ارتفعت وتيرة النداءات التي تحشد من خلالها بعض القوي لما يصفونه بانه (ثورة الغضب) ضد حكم الاخوان. ومع اقتراب موعد هذا الحشد في ٢٤ اغسطس الحالي، تبدل رد فعل جماعة الاخوان من (التجاهل التام) الي (الاستخفاف المتعالي) وصولا الي تصريحات متوتره نوعا ما.. تصف تلك الدعوات بانها (تحريض ودعوه للتدمير وعمل ضد الشرعيه).

من الملاحظ ان غالبيه المتابعين، وبما في ذلك القوي السياسيه غير الاخوان، تلتزم قدراً من (التحفظ المحايد) في التعليق علي هذه النداءات، خشيه ان تفاجئ في الموعد المحدد بما لم يكن في حسبانها قياسا علي الاستخفاف الذي كانت عليه التوقعات قبل يوم ٢٥ يناير ٢٠١١.. حين بدأت عمليه التظاهر واسعه النطاق ضد نظام الحكم السابق ثم لم تتوقف الا بعد ان تخلي الرئيس مبارك عن حكمه بعد ١٨ يوما.

مابين (مشهد ٢٥) الذي كان و(مشهد٢٤) الذي سيكون اختلافات كثيره جدا، فالرئيس الذي تظاهرت ضده مصر قبل نحو عامين كان له في الحكم ٣٠ عاما، في حين ان الرئيس الذي ستتم ضده مظاهرات المره المقبله بالكاد انهي ال٣٠ يوما الاولي في قصر الاتحاديه.
وبينما اصطفت كافه القوي السياسيه المعارضه وبما في ذلك - بعد البدايه - جماعه الاخوان.. فان الداعون للحشد الان لايمثلون كافه القوي السياسيه..وان كان هناك قدر من (التحسب) لان الشارع المصري لم يعد معروف الابعاد واثبتت وقائع كثيره انه ينطوي علي ماهو غير معلوم. لقد كان احدث دليل علي ذلك هو ان نتائج الانتخابات الرئاسيه لم تنته بفوز كاسح لمرشح الاخوان الدكتور محمد مرسي.. اذ اقتنص شرعيته بفارق مئوي ضيل عن منافسه الفريق احمد شفيق.
ان معايير التحليل العلميه لايمكن ان تقود الي سؤال يقول: هل سيسقط نظام حكم الاخوان بعيد مظاهرات ٢٤ اغسطس؟ ذلك انه نظام لم يتم بنائه بعد. ويجاهد من اجل تثبيت اركان في بيئه غير واضحه المعالم.. كما انه لايمكن قبول سؤال آخر مناقض يتبادله كثير من المصريين الان.. وهو: متي يتمكن الاخوان من (أخونه الدوله)؟ لاسباب يمكن شرحها فيما يلي.. ولنفس الاسباب فان السؤال الواجب طرحه هو: الي اي مدي يمكن للاخوان ان يتمكنوا من تحقيق استقرار للحكم وبدء مايمكن وصفه بانه (عصر الاخوان)؟
لقد استغرقت قوي المعارضه المصريه، بمختلف تياراتها، مالايقل عن ست سنوات، لكي تتمكن في النهايه من الاحتشاد يوم ٢٥ يناير ٢٠١١ بهدف بدء عمليه تغيير الحكم والثوره علي النظام.. واستهلكت في غضون تلك الفتره عشرات من الصيغ والتحالفات والمحاولات، ونشأت كثير من الائتلافات والحركات الاحتجاجيه، ونظمت عشرات من الاعتصامات المتفرقه والمظاهرات المختلفه والاضرابات، التي بلغت ذروتها ذات مره في ابريل ٢٠٠٨ بمدينه المحله.. وظلت الميول الطبيعيه للشارع المتحفظ حجر عثره كبير جدا في حدوث اندماج وامتزاج بين هذه الفعاليات التحريضيه وبين الجمهور العادي.. لدرجه انه لم يكن لدي جماعه الاخوان نفسها ثقه في ان الحدث الذي بدأ يوم ٢٥ يناير سوف يصير ماكانت عليه تطورات الامور في ٢٨ يناير.. ومن ثم تاخرت في قرار المشاركه علي نطاق واسع الا بعد ان تاكدت ان الوضع سيكون مختلفا.
كان الهاجس الجوهري لدي المعارضه هو ماعرف باسم (حاجز الخوف) الذي يتحصن به الجمهور العادي، ويجعل اي اعتراض نخبويا وليس جماهيريا. غير ان هذا الحاجز كان ان انكسر فعلا.. وضرب الاحساس الثوري مختلف فئات المجتمع.. فضلا عن انه لم تعد قبضه وزاره الداخليه كما كانت. ومع ازدياد الاقتناع العام باهميه ممارسه الحق في حرية التعبير والاعتراض.. فان واقع الشارع الان يجسد حاله (فوران) دائمه.. ومستمره.. ومن تلقاء نفسها.. وبما يمثل اضعاف محاولات السعي الي (التثوير) التي كانت تبذلها المعارضه قبل تخلي مبارك عن حكمه !
لقد تجاوز المصريون حاجز (الخوف) الي مايمكن وصفه بانه عدم اعتبار السلطه وتراجع مستوي هيبتها الي معدل خطير، في ظل حاله الفوضي العامه، ماجعل من عمليات (قطع الطرق) و(ايقاف السكك الحديديه) احتجاجا حدثا يوميا عاديا. واصبح التظاهر امام القصر الجمهوري والكتابه علي جدرانه مشهدا متكررا من اليوم التالي لقسم الرئيس لليمين. ان كثير من ضيوف الدوله يضطرون الي دخول القصر من باب خلفي تجنبا للمظاهرات التي لم يكن لدي بعضها مانع من ان تهتف ضد بعض هؤلاء الضيوف والقاء ماتعترض به علي مواكبهم.
كما ادت عمليه (تسييس) واسعه النطاق لكل فئات المجتمع الي ان المصريين لم يعودوا يطيقون صبرا علي من يحكمهم.. وبدأوا يسائلونه بشأن ماتعهد بتنفيذه في المائه يوم الاولي من اليوم التالي لبدء حكمه.. وبلغت الامور حد ان برنامجا تلفزيونيا فتح للنقاش موضوع (ماذا حقق الرئيس في ال٣٠ يوما الاولي)؟!
نفاذ الصبر، وصل حد انه كان يطرح علي المرشحين للانتخابات الرئاسيه سؤالا ثابتا في كل الحوارات والمناظرات التي خاضوها.. هو: ماذا سوف تفعل اذا خرجت مظاهره مليونيه ضدك؟ يتلوه سؤالا اخر.. هو: متي تستقيل من المنصب؟.. ومن ثم لم يكن مدهشا علي الاطلاق ان يرتفع مرات مختلفه شعارا في مظاهرات ميدان التحرير يقول: يسقط الرئيس القادم؟ قبل ان يأتي هذا الرئيس.
لاسباب نفسيه وسياسيه يمكن الاعتقاد بان المصريين يريدون ان يختبروا هذه القدره.. انه يمكنهم ان يزيحوا رئيسا من موقعه.. حتي لو كانوا قد انتخبوه بانفسهم في عمليه تنافسيه.. بل ان بعض اتجاهات التصويت بنت موقفها الرافض للمرشح الخاسر احمد شفيق علي اساس انها قد تجد صعوبه في تغييره لوجود احتمال قوي بان يحدث اندماج تام بينه وبين مؤسسات الدوله.. في حين انها تري انه يمكن مواجهه الدكتور محمد مرسي.. وابعاده.. او علي اقصي تقدير عدم انتخابه بطريقه اسهل من ذلك الذي وقفت ضده واحتشدت لرفضه.
يقودنا هذا الي حقيقه اساسيه في الواقع السياسي المصري الحالي، وهي ان الرئيس الذي كانت تنضوي تحته كافة المؤسسات وتأتمر بامره، لم يعد كذلك، وصارت صلاحياته محل اختبار يومي.. إما لان تلك هي طبيعه الامور باعتبار ان احد اهداف ثوره ٢٥ يناير كان هو تقليص صلاحيات الرئيس.. وتخفيض مستوي هيمنته علي ادوات الحكم. ماتحقق واقعيا حتي قبل كتابه الدستور الجديد. او لان الحكم المصري يقوم الان علي تعدد الاطراف.. التي تجعل من السلطات المختلفه معتده بنفسها وعلي قدر من النديه يجعلها تفكر مرات قبل ان تنضوي مع قرار رئاسي.. سواء تمثل هذا في القضاء واحكامه.. او تمثل في المؤسسه العسكريه المتوجسه من محاوله احتوائها وتبقي نفسها علي الجانب الاخر في حالة ترقب متوتر.. وان كان الان صامتا.
كمثال، فان الرئيس مبارك كان ان طلب من الجيش ان يخرج الي الشارع لكي يحفظ الامن ابان عمليات التظاهر واسعه النطاق. وهو الموقف الذي انتهي بان دفع الجيش الرئيس الي ان يتخلي عن منصبه. في حين ان الرئيس الحالي لايمكنه عمليا ان يضمن استجابه القوات المسلحه لطلب مماثل.. وبموجب الاعلان الدستوري المكمل [ الماده ٥٣ مكرر ٢ ] فانه (يجوز) لرئيس الجمهوريه في حالة حدوث اضطرابات داخل البلاد، تستوجب تدخل القوات المسلحه، وبعد موافقه المجلس الاعلي للقوات المسلحه، اصدار قرار باشتراك القوات المسلحه في حفظ الامن وحمايه المنشآت الحيويه بالدوله.
وبقدر ماجعل النص هذا التدخل (جائزا) وليس (واجبا) اذ لم يقل (لرئيس الجمهوريه ان يطلب)، فانه اشترط لكي تقوم القوات المسلحه بالمساهمه في حفظ الامن ان يوافق المجلس العسكري الاعلي قبل ان يصدر الرئيس قراره الذي يطلب فيه ذلك. ولهذا مدلوله واهميته في الموقف القانوني للرئيس في ظل حاله امنيه مترديه مثل تلك التي عليها مصر الان. ولنفس السبب فان المجلس الاعلي للقوات المسلحه اعتبر نفسه مجاملا للرئيس حين وافق علي المساهمه في حفظ الامن بعد تسليم السلطه رسميا اليه في ٣٠ يونيو الماضي، لان المجلس استجاب شفويا وبدون ان يتبع الخطوات الدستوريه التي نص عليها الاعلان المكمل.
في ذات الوقت فإن البيئه العامه لاتتيح إمكانيه للاستقرار القريب، الذي يمكن ان يستفيد منه الاخوان او يستفيد منه غيرهم، لانها تنطوي علي عوامل توتير تحتاج الي جهد ووقت لكي يمكن نزع فتائلها المشتعله بالفعل.. او التعايش معها بطريقه تؤدي الي لجم ثوريتها واخماد غضبها. وفي ذلك يمكن ان نرصد الامثله التاليه:

* ارتفاع مستوي الفقر، وتصاعد نتائج المشكلات الاجتماعيه الموروثه عن العصر السابق، والتي تنامت خلال عامين لم تكن الدوله تقوم فيها بما ينبغي عليها من معالجات. بالاضافه الي تفجر الازمه الاقتصاديه وتراجع معدلات الاستثمار الاجنبي وتأخر تنفيذ وعود مختلفه بتمويل مشروعات من اطراف اجنبيه تعهدت بذلك.

* تردي الاوضاع الامنيه، واحتياج وزارة الداخليه الي وقت اطول لكي تستعيد توازنها، حتي بعد ان استنفذت جهد وزيرين للداخليه، وبدأت عهد الثالث في الحكومه الجديده، مع تزايد الضغوط اللائمه لها..وعدم استقرار الاوضاع المهنيه لضباطها.. وعدم تحديد مهامها في المناخ السياسي.. ووجود مايمكن وصفه بانه حاله خصومه بين الوزاره والجماعه.. تجري محاولات لتجاوزها وسوف تستغرق وقتا من اجل ذلك.

* تزايد الاحساس بالريبه السياسيه والشك في النوايا من قبل جماعات وفئات سياسيه مختلفه، ليس لديها القدر الواجب من الثقه في جماعه الاخوان وماتستهدفه في عمليه اعاده بناء الحكم.. قياسا علي انه كانت هناك اتفاقات سابقه لم يتم الالتزام بها.. وآخرها ماجري بين الجماعات السلفيه والاخوان بشأن تشكيل الحكومه.
* يرتبط بذلك حاله مخاوف عامه بشأن عمليه صياغه الدستور التي تتم وسط هواجس كبيره بان هناك سعي من خلالها لفرض قبضه احتكاريه علي الحكم، واصرار الاخوان علي ان تستمر الجمعيه التاسيسيه الحاليه في مهامها، علي الرغم من الطعون القضائيه العديده ضدها. مخاوف تؤدي عمليا الي تعميق حاله واسعه من التوتر المنذر بكثير من التفاعلات.
* تدهور الاوضاع الامنيه في شبه جزيره سيناء، الي مستوي خطر للغايه، وانعدام الامن تقريبا في نصفها الشمالي، وهو مايمثل ضغطا حقيقيا علي كل المؤسسات المعنيه بامن البلد وبمصير الحكم فيه.. ويؤدي الي تزايد الاحساس العام بان سيناء تفلت من يد مصر.. وقد كان هذا موضوعا اساسيا في مناقشات ومساجلات الحمله الانتخابيه للمرشحين للرئاسه.
لقد انتبه الكثيرون الي ان الرئيس مرسي، ومن قبله رئيس الوزراء الجديد هشام قنديل، يكرران مطالبه الشعب بالتعاون، في مواجهه احتجاجات تعبر عن نفسها يوميا وانتقادات مستمره من وسائل الاعلام.. لكن تلبيه نداء الرئيس ورئيس وزراءه لن يتحقق بسلاسه في ظل اوضاع متفاقمه وتحتاج بالفعل الي خطوات متوازيه.. وتمويل غير متيسر.. واجهزه متماسكه للدوله.. ورأي عام ليس علي هذا القدر من التربص.

كاتب سياسي مصري
مستشار الراي الكويتيه بالقاهره

[email protected]