لفتح باب التفاوض مع واشنطن «من دون شروط مسبقة»، وبأنّ ذلك تمّ بموافقة خامنئي نفسه. لاحقًا، تحدث مجتبى ذو النوري عن ردّ من ترامب تضمّن ثلاثة شروط قاسية: صفر تخصيب لليورانيوم في إيران، وقف التعاون مع ما يسمّى «محور المقاومة»، وتقليص مدى الصواريخ الباليستية الإيرانية.
هذه التسريبات حوّلت «رسالة الحج» إلى فضيحة سياسية داخلية، لأنها عرّت التناقض بين الخطاب العلني الذي يحرّم التفاوض ويصفه بالذلّة، والممارسة الفعلية التي تسعى إلى فتح قنوات سرّية مع واشنطن عبر الرياض. خروج خامنئي شخصيًا لنفي القصة، ثم تحريك القضاء ضد كواكبيان بتهمة «الكذب على مقام القيادة» و«تشويش الرأي العام»، يعكس حجم القلق من تحوّل هذه القضية إلى دليل على ضعف المرشد واستعداده لابتلاع شعاراته من أجل إنقاذ النظام.
رابعًا، حاول خامنئي في الخطاب نفسه أن يظهر بمظهر الحَكَم فوق صراع الأجنحة، فدافع عن حكومة بزشكيان قائلاً إنّ «إدارة البلاد عمل شاق»، وأشاد باستمرار الحكومة في «استكمال أعمال إبراهيم رئيسي». لكنّ كل من يتابع ما يجري في طهران يدرك أنّ جزءًا من الهجوم على بزشكيان يأتي من الدائرة الأقرب إلى المرشد، وعلى رأسها نجله مجتبى والحلقة الأمنية المحيطة به، بالتنسيق مع شخصيات مثل حسين طائب، وبعض قادة الحرس، وصحيفة «كيهان» والتيار المعروف بـ«جبهة پایداری». هذا التيار يرى في أيّ مرونة سياسية أو اجتماعية «بوابة إلى الانتفاضة»، ويضغط لمنع أي تسوية مع واشنطن أو تخفيف القبضة الأمنية.
بهذا المعنى، يصبح خطاب خامنئي محاولة متأخرة للسيطرة على حرب ذئاب خرجت من تحت عباءته. فالأجنحة المتصارعة لم تعد تختلف على حصّة من الغنائم فحسب، بل على «كيفية إنقاذ النظام من السقوط»، وهو ما يسمّيه بعض المسؤولين، مثل مسعود نيلي، صراحة «بحثًا عن طريق ثالث بين الموت والبقاء». كل جناح لديه وصفته الخاصة، لكنّ النتيجة واحدة: نظام يستهلك أغلب طاقته في صراع داخلي، بينما تتراكم الأزمات في المجتمع والاقتصاد والبيئة.
في المحصلة، تكشف خطبة خامنئي الأخيرة عن زعيم بات محاصَراً من جهتين: من الشارع الذي لم يعد يخاف كما في الماضي، ومن داخل النظام حيث تتصاعد حرب البقاء بين الأجنحة. وفي هذا السياق، تبدو محاولاته لإنكار الرسائل السرّية وتهدئة الذئاب المتصارعة أشبه بمحاولات كسب الوقت لا أكثر، في معركة يعلم الجميع أنّ نتيجتها النهائية ستكون على حساب مستقبل ولاية الفقيه نفسها.





















التعليقات