علم الغائية هو جزء من الطبيعة البشرية. بات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وما يمثّله هذا التاريخ بالنسبة إلى الولايات المتّحدة وإلى عالمنا المعاصر إحدى هذه اللحظات الحاسمة في رواية البشرية الكبرى، وهو موضوع طاب للإنساني النمساوي الكبير ستيفان زفايغ أن يسلّط الضوء عليه. بعد مرور عقد من الزمن، تشكّل سلسلة الثورات الصاعدة التي تعصف بالعالم العربي مثالاً آخر على هذه اللحظات. على الرغم من الحماقات المشؤومة والكمّ الهائل من الفرص التي أضاعها الغرب، فإنّ الفترة الفاصلة شهدت تبلور التقارب المرحّب به بين هذا الغرب والعالمين العربي والإسلامي. قد يشكّل ذلك تطوّرًا مفيدًا في عالم أصبح متعدّد الأقطاب بأسرع بكثير ممّا كانت الغالبية تتوقّع ذلك.
تفقد الأصولية الإسلامية جاذبيتها في أوساط الجموع العربية والمسلمة، وبخاصّة بين الشباب. وخير دليل على ذلك غياب أيّ نفوذ للمتطرّفين في الحركات الثورية المذكورة أعلاه. منذ انطلاق ثورة الياسمين في تونس وأخواتها في مصر وليبيا والبحرين واليمن وسوريا، نهضت الشعوب لا على خلفية الخطابات الإسلامية أو المعادية للغرب، بل بناءً على شعارات تدعو إلى قدر أكبر من الديمقراطية. فهذا التوق إلى الحرّية ليس أبدًا مفروضًا من الغرب، بل هو نابع من الداخل. من البديهي أن يبقى الحذر سيّد المبادئ في هذه المرحلة، يؤمل في أنّ الثوّار وشعوب هذه البلدان على وشك أن يثبتوا للعالم وجود بديلٍ للسلطة الدينية والديكتاتورية العسكرية في جنوب حوض المتوسّط، على أمل أن يصحّ ذلك أيضًا في شرق هذا الحوض.
بات الشارع العربي الذي يُضرب به المثل أقلّ ميلاً بكثير إلى إلقاء اللوم على الآخرين (الغرب أو الولايات المتّحدة أو إسرائيل أو الثلاثة معًا) واعتبارهم مسؤولين عن التخلّف الفادح لهذه البلدان والذي أشارت إليه تسعة تقارير متعاقبة للأمم المتّحدة. وها هم اليوم يلومون الشخص المناسب، أي الطغاة الذين يحكمونهم أو كانوا يحكمونهم، على (غالبية) عللهم. والأسطورة المحيّرة التي لطالما تردّدت أصداؤها في العالمين العربي والإسلامي والقائلة إنّ quot;اليهودquot; العاملين في برجي مركز التجارة العالمي قد أُنذروا مسبقًا بحصول الهجمات فقدت مصداقيتها أخيرًا على نطاق واسع. وفي تلك الأثناء، نُبذت عدمية القاعدة برمّتها. على الرغم من الجاذبية التي تمتّع بها المستقبل الذي عرضه بن لادن وخلفاؤه في مرحلة أوّلية للمستعدّين إلى إظهار الولاء لقضيّتهم، فإنّ هذه الجاذبية تفقد إغراءها شيئًا فشيئًا وباتت أقلّ استحقاقًا للتضحيات التي تتطلّبها القضية. لكن يبدو أنّ جيل الشباب في العالمين العربي والإسلامي يفقد تدريجيًّا الميل إلى الرفض الصريح للاجتهاد، أي الإصلاحات، الذي شلّ أهلهم منذ المحاولة المنهجية الجدّية الأخيرة لتحديث الإسلام مع مشروع محمّد عبدو في مطلع القرن العشرين.
دعونا أن لا نكون سذّجاً، إذ إنّ الحاجة لا تزال ماسّة إلى مناقشة دور الدين في المجتمع والسياسة والاقتصاد والمؤسّسات على أنواعها في أنحاء العالم العربي كافّة. إنّ بناء الديمقراطيات العربية أو الدول المسلمة (وليس الإسلامية) التي تحترم الحريات الفردية سيتطلّب وقتًا جهدًا والمزيد من الدموع. لكن لا شكّ في أنّ العالم العربي والعالم المسلم المجاور يشهدان بروز رؤية جديدة للعالم، وتحديدًا على يد الشباب.
النتيجة المباشرة غير المتوقّعة لهذا التحوّل الإيجابي في الشرق هو أنّ الغرب ازداد نضوجًا أيضًا، وبات يستوعب الآنوبوقت قياسي فقدانه للتفوّق الذي دام قرونًا عدّة والذي ظنّ أنّه سيزول ببطء على مدى عقود من الزمن. والأهمّ هو كون الفكر الغربي قد تمكّن خلال العقد الفائت من التحرّر أخيرًا من مرض غريب يدلّ على أفول نجمه التدريجي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ألا وهو مبدأ النسبوية المعنوية والثقافية السخيفة والمحبّبة والمنكرة للذات. ففي الخمسينيات والستّينيات من القرن العشرين، كان من الضروري طبعًا انتقاد الاستشراق والمبدأ القائل بموقع أوروبا المركزي في العالم. كان الغرب المقتنع بتفوّقه على سائر الحضارات جمعاء بحاجة ماسّة إلى أن يعيد النظر في ذاته. غير أنّ الانتقاد المرحّب به على يد الحركة البنيوية وأنصار التفكيكية ما بعد الحداثة تخطّى الحدود من دون أن يبادر أحد، باستثناء بعض أصحاب العقول المستنيرة أمثال جان-فرنسوا روفيل (Jean-Franccedil;ois Revel) وماريو بارغاس يوسا (Mario Vargas Llosa)، إلى التشكيك في هذه التجاوزات. وفي نهاية المطاف، أدّت هذه النسبوية إلى فقدان فادح من قِبل عدد من التقدّميين لملكة التمييز بشأن عدد من القضايا السياسية والمعنوية، وألحقت الضرر على الصعيد العالمي. خير مثال على ذلك موقف دوغلاس هورد (Douglas Hurd) الداعم للصرب خلال حرب البوسنة أو موقف فرنسوا ميتران في رواندا. اسألوا التقدّميين المصريين والإيرانيين أو حتّى صبحي بن شيخ، مفتي مرسيليا سابقًا، وهي المدينة الأوروبية التي تضمّ أكبر عدد من السكّان المسلمين، عن رأيهم في النقاش حول الحجاب أو النقاش الأخير حول البرقع في فرنسا وأماكن أخرى من الغرب.
في ظلّ وجود quot;أصدقاءquot; تقدّميين مماثلين في الغرب، لم يكن المسلمون التقدّميون بحاجة إلى أعداء. فجلد الذات السخيف والاأخلاقي الذي أقدم عليه الغرب في ذلك الزمان والذي يشير إلى الانحطاط والكسل الفكري الدالّين على أفول نجم حضارة ما، ظهر جليًّا في صفحات الرأي في quot;وسائل الإعلام ذات مستوى معيّن من الجودةquot; في أنحاء أوروبا وأميركا اللاتينية كافّة إثر اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. في ذلك الحين، قارن عالم الاجتماع الفرنسي جان بودرييار (Jean Baudrillard) quot;أطفال القاعدةquot; بـquot;أطفال وال ستريتquot; بصرف النظر عمّا تعنيه هذه العبارة في حين أنّ المثقّفين، أمثال إدوارد سعيد من جامعة كولومبيا، قالوا إنّه ما من شيء فريد تتميّز به الهجمات وإنّ من ارتكبها هم المرادف المسلم للداووديّين (المسيحيين) في واكو في ولاية تكساس الأميركية ولمتطرّفي quot;أوم شيريكوquot; (البوذيين). لكنّ أقوالاً مماثلة لم تستقطب أيّ ردود فعل تذكر خارج الولايات المتّحدة، وكأنّ هذه الظواهر تنتمي إلى الفئة نفسها التي تشمل أضاليل الأصولية الإسلامية المعاصرة. وحده التعاون مع غربٍ يغدو أكثر إدراكًا لحدوده التي اكتشفها حديثًا ولفضائله وقيمه سيسمح للعالم العربي بأن يتخطّى ما كان يظنّ عن خطأ أنّه مأزق يحدّد نمط التفكير بشأن المنطقة، وهو القول إنّ الخيار الوحيد المتوفر هو بين الاستبداد والأصولية. ينبغي أن نقوّم التطوّر الذي حقّقه كلّ من الغرب والشرق والعالم خلال العقد الفائت على ضوء بروز هذا الاحتمال.

فيليكس ماركارد هو مؤسّس Atlantic Dinners، وينشر رسائل البلوغ على الموقع الإلكتروني: www.feleaks.com