في ليلة التاسع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1916 م كانت الساعة تشير إلى الثانية والربع عندما جرت محاولة الاغتيال الأولى في مدينة (بوكروفسكو) للراهب الروسي(جريجوري بيفموتش) القادم من سيبيريا والذي اشتهر في بلاط القيصر نيقولا الثاني آخر الأباطرة الذين حكموا روسيا قبل الثورة البلشفية باسم (راسبوتين). وهي نفس اللحظة التي جرت فيها محاولة اغتيال (فردناند) ولي العهد النمساوي بيد عصابة (الكف الأسود) الصربية في سراييفو التي أطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك فارق خمسين درجة طول بين المدينتين. ويعقب (كولن ولسن) على هذا أنها:( مصادفة عجيبة أن يشهد التاريخ محاولتين للاغتيال في اللحظة ذاتها تقريبا وهي مصادفة تجعل المرء ميالا للشك بعمى التاريخ).
كانت مدينة (بطرسبرغ) في ذروة الانحطاط الخلقي وكان (راسبوتين) يقضي وقته بين الخمر والنساء والإيحاء لزوجة القيصر أنه يوحى إليه من الله. كان (الخبيث) يلعب بمصير (الجبارين) من عائلة رومانوف.
ومن أعجب ما ذكر التاريخ أنه كتب وصيته على شكل نبوءة للقيصر قال فيها quot;إن كان قاتلي من أهلك فلن يبق منك ومن ذريتك أحد حياً في سنتين بعد موتي وسيكون قاتلكم شعبك الروسيquot;. وقضي فعلاً على العائلة المالكة بكاملها في (كاترين بورج) عام 1918 م. واندلعت حرب أهلية هلك فيها الملايين وهربت طبقة النبلاء تاركة روسيا لأكثر من خمس وعشرين سنة.
إن كل مغزى التاريخ يقوم على انزلاق الأحداث بين قطبي (الخبث) و(الغفلة). وعندما يجتمع الخبيث مع المغفل فإن مسرح الأحداث عامر بالقصص المسلية.
يقول (هربرت ويلز) في كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) quot;إن نظام الكون الاجتماعي يعاقب المغفلين كما يعاقب المجرمينquot;.
ويتولد من هذا القانون ثلاث حقائق:
ـ أن الكون يقوم على نظام اجتماعي كما في فيزياء الذرة وبيولوجيا الخلية. ـ وأن التاريخ يعاقب (المغفلين) كما يعاقب (المجرمين) لأن نظام الكون الاجتماعي قابل للارتداد وعكوس quot;يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكمquot;.
ـ وثالثاً أن من غفل عن سنن الله لا تغفل عنه سنن الله. ويضيف (ويلز )فيقول أيضاً أن قانون التاريخ ينص (أن من يمسك الأمور بيد من حديد يحول الممسوك إلى حديد أيضاً).
وبالنسبة (للمغفلين) فقد ظهرت في حرب الخليج الأولى التي مولتها ثلاثين دولة وامتدت أكثر من الحرب العالمية الثانية وحصدت أرواح مليون شاب وأحرقت 400 مليار دولار وخرجت العراق وإيران بعبث كامل.
وأما قصص (الخبثاء) فيمكن رؤيتها في ظاهرة الاستعمار ومن زاويتين (أخلاقية) و(اجتماعية). ويشرح (مالك بن نبي) هذا فيقول إن الاستعمار مدان لأنه سارق ومجرم. ولكن يمكن النظر إلى الاستعمار من زاوية (تاريخية) أنه جيد وفيه خير وهنا وجه الغرابة. فالاستعمار جاء وانتزع منا لقمة الخبز اليابسة التي كنا نقتات بها واضطرنا أن نمشي على طريق الأشواك والآلام تحت لسع السياط ولكن لولا مجيء الاستعمار وانتهابه لكل ما نملك وانتهاكه لكل محارمنا ما اضطررنا إلى اليقظة، ولبقينا نضرب الشيش في البطون ونزمر لأفاعي الكوبرا المتمايلة ونبلع الزجاج والخرافات، ولكن مجيئه كان رحمة غير مباشرة فاستيقظنا على الصفعة المجلجلة.
ويعتبر المؤرخ (توينبي) أن إسرائيل في المنطقة هي (المنخس) الحضاري للعرب، أو بتعبير (سقراط) ذباب الخيل الذي يهيج الخيول ويخرجهم عن الخمول.
ويذكر (مالك بن نبي) عن (جده) من أنه كان مطمئناً في حالة خدر لذيذ يتغذى على أحلام السندباد. ولكن جيل (والده) فارقته الطمأنينة ودخل القلق إلى حياته بعد أن قلب الاستعمار حياته رأسيا على عقب. وكان يفكر في المشكلة بدون أن يصل للحل. وبتعبير الفيلسوف (فتجنشتاين) الذبابة التي تطن في فضاء زجاجة بدون أن تبصر العنق. وكان هذا بالنسبة لوالده (تقدماً) عما كان عليه جده. أما جيل (مالك) فبدأ في المواجهة الموجعة بعد انهيار عالم ألف ليلة وليلة على رؤوس المسلمين. وبدأ في تحليل وضع المسلمين كما جاء في كتابه (شروط النهضة) أن الأمة تخوض ثلاث مراحل من (دور الوثنية) و(دور البطولة) وعن (دور الفكرة). فأما (دور البطولة) فخاضه الذين قاوموا الاستعمار وإن لم يكن لهم قدرة على تحليل المشكلة كيف جاء الاستعمار؟ ولا ماذا سيفعلون حين يرحل؟. وانحصر دور البطولة في امتشاق السيف واعتلاء الحصان الموروث عن آباءهم. وربما هذا الذي جعلهم في وضع مختلف عن مصير سكان أمريكا الأصليين الذين لم يتمكنوا من تحليل أبعاد الكارثة فقضى عليهم ولم يرحل عنهم الاستعمار.
أما دور (الفكرة) فهذا هو الذي يأتي ببطء وهو الذي لم يتحقق حتى الآن في العالم العربي. مع مظاهر نكس باتجاه الوثنية حيث بدأت عقيدة التثليث السياسي في الانتشار ودخول أي معبر حدودي يظهر لك مركب الأقانيم الثلاثة في صور عملاقة تطل على مواطن مسكينا ويتيماً وأسيرا.
وضرب مالك أمثلة لكل دور من الأدوار الثلاثة ومما ذكر عن (بيازيد) العثماني أنه انصرف إلى حرب تيمورلنك في معركة أنقرة عام 1402م بدل أن يتوجه إلى أوربا التي كانت تحمل بذرة التطور البشري، فلو توجه إلى الغرب لأدخل أوربا ليل التاريخ الذي كان يغلف شفق العالم الإسلامي ولتأخر ظهور الحضارة الغربية أو لربما أجهضت برمتها. فكأن هذا التحول يدخل في (ميتافيزيقا التاريخ).
وقد عبر عن هذا (جون آرنولد توينبي) بأسلوب آخر حين قال quot;من عجائب التاريخ أن سلوك البشر يحقق نتائج لا تخطر في بال الذين رغبوا في أهداف تحقق غيرها، والقرآن يعبر عن هذا بقوله (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً). وهو نفس مبدأ (ابكتيتوس) الفيلسوف الرواقي الذي لا يرى في النهاية شرا في العالم. فلنستبشر إذن ولا نحزن.
إن الله جعل لمخالفي قوانينه من المغفلين والمجرمين العقوبة التي تأتي فوراً أو (لاحقاً) على شكل كموني تغلي تحت السطح حتى تنفجر. ونحن صرنا قابلين للاستعمار قبل أن تتحقق ظاهرة الاستعمار. وكلما تغافل الناس عن العقوبات تأتي العذابات مضاعفة مع فوائدها المركبة. ويكبر حجمها باستمرار. ويبدو أن العالم الإسلامي لم يهتم بالعواقب ولا يربط الأسباب بالنتائج ولهذا لم يوقظه ظهور إسرائيل في عام 48 كما لم تفعل له شيء هزيمة 67 ولم تفزعه حرب الخليج الثانية التي كانت أكبر من أخواتها من الحروب عندما نسي العرب إسرائيل وتبين لهم أن الصراع العربي العربي أخطر من إسرائيل وأمريكا.
هكذا تأتي الفتن يرقق بعضها بعضاً quot; وربما يغط الناس في سبات عميق ولكنهم في النهاية يستيقظون على انبلاج الفجر. لأنه كما يقول نيتشه quot; أن هذا من شأن الحقيقة لا شأننا نحنquot; والعرب مازالوا في مرحلة الفجر الكاذب. والمصائب توقظ الأجيال لأن ذلك يعمل لصالح التاريخ. وبذلك يدخل بنوا آدم دار السلام ويخرجون من دار الفساد.
وعندما تعصر المحنة ويحلك الظلام وتكتمل دورة القمر فإنه بداية الولادة واقتراب الفجر وعودة القمر كالعرجون القديم فهذه قوانين وجودية تحكمنا وتحكم البشر جميعا عربا وأمريكان. ولن تجد لسنة الله تحويلا.
نحن اليوم نواجه أمم متحدة مصابة بالعنة في مواجهة روما الجديدة. كما كان العالم بعد معركة زاما عام 146قبل الميلاد. ولكن قانون التاريخ دفن روما فلم يبقى من الكولوسيوم سوى الأطلال.
ولو أن ألمانيا النازية انتصرت لما أمكن لهتلر أن يصنع أمم متحدة أسوأ من هذا الموجود. فماذا كان سيصنع أكثر من أن يعطى لنفسه وإيطاليا واليابان حق الفيتو. وهو المعنى الذي لم يكن يتكلم عنه أحد ونطقت به وزيرة العدل الألمانية يوما في مواجهة أمريكا وقالت إن بوش يتصرف مثل النازيين!
لقد انفجر بوش غيظاً من هذا التشبيه ولكن بوش نفسه صرح في نفس اليوم من أن الأمم المتحدة ستلحق بالمرحومة عصبة الأمم ولكن لم يقل أن الأمم المتحدة ستتحول إلى ديمقراطية عالمية.
وإذا كان هذا الهدف بعيداً لا يتحدث عنه أحد إلا أنه قريب وسيدينون حق الفيتو كما شبهوا أمريكا بالنازية.
ونحن نراهن أن المحن التي يمر بها العرب اليوم فلسوف تغير واقع العرب تحت الضغط كما في تحول الكربون إلى الماس. فكلها قوانين سواء في الفيزياء أو البيولوجيا أو علم الاجتماع.
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرونquot;