أقصد بالمشكلة الطائفية في بلداننا موضوع العلاقات بين المذاهب الإسلامية لا العلاقات بين الأديان، [كالعلاقة مثلا، بين أقباط مصر ومسلميها]. وحين نقول إنه قد دارت في العراق بين 2006 وبداية 2008 حرب طائفية، فنحن نعني ما جرى من تناحر سني- شيعي بفعل دعايات ونشاط وحسابات القاعدة والمتطرفين السنة من جهة، والمليشيات الشيعية والأحزاب الشيعية والمتطرفين الآخرين من الشيعة، وهذا من الجهة الأخرى. وأما تعرض المسيحيين والصابئة المندائيين لحملات ظالمة ودموية، فكان يدخل في باب التطهير الديني.
لقد تناول المشكلة الطائفية في العراق كثيرون، وكان المفكر والباحث الفريد د. علي الوردي ينوي وضع كتاب في الموضوع، فلم يستطع. وللكاتب العراقي المعروف الدكتور عبد الخالق حسين كتاب عن الطائفية في العراق جدير بالقراءة والدراسة. ولكن المشكلة لا تزال بحاجة إلى تعميق أكثر في التحليل، بعيدا عن بعض المسلمات المعهودة وعن النظرة الأحادية. ولو نظرنا للجهات التي توجه تهمة الطائفية في العراق للآخرين، فسوف نجد أن الغالبية هم من ساسة ومثقفين من أبناء الشيعة، ربما للشعور الكامن والموروث بالمظلومية وبالتمييز في عهود سبقت.
إن آخر ما قرأت عن الطائفية هو البحث القيم والمتعمق للكاتب السوري quot;علي أسعد وطفةquot; في إيلاف منذ أيام. إنه يبحث في إشكالية العلاقة بين الطائفة العلوية والثورة السورية حيث أن هناك اعتقادا سائدا بأن النظام السوري يمثل العلويين، وبالتالي تتوجه لهم التهمة وكأنهم هم مسئولون عن الطغيان الأسدي والمذابح التي لا تنتهي. وهذا الاعتقاد السائد، والذي يشترك فيه عامة الناس والنخبة الفكرية والسورية معا، يستند إلى كون رأس النظام وعائلته وكثيرين من المقربين منه ينحدرون من الطائفة العلوية. كما أن عددا من المناصب الأمنية والعسكرية في الجيش يشغلها ضباط كبار من نفس الطائفة. يضاف وجود نسبة كبيرة من أبناء الطائفة مجندون في الوحدات العسكرية المصنفة موالية جدا للنظام السياسي. لكن ما هي الحقيقة في رأي الكاتب؟ يرى أن الطائفة العلوية السورية لا تمتلك تشريعا مذهبيا خاصا بها، فكل المعاملات الخاصة بالزواج والملكية والتشريعات والإرث تخضع للمذهب السني. ولا توجد في الطائفة سلطة دينية نافذة - [ عكس شيعة العراق مثلا]- ولا زعامات طائفية أو عشائرية. فالنظام ليس طائفيا، أي لا يقوم على طائفة واحدة ويضع نفسه في خدمتها، بل هو عابر للطوائف، وأكثر من 99 بالمائة من القرارات والتشريعات اتخذت لصالح التجار والفئات الغنية في المجتمع، من صناعيين ومهنيين، ومعظمهم من السنة. أما أكثرية أبناء الطائفة العلوية، فمن الفلاحين الفقراء، ومع ذلك، فقد صاروا في قفص الاتهام شعبيا ونخبويا. ومن هنا الخطر القادم: ما بين استخدام العائلة الحاكمة لمشاعر الخوف والقلق بين العلويين مما يضمر لهم مستقبلا وتغذية هذه المشاعر لجرهم لجانبها في الصدام، وما بين المشاعر المضادة المعادية للطائفة، والتي قد تتفجر في حرب طائفية دموية لا ترحم، وقد تطال المسيحيين أيضا.
هذا التحليل، الذي أراه صائبا، يفيدنا في فهم المشكلة الطائفية في العراق. في رأيي أن هناك طريقتين في التحليل لتناول هذه المشكلة: إما الانطلاق من الخلافات الفقهية والصراعات المذهبية القديمة، منذ صدر الإسلام والعهد الأموي والخلاف حول من الأحق بالخلافة بعد الرسول ثم مذبحة الحسين وعائلته، وإما الانطلاق من البعد السياسي، الذي أراه غائبا عن كثير مما قرأت من دراسات عراقية عن الطائفية. وهذا يفسر مثلا وصف النظام الملكي بالنظام الطائفي. فما الوقائع؟ المعروف أن عهود الحكم العثماني مارست تمييزا حادا وكاسحا ضد الشيعة العراقيين وفي مختلف الميادين، وذلك في مجرى الصراع مع الإمبراطورية الفارسية على أرض العراق. فقد قرن العثمانيون بين الشيعة وإيران بسبب المشاركة في المذهب. وعندما وقعت السلطة منذ قيام العهد الملكي في أيدي فريق من الساسة، الذين كانوا ضباطا في العهد العثماني، فإنهم ورثوا تلك النظرة التمييزية تجاه الشيعة، عن وعي أو بدون وعي، وهي نظرة سياسية لا مذهبية، بمعنى ربط الشيعة بإيران، خصوصا وأن شرائح من الشيعة كانوا قد سجلوا أنفسهم في الوثائق الرسمية كتابعين لإيران خوفا من الجندية. كما لعب رجال الدين الشيعة وعدد من ساستهم في العشرينات دورا كبيرا في تغذية تلك النظرة جراء دفاعهم عن الخلافة العثمانية ورفض الانتخابات والوظائف الحكومية أوإرسال أطفال الشيعة لمدارس الدولة. وطوال العهد الملكي كان هناك خط احمر، غير معلن عنه، على تولي عسكري شيعي لمنصب وزير الدفاع أو منصب رئيس أركان الجيش أو لمناصب كبرى في الدوائر الأمنية. وباستثناء ذلك، فكان المجال مفتوحا لأبناء الشيعة، خصوصا منذ الثلاثينات، وبفضل تشجيع الملك فيصل الأول، لدخول المدارس والكليات والخروج للبعثات- علما بأن وزارة التربية كانت في حالات كثيرة من نصيب وزراء من الشيعة. كما مارس التجار الشيعة نشاطهم بحرية، بل كانوا السباقين في التجارة ولهم مراكز كبرى في غرفة التجارة. وتولى ساسة من الشيعة الوزارات في مختلف الحقب الملكية. وتولى عدد منهم منصب رئيس الوزراء عدة مرات، لاسيما في السنوات العشر الأخيرة من العهد الملكي، لكنها كانت قليلة بالنسبة لتولي الساسة من الطائفة السنية لنفس المنصب.
أرى أنه لا يمكن اعتبار النظام الملكي طائفيا بمعنى تمثيله لمصالح السنة وحدهم، ولا بمعنى وجود سياسة تمييز منهجية وشاملة تجاه الشيعة، ولكن ما كان قائما هو وجود بعض أشكال التمييز الفعلي، غير الرسمي، بالنسبة لبعض المناصب الهامة؛ أو فلنقل، كانت الطائفية جزئية ومحدودة النطاق.
لقد كانت حركات المعارضة الوطنية، من مختلف التيارات والاتجاهات، تناهض العهد الملكي بذريعة انه كان يخدم الاستعمار والإقطاع. ولكن أين كانت الإقطاعيات الكبرى؟ كانت في المناطق ذات الأغلبية الشيعية كواسط والعمارة وذي قار. وقد تصاهر الوصي مع واحد من أكبر إقطاعيي واسط، وهو أمير ربيعة الشيعي.
هكذا، فالصورة مختلطة ومتشابكة، والنظام السياسي لم يكن يحرم قطاعات ونخبا متعددة من الشيعة من منافذ السطوة والمال والنفوذ، مع وجود تمييز الأمر الواقع في المناصب العسكرية والأمنية الهامة. كما لا يمكن القول إن سنة العراق جميعا كانوا سعداء. فالفقر والأمية والبطالة لم تكن مقتصرة على فئات واسعة من الشيعة، بل كانت تشمل شرائح شعبية من السنة أيضا. وفي التعامل السياسي، لم يكن نوري السعيد ليفرق على أساس مذهبي بين الضباط القوميين السنة، الذين تم إعدامهم وكذلك القائد لشيوعي السني زكي بسيم الذي أعدم أيضا، وبين من تم إعدامهم من القادة الوطنيين الشيعة والمسيحيين واليهود. كما أن البرلمانات العراقية كانت شراكة بين ساسة الطائفتين مع حصص للمسيحيين واليهود. ومعظم أولئك البرلمانيين، من سنة ومن شيعة [ لا جميعهم] كانوا محسوبين على الطبقة الحاكمة وكبار رجالات العهد الملكي. ورغم حرمان القومية الكردية من حقوق أساسية، فإن الطبقة الحاكمة كانت تضم العديد من ساسة الكرد وعسكرييهم، وأبرزهم بكر صدقي، الذي تبوأ منصب قائد الجيش، وهو الذي قام بانقلاب عام 1936 مع الجادرجي وحكمت سليمان.
إذ يقال كل هذا، فإن العهد الملكي قام أيضا بإصلاحات ومشاريع تخدم البلاد وعامة الشعب، ولاسيما قيام مجلس الإعمار، واتفاقية مناصفة الأرباح النفطية، والتوسع في فتح مجالات التعليم وزيادة الكليات، ونهضة الفنون التشكيلية، وقيام المشاريع الصناعية، وإطلاق الحرية النقابية والحرية الصحفية برغم أنهما كانتا تقمعان من وقت لوقت. وأقول من الضمير، وبكل قناعة، إن العهد الملكي، في مقارنته بعراق اليوم كان، وبرغم كل عيوبه ومآسيه وجرائره، كان عهدنا الذهبي. وكان المجتمع العراقي عهد ذاك منفتحا، وله حد مناسب من التعايش الهادئ بين السنة والشيعة والعربي والكردي وللمسيحي والمسلم واليهودي والصابئي المندائي والأيزيدي وغيرهم، وذلك بصرف النظر عن مواقف وسياسات بعض الحكومات.