لا تزال انتفاضة تونس، وما يجري حاليا فيها، مدار الأخبار العربية والدولية. وثمة قراءات كثيرة ومتباينة للحدث، مع شبه إجماع على تحية نضال الشباب التونسي وتضحياته، وطموحه إلى مستقبل أفضل، عادل و خال من الفساد والتحكم الفردي والقمع البوليسي.

هذا ما نرجوه للشعب التونسي، وهو ما لا يرجوه له المتربصون من الإسلاميين والمتطرفين من كل الأنماط. حين ألقى بن علي آخر خطبه، وما فيه من تنازلات، تصورت أن ذلك كفيل بالتهدئة وفتح صفحة جديدة مع الشعب والمعارضة الوطنية؛ ولكن ظهر أن الثقة به وبوعوده كانت قد انهارت تماما، فاستمرت التظاهرات واضطر للمغادرة.إن تجارب الشعوب لا تستنسخ، ولكن ما يتكرر في بلداننا وبقية بلدان quot; العالم الثالثquot; هو هوس السلطة وسحر الكرسي وفخاخ الفساد. وفي هذا وقع بن علي بعد مسيرة رئاسية كان شوطها الأول مقترنا بجملة من الخطوات الإيجابية الهامة، التي لا يجب إنكارها في زحمة الأحداث.

فليس صحيحا أن حكم 23 عاما كان كله تسلطا وفسادا، كما نقرا اليوم حتى في بعض الصحف الفرنسية ووسائل الإعلام الأخرى، أو كان دكتاتورية دموية بلا أية حريات ونشاط أحزاب. فالنمو الاقتصادي والنهضة التعليمية والحفاظ على العلمانية وحقوق المرأة وصد شرور الإسلاميين تحسب لابن علي؛ ولكن ما لا يحسب له هو غرور السلطة وما انتهى الحكم إليه من فساد العائلة والحاشية وتشديد القمع البوليسي والسيطرة على وسائل الاتصالات. فالتصدي لشرور الخطر الإسلامي ما كان يجب أن ينتهي إلى قمع المعارضة والتضييق على الحريات.

بدأت الانتفاضة لسبب اقتصادي بحت وهو بطالة الشباب الجامعي، ولكن القمع البوليسي الدموي حولها إلى انتفاضة سياسية عامة طوحت بالرئيس المخلوع، فسجل الضحايا انتصارهم. والسبب الاقتصادي: البطالة والغلاء، كان من وراء تحركات عديدة وقعت في بلدان المغرب العربي في العقود الأخيرة، وبرغم اختلاف الظروف والأوضاع. قلت إن تجارب الشعوب لا تستنسخ، ومع ذلك فلا بد من التحذير بالإشارة إلى المطبّات التي وقعت فيها انتصارات شعوب أخرى؛ فالاستفادة من تجارب الآخرين ضرورية ولازمة.تجربة العراق مثلا مليئة بالدروس.

صحيح أن صدام لم يسقط بانتفاضة شعبية، رغم حدوثها فعلا، فذلك كان مستحيلا. فالنظام العراقي المزاح كان دكتاتورية دموية وحشية، لم يكن يهمه قتل مئات الآلاف، ولا يمكن مقارنة بن علي بصدام، فهو، رغم نظامه البوليسي، لم يقترف واحدا بالمائة من جرائم صدام تجاه المعارضة والحركة الوطنية. كما لم يكن ممن يسمح باقتراف مجازر عامة كمجزرة حماة السورية.

وهو أيضا لم يكن كصدام الذي لم يستمع لتحذيرات خارجية وحتى الإنذار الذي وجهته له الولايات المتحدة عشية حرب العراق. أما هنا، فلا شك أن دولا كفرنسا، وربما أميركا أيضا، لعبت دورا ما في الضغط على بن علي ونصحه لمغادرة السلطة والبلاد بعد أن بات البلد على شفى مجزرة وفوضى عامتين تهددان المصالح الغربية نفسها. ما يهم بعد الانتصار ليس الانتقام، بل السير للبناء، وليس تشظي القوى الوطنية وصراعاتها، ولا المزايدات على سقف الأهداف العاجلة وما بعدها، بل اتفاقها على ميثاق عملي مدروس وعقلاني، فلا غيفارية بعض الشبان المتحمسين هي البلسم، ولا إسلامية المتربصين في عواصم الغرب. كما لم يكن كل معارض أفضل عقلية من الحاكم، أو أقل ميلا للعنف لو سنح له.

هذا ما قدمته أيضا التجربة العراقية وتجربة إيران. وقد لفت نظري أنه، عندما صار رئيس الوزراء الغنوشي رئيسا مؤقتا، انهالت عبارات المدح له من شخصيات تونسية معارضة، ووصفته بالنزاهة واحترام الأخر، ولكن ما أن جرى استبداله في اليوم التالي، حتى صار يقال إن وضعه لم يكن شرعيا، وإنه يجب استبعاد كل من تعاون مع بن علي، وحتى استبعاد حزبه- هكذا بين عشية وضحاها! يذكرنا هذا بتجربة الاجتثاث العراقية التي اتخذت سلاحا لمحاربة منافسين سياسيين حتى من بين خصوم صدام بالأمس وضحاياه.

يقول سياسي فرنسي إن الفرق بين السياسي ورجل الدولة هو أن الأول يتاجر بالوعود المعسولة، وإن كان يعرف أن معظمها غير عملي، بينما رجل الدولة برحب بالأخبار السيئة ولا يخفيها على الشعب، أي لا يخفي الصعوبات وطول الطريق، ولا يعد بمعجزات فورية. فبناء دولة العدالة والديمقراطية والازدهار لا يتم بين عشية وضحاها، وإن الاستقرار الأمني وضرب المخربين والنهابين -أيا كانوا - هو شرط الانطلاق في العمل السياسي الناجح والهادئ. والإصلاحات المتدرجة والمدروسة هي الطريق الأمثل.

ولا يمكن اختزال المسافات والمراحل في العمل السياسي. إن مشكلة الديمقراطية في العالم العربي معقدة جدا، ومتشابكة، وحتى مفهوم الديمقراطية يكاد ينحصر في الانتخابات. وهو تفسير يدعمه الغرب نفسه، مع أن الانتخابات في بعض دولنا قد تأتي بنتائج سلبية. فللانتخابات شروطها ومعاييرها لكي تنجح في تحقيق خطوة هامة نحو الديمقراطية.

وقد تجري انتخابات، فإذا فشل هذا الحزب أو ذاك، ارتفعت الصرخات عن quot; التزويرquot; لتصبح الانتخابات نفسها عامل صراع. وهناك ما يحيّر عند إعادة النظر في تجارب مثل تجربة مصر مثلا: فقبل انقلاب عبد الناصر، كان هناك ملك متسلط وحاشية فاسدة، والإقطاع كان مستفحلا، ولكن كان هناك أيضا حزب الوفد الذي نجح في انتخابات عامة تميزت بقدر كبير من الحرية، وكانت هناك أحزاب تتنافس، والنهضة الفكرية والأدبية والفنية رائدة.

وجاءت الناصرية لتحقق قدرا كبيرا من العدالة الاجتماعية ولكن لتخنق الفكر وتفرض نظام الحزب الواحد والقائد الواحد ndash; أي أول تجربة عربية لنظام شمولي انزلق إلى مغامرات عسكرية فاشلة والتآمر على ثورة العراق. فأين الصواب وأين الخطأ في الحالتين؟ هل يمكن تأسيس تجربة ثالثة تأخذ مزايا الاثنتين وتتجنب أخطاءهما ومآسيهما؟ تلك هي المعضلة، ولا تزال كذلك، إن بالنسبة لمصر أو لبقية البلدان العربية. إن للزعامة السياسية دورا كبيرا في النجاح والإخفاق.

ولم تتبلور حتى الآن ndash; كما نرى- زعامة سياسية تونسية معارضة قوية معترف بها، قادرة على جذب وتجميع كل الأخيار للعمل معا من أجل تونس الخضراء حصرا. يمكن القول إن من الزعامات العربية لما بعد الحرب العالمية الثانية كان بورقيبة متميزا، ليس فقط بجرأته فيما يخص المرأة والتحديث، وإنما أيضا بعقلانيته في قضية الصراع الفلسطيني والعربي مع إسرائيل. وهذا مهم لأن المعيار ليس فقط ما يحققه الزعيم في الداخل، وهو الأهم، ولكن أيضا سياسته العربية والخارجية.

وهناك تجربة عبد الكريم قاسم، الذي كان رجلا عسكريا ولم يأت بانتخابات ديمقراطية، ولكنه كان رجل تسامح ونزاهة وتضامن مع الفقراء ومدافع عن المرأة والعمل من أجل البناء والتقدم والحرص على العمل مع الأحزاب الوطنية؛ ولكن الصراعات الحزبية والمؤامرات الخارجية أجهضت التجربة. فأين موقع زعامته بين تجارب الزعامات العربية؟
نعم، هناك قراءات كثيرة للحدث التونسي، بل أصبحت كل مذيعة ومذيع في بعض الفضائيات العربية محللين سياسيين من الدرجة الأولى، وفي كل نشرة نستمع إلى quot;محلل سياسيquot;، حتى صح القول إنه، إذا كان عندنا هذا العدد الضخم من المحللين السياسيين النابهين، فلماذا صار العرب في آخر قافلة الشعوب؟!!!

صحف فرنسية لصباح الأحد 16 منه تحمل مانشيت quot; تونس أمام المجهولquot;. ربما كثيرون يفكرون هكذا بعد تتالي أحداث الفوضى والنهب وشعارات الانتقام. ولعل لدى الأطراف السياسية التونسية اليوم أفكارا معينة لحل أزمة الحكم، وماهية خارطة الطريق اللازمة. ما نعرفه مثلا أن زعيم التنظيم الإسلامي المحظور قد أعلن من لندن أنه سيعود لتونس، ويظهر أنه يريد تجيير الحركة لصالح برنامجه المعادي لحقوق الإنسان والمرأة والحريات.

والناطق باسم الحزب الشيوعي غير المرخص به، السيد حمامي، قال إنه لن يشترك في المداولات الجارية للمشاركة في حكومة- وذلك بحسب ما ورد في صحيفة quot; لو جورنال دي ديمانش quot; الفرنسية. والسيد المنصف المرزوقي، رئيس حزب المؤتمر من اجل الجمهورية، والمهجر إلى باريس، يعلن أنه لن يتعاون مع رموز النظام. فكيف سوف تستقر الأمور؟ وهل المطلوب اليوم هو تغيير النظام جذريا، أم انفتاحه على المعارضة وتقليص طابعه القمعي لأبعد حد، كمرحلة انتقالية نحو الديمقراطية- وهذا ما تقول به الباحثة السياسية بياتريس هيبو؟ أم قد يستمر الفراغ السياسي، فيملؤه الجيش الذي لعب قائده دوره في الضغط على بن علي؟إن ما نتمناه مخلصين هو استقرار تونس، ومسيرة ناجحة ومتأنية، خالية من العنف ونزعات الانتقام، نحو الديمقراطية والازدهار والعدالة الاجتماعية. إن اغتيال أحد أفراد عائلة زوجة بن علي ليس بالخبر السار، لأن المسيء فعلا يجب أن يحاسبه القانون لا فرد أو أفراد مهووسون. إن خير مكافأة لدماء الضحايا هي العمل من أجل البناء الديمقراطي وسيادة القانون.