يؤكد العلاّمة مبارك بن محمد الميلي، صاحب كتاب (تاريخ الجزائر في القديم والحديث)، على إن الجزائر شهدت في العهد العثماني (1518-1830) مرحلة من تعاظم النفوذ، وامتلكت أقوى أسطول في بحرها المتوسط، وكانت سواحلها قواعد لشن الهجمات على الأساطيل الأوروبية، في إطار ما كان يعرف بالجهاد البحري، ومن مظاهر قوة الحكم آنذاك، إن داي الجزائر توصل الى اتفاق مع الحكومة الأميركية في العام 1797، يقضي بأن يدفع الجانب الأميركي ضريبة قدرها عشرة ملايين دولار، لمدة اثني عشر عاماً، مقابل توفير الحماية للسفن الأميركية. غير إن الحال لم يدم، فبعد هزيمة الإمبراطورية
العثمانية في معركة نافارين باليونان في العام 1827، في مقابل أساطيل بريطانيا وفرنسا وروسيا، تحملت الجزائر نصيبها من النتائج، وتكبد أسطولها الذي شارك في الحرب خسائر فادحة، ما جعلها غير قادرة على مواجهة أطماع الأوربيين، ووفر لفرنسا فرصة احتلالها في العام 1830(الجزء الثالث من الكتاب). ومنذ ذلك التاريخ فرض على البلاد عهد الغياب، وتوالت على شعبها سنوات الجمر، حتى تهيأ لها من أبنائها من ينهضون للمطالبة بحقوقها، ويقاتلون من أجلها، فكان يوم الخامس أو الثالث من شهر تموز- جويلية لعام 1962، عندما أدرك المستعمرون ساعة الرحيل وتكلل نضال السنين بانتصار الأمل في الإستقلال. ولم تكن البداية عند بيان الفاتح من نوفمبر- تشرين الثاني لعام 1954، أو مع أول مؤتمر لجبهة التحرير في وادي الصومام، عام 1956، فقط ،ولكنها كانت أيضاً مع الدور النشط والمؤثر للزعيم الوطني مصالي الحاج وهو أول من طالب باستقلال البلاد منذ العشرينيات من القرن الماضي، في المحافل الدولية، وذلك من خلال حزب ، نجم شمال أفريقيا، الذي ترأسه، كما قدم في العام 1929 وثيقة لعصبة الأمم المتحدة، أثبت فيها وبالأرقام فشل الإستعمار الفرنسي في الجزائر، وقد نشرت في جريدة الحزب (ألأمة). وقد عرف الحاج بخطابه الشهير في الملعب البلدي للعاصمة، وأمام الآلاف من الجزائريين : quot;هذه الأرض ليست للبيع، الشعب هو صاحبها ووارثها quot;، كما عرف عن جمعية العلماء المسلمين إنها وضعت هدف تحرير الجزائر في أولوياتها.
ومع الإستقلال المنجّز بدأت عملية بناء شاقّة لبلد لم يترك فيه المستعمرون إلا القليل، إلى جانب كمّ هائل من الفوضى في جميع المجالات. وفي رحلة البحث عن الذات وتجسيدها في دولة ذات مكانة وأسس صالحة للبقاء، واجه البناة الأوائل معضلة السياسة وتقلباتها متمثلة بالصراع بين المبادئ والمطامح، الذي أفضى إلى غياب أو تغييب قيادات ثورية، و حضور أخرى، فكان ما كان من صعود الراحل أحمد بن بلة إالى قمة السلطة، كأول رئيس للجزائر المستقلة ، ثم الإنقلاب عليه من رفيق دربه الرئيس الراحل هواري بومدين الذي استقر له الأمر لسنوات طويلة، شهدت البلاد خلالها منجزات كبيرة، وتحسناً واضحاً في مستوى المعيشة، كما احتلت الصدارة في محيطها الأفريقي والعربي، بالإضافة إلى تطورعلاقاتها بدول العالم المتقدم. وهنا لابد من الإشارة إلى إن المنجزات مهما كانت إيجابياتها، لا تحجب مساوئ النهج الذي تحققت في ظله، فقد أُهملت متطلبات بناء المؤسسات التمثيلية الضامنة لحق الشعب في اختيار السلطة، وجرى التركيز على بديلين هما الشرعية الثورية والعدالة الإجتماعية، وكأن هناك تناقضاً بين العدالة والديمقراطية.
ومهما كانت مساحة الإختلاف في تقييم المراحل وأشخاصها، فإن استدعاء التاريخ بقدر ما يحمل من مظاهر العزة الممزوجة بالمعاناة، لا يبدو مجدياً في ظل واقع زاخر بالشكوى، فالشباب الذين هم غالبية المواطنين في الجزائر، لا يطمحون الى السكن في أبراج الماضي، ولا تهمهم ثروات بلدهم ما لم تسخّر من أجل رفاهيتهم، وما يعنيهم من الإستقلال هو حقهم في العمل والسكن، والعيش ضمن أسرة تتوفر لها متطلبات الحياة الكريمة، وأن يعترف لهم بدور في بناء مجتمعهم. من هنا تأتي أهمية الإصلاح الحقيقي الذي هو مطمح كل الشعوب، بخاصة من انتفضت من أجل حريتها، وترقية أوضاعها الإجتماعية. والجزائر لا تشكل استثناءً من قاعدة حتمية التغيير، وهذا ما أدركته حكومتها فحاولت مقاربة الأحداث في محيطها الإقليمي، ولكن على طريقتها التقليدية في محاصرة المشاكل المزمنة دون معالجتها في العمق، والاعتماد على يقينية راسخة بدوام الحال، ما يزيد من حجم التراكمات ويرشحها لتحولات تصعب مواجهتها.
في حديث لرئيس الوزراء الأسبق، سيد أحمد غزالي، مع الصحافي محمد شفيق مصباح قال: quot; واقع الحال يدل على أن الشعور السائد اليوم لدى الجزائريين هو الإحساس بالمخاوف تجاه مستقبل هو محل كل الشكوك. إنه شعور ناجم عن الهشاشة العامة التي يعانيها المجتمع في مجمله وفي كل قطاع منه على حدة. لقد تلاشت كل صلة بين مجتمع يشعر بالتخلي عنه، وسلطات عمومية ضعيفة، وفاعلين اجتماعيين وسياسيين من دون وزن ومؤسسات قاصرة. إنها حالة خطيرة تعرض الأمة إلى تفكك حقيقيquot;، ويضيف غزالي:
quot; .. أن اليأس من الدولة يقضي على الحس المدني وعلى مناعة المنظومة الفكرية ليفتح المجال واسعا أمام شتى أنواع المغالاة والتطرف العنيف. لكن أن يُتخذ من ذلك حجة للابتعاد عن السياسة، أي quot;ترك السياسة للآخرينquot; في نهاية الأمر، معناه ترك الأمور كما هي، مرهونة بمشيئة هؤلاء أنفسهم ممن نتهمهم بالعجز أو عدم الرغبة في إيجاد الحلول للمشكلات التي نعانيها .
وكانت هذه المقابلة قد نشرت على حلقات في صحيفتي المساء الجزائري والشروق اليومي، في بداية العام 2008، وقد صدرت في كتاب باللغة الفرنسية قبل عامين، بعنوان: كلمات أمل، وينتظر أن يصدر بنسخته العربية.
إن الحديث عن الذكرى الخمسينية ووضعها في سياقها الأقرب لنبض الشارع الجزائري، يستلزم الإستعانة بشهادة أو أكثر، ممن عايشوا سنوات الإستقلال الأولى، وساهموا في بناء الدولة الفتيّة من مواقع مهمة، سواء في مجال السياسة أو الإقتصاد. وكنت قد اطلعت مؤخراً على المقابلة المذكورة، ووجدت فيها مادة غنية، تغطي مراحل طويلة، لكون المتحدث وهو من شباب الإستقلال، قد تولى مهاماً كبيرة، كأول رئيس لشركة البترول (سوناطراك) منذ العام 1965، ولمدة ستة عشر عاماً، وكوزير في حكومات متعددة (الطاقة، المالية والخارجية)، ورئيس للوزراء في العام 1991، وقد ضمّت حكومته إثنين من كبار المؤسسين السابقين للجبهة الإسلامية للإنقاذ، المرحوم سعيد قشي (وزارة التدريب المهني)، وأحمد مراني (الشؤون الدينية)، وقد عُرفت هاتين الشخصيتين برفضهما للعنف، ونبذهما لتوظيف الدين في الممارسة السياسية. ولأول مرة في هذه
الوزارة، تُستوزر أربع سيدات من أصل اثنين وعشرين منصباً وزاريا، فقد شغلن وزارات الجامعات (السيدة منتوري)، الشباب والرياضة (السيدة عسلاوي)، الصحة (السيدة نفيسة لاليام)، والشؤون الإجتماعية (السيدة بن عامر).
ولما تقدم، ولكون الوزير الأول سيد أحمد غزالي قد استقال من منصبه، لدواعي احترام النفس والمسؤولية، بعد اغتيال الرئيس الشهيد محمد بو ضياف في التاسع والعشرين من حزيران- جوان لعام 1992، كما صرّح مراراً، بقوله أنه لا يستطيع أن يبقى على رأس حكومة يقتل في ظلها الرئيس، ونظراً لموقعه المهم في المعارضة، غير المؤتلفة مع السلطة، فقد وجدت إن الكتابة عن الذكرى الخمسينية للإستقلال، تستدعي شهادته، لتكوين صورة قريبة من الوضوح عن الوضع في الجزائر، بالمقارنة مع ما يصرّح به المسؤولون في البلاد، على اختلاف مناصبهم. ولذلك فقد طلبت لقاءه، وتفضل مشكوراً بالإيجاب.
وقد أكّد لي في هذا اللقاء على إن حكومته كانت مستقلة عن الأحزاب، وإنه سعى لتسمية أكثر من أربع وزيرات، حرصاً منه على تحقيق التكافؤ، لكنّ بعضاً ممن وقع عليهن الإختيار، اعتذرن بسبب عدم موافقة أزواجهنّ، كما رفضت منظمة المجاهدين القدامى، تسمية المناضلة القديمة في حرب التحرير، مريم بن ميحوب، كوزيرة للمجاهدين.
أول أسئلتي للأستاذ غزالي، كان عن معنى الإستقلال بالنسبة للشباب، وهل مازال له القدسية نفسها بالنسبة لجيل المؤسسين، وكان جوابه التالي:
quot; يوم 5 تموز- جويلية، اليوم الرسمي لاستقلال الجزائر، إذا لم يغب عن الاذهان، قد تمت تسميته قبل خمسين عاما quot;يوم عيد الشبابquot;. وكان تاريخ الأول من تشرين الثاني - أكتوبر لعام 1954، أي يوم انطلاقة الكفاح المسلح من أجل التحرير الوطني، هو الذي سمي رسمياً بالعيد الوطني. وفي الحقيقة هؤلاء الشباب، بالاضافة إلى الفئات العمرية الأخرى، الذين لم يعيشوا الفترة الاستعمارية أو فترة النضال من أجل التحرر الوطني، يشكلون اليوم أكثر من 95٪ من السكان.
وينبغي أن يكون هذا اليوم مناسبة، وذلك بالتعاون مع القوى الاجتماعية، لتقييم مدى التقدم الذي أحرزته الجزائر بعد خمسين عاماً من استعادة الإستقلال، وبالطبع إنجازاتها ونجاحاتها، ولكن أيضا أوجه القصور والإخفاقات التي هي قبل أي شيئ آخر، تؤشر إلى ضرورة المضي قدما لاستكمال مسيرتنا.
أما بالنسبة للأهمية التاريخية، لذكرى الإستقلال، فلأنها وضعت نهاية لمئة وإثنتين وثلاثين سنة من الاستعمار، كانت الجزائر خلالها محور الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في الفترة التي دفعت أغلى الأثمان من حياة مواطنيها ومن تراثها المادي والثقافي، عبر تاريخها الذي يمتد لآلاف السنين. لقد استمرت حرب الاحتلال في الشمال فقط، لمدة اثنتين وأربعين سنة، بما فيها سبعة عشر عاماً من المقاومة التي قادها الأمير عبد القادر، حيث أن استسلامه كان في العام 1847.
انطلق الكفاح المسلح في العام 1954 وكان مكللاً ومنتصرا بسلسلة من الانتفاضات الإقليمية التي تلاحقت منذ ذلك الحين بشكل دورى، مع ما صاحبها من المجازر والتهجير والنزوح الجماعي.
وخلال فترة الثورة المسلحة فقط، فقدت الجزائر ما يتراوح بين ستة إلى عشرة بالمائة من سكانها، على أساس ما إذا كانت مبنية على الإحصاءات الرسمية الجزائرية أو الفرنسية. وهذا معناه بالمقارنة وكأن بلداً مثل فرنسا قد خسر خلال ثماني سنوات ما بين أربعة إلى ستة ملايين من سكانه.
وقد تجاوزت الثورة الجزائرية حدودها الجغرافية إلى أبعد حد. وكان لها تأثير على تحقيق إنهاء الحقبة الاستعمارية في تاريخ البشرية. كما إنها ساهمت في سقوط الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية.
ولأنها قضية عادلة، معترف بها، وذات طابع عالمي، فإن تطلع الجزائريين نحو الاستقلال والنضال من أجل التحرير لقي دعم قسم كبير من شعوب الكرة الارضية، بدءاً من الشعوب الجارة، والأشقاء في المغرب العربي.
وفي المقابل، فقد استضافت الجزائر المستقلة عديداً من الحركات الأفريقية وقدمت الدعم لها، وهذا الواقع هو الذي منح الجزائر العاصمة العنوان الفخري quot;الجزائر كعبة حركات التحريرquot;.
وفي ما يتعلق بتقييم 50 عاماً من الاستقلال، فمن الإنصاف أن نتذكّر حالات من البلاد في العام 1962 ونقارنها مع الحالة والصورة الراهنة لها: ففي العام 1962، وبعد 132 عاما من الاستعمار، كان عدد الطالبات والطلاب الجامعيين خمسمئة فقط، نصفهم درسوا في الجامعات الفرنسية، والنصف الآخر ارسل للتعليم ، وبمبادرة من جبهة التحرير الوطني، إلى بلدان أخرى غير فرنسا، مثل أوروبا الشرقية، والولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية. أمّا في العام 2012 فقد تجاوز عدد الطلاب الجامعيين المليون، ولدينا الآن اثنتين وعشرين جامعة. وفي سياق الحديث عن التعليم، نذكر بأسى، أنه في عشية الاستقلال تم إحراق جامعة الجزائر العاصمة بالكامل من قبل المنظمة الإرهابية السرية (OAS).
* في العام 1962، كان ثلاثمائة ألف طفل يذهبون إلى المدارس الابتدائية والثانوية بما في ذلك 5٪ من الفتيات. واليوم هناك أكثر من ثمانية ملايين من الشباب، بما في ذلك أكثر من 50٪ من الفتيات، في المدارس الابتدائية والمتوسطة والمدارس الثانوية.
* وخلال السنوات الإحدى والثلاثين الأولية، تم إنفاق أكثر من ثلث الموازنة العامة للدولة على التعليم.
* في العام 1962 كان هناك أربعين مهندسا فقط. وتمكنت الجزائر المستقلة من تدريب الآلاف من المهندسين سنوياً. وفي مجال الصحة تمكنا سنويا من تدريب 1000 طبيب، أكثر من نصفهم من النساء.
* وفيما يتعلق بالبنى التحتية، كانت السدود في الجزائر في العام 1962 تعدّ عشرة، بينما اليوم أصبح لدينا ما يزيد على الخمسين سدّاً، بما في ذلك تلك التي يجري العمل فيها.
* في عام 1962 كان جميع الموارد الطبيعية، بما في ذلك النفط والغاز يتم استغلالها من قبل شركات خاصة أجنبية، لكنها منذ العام 1971 خضعت لسيطرة المؤسسات العامة الوطنية والتقنيين الجزائريين.
اقتصرت على ذكر أبرز الحالات ولم أعمد إالى جرد أو مراجعة شاملة لما تحقق بعد الإستقلال، لكن يلاحظ من خلال ذلك أن الحنين إلى الماضي من الحقبة الاستعمارية هو شكل من أشكال العمى، أمام واقع مفاده أن الجزائر في العام 2012 هي دون أدنى شكّ أفضل من الفترة الاستعمارية بشكل تعتبر المقارنة فيه غير واردة.
هذا لا يعني ان كل شيء هو في أفضل الحالات، لا بالعكس، فهناك أخطاء ترتكب ولايخضع مرتكبوها للمحاسبة، كما لايُحاسب المسؤولون عن حالات القصور والثغرات. المآسي الاجتماعية واضحة كل الوضوح: التبذير وتبديد الموارد، والبطالة، والفقر، وعدم المساواة. كل هذه المآسي تعبّر عن وجود فجوة كبيرة بين الظروف التي يعيشها الناس والقدرات الحقيقية لهذا البلد.
وكذلك، إذا أردت أن أذكر عاملاً واحداً، على سبيل المثال، من بين تلك التي تعتبر إخفاقات، أدت إلى عواقب وخميمة، فأودّ من دون تردد أن أذكر آلية الحكم: بعد خمسين عاماً من الاستقلال نحن لا نزال نعاني من صعوبة كبيرة لندخل مرحلة سيادة القانون والتحديث المؤسسي. البلاد لا تزال تكافح في مسألة السلطة السياسية وشرعيتها، وعدم وجود المساءلة، ومصادرة الشرعية الشعبية quot;.
* * *
الى هنا أصل الى نهاية القسم الأول من المقال، على أن أعود الى القارئات والقراء في القسم الثاني مع أفكار وأسئلة أخرى.

[email protected]