القيمة الأهم في تظاهرات العراق quot;غير الطائفيةquot; انها فرصة لخلق قوى ضغط مدنية تكون نواة لنشوء عقلية سياسية مدنية في الوطن الموزع طائفيا.
الكلام عن تظاهرات 25 شباط 2011 والتظاهرات الأخيرة المطالبة بإلغاء تقاعد أعضاء مجلس النواب، ولا ينطبق على تظاهرات الانبار وسواها، كونها جزء من المشهد الطائفي وتندرج ضمن المواجهة المذهبية الداخلية والإقليمية.
قد تحقق تظاهرات الانبار توازنا ما في حراك العملية السياسية وتدفع باتجاه منع قيام الدكتاتورية المطلقة مجددا، لكن الأكيد انها اعادت للواجهة وجوه حرب كانت قد اختفت او في طريقها للاختفاء، وانتجت شدا متبادلا في الشارعين الشيعي والسني.
الشد الطائفي يصطدم بتظاهرات من نوع اخر، تمثل حراكا لا طائفيا يواجه السني فيه السياسي السني والشيعي فيه السياسي الشيعي، يحقق ما تحاول هذه العملية السياسية بكل أطرافها منع تحققه، ويستفز الأغلبية النائمة او الصامتة في المجتمع، وهي التي تحدد اتجاه الانتخابات.
في تظاهرات الخامس والعشرين من شباط 2011 وضعت السلطة كلها في حالة استنفار نفسي، الطبقة السياسية بكاملها تكاتفت رغم عمق اختلافاتها، أحد القيادات السياسية المعارضة للمالكي أعرب في حديث خاص عن مخاوفه وقال quot;نحن ـ السياسيون ـ في سفينة واحدة، ان غرقت سنغرق جميعاquot;، هذا الشعور ظل فترة حتى بدت القصة غير مخيفة، عندها فقط بدأ التحرك باتجاه دعم التظاهرات او محاولة ركوبها، ما تسبب في افشالها بنهاية المطاف.
مظاهرات 31 آب الماضي مثلت أيضا فرصة جديدة لصناعة المواجهة المدنية ضد السلطات، لهذا لم تحظ بارتياح رئيس مجلس النواب كونها تطالب بإلغاء تقاعد نوابه، وتعرضت لحصار أمنى من قبل السلطة التنفيذية وصل لمستوى القمع في مدينة الناصرية، وهي حتى وان كانت مريحة لرئيس الوزراء مضمونا، غير ان نمو استمراراها سيفتح الباب امام مضامين ومطالب واهداف أخرى تهدد حكمه.
ومن المفترض ان تنتج الجولة الثانية منها يوم غد، ذات المطالب وذات القلق لدى كل هذه الطبقة السياسية الحاكمة. لأنها ان استمرت واتيح لها ان تمتد، ستخلق شعورا اخر بديلا عن المخاوف الطائفية، والطائفية هي اخر قلاع السياسي العراقي الحاكم اليوم، بدونها يخسر قدرته على الاستمرار بعد الفشل المخجل.
اللافت للنظر ان الاحتجاجات الأخيرة كانت قوية في المحافظات الجنوبية، خصوصا في كربلاء وذي قار، وانا كانت منظمة للغاية في العمارة، وان المحافظات التي تعد قاعدة حكم المالكي وعموم القوى السياسية الشيعية، كشفت عن وجه اخر لا يحمل ملامح خوف من الخسائر الطائفية.
ان خطوة الغاء تقاعد أعضاء مجلس النواب ليست هي الجوهرية طبعا، التقاعد ليس سوى قصة صغيرة في عراق مخرب، الجوهري هو ان يمتلك البلد قوى ضغط مدني، وهذه القوى قد تكون منقسمة ومختلفة وأحيانا فاسدة وربما متسلقة، شيء طبيعي، الا ان حصولنا على واقع احتجاج اختار أيام السبت وتحاشى الجمعة حيث الدلالات الدينية، ويتضمن وجوها عراقية تمثل الفكر والادب والفن والاقتصاد، وامتدادها لكل المحافظات تقريبا... حصول العراق على هذا شرط ضروري في تحقيق خطوة خلق طبقة سياسية مدنية تمتلك قاعدة تؤهلها لان تخوض المعركة الانتخابية.
لا يمكن الحديث عن ثورة في بلد مقسم طائفيا، لأنها ستكون ثورة طائفة ما، ما دامت السلطة منقسمة مذهبيا، الثورة تتحقق بعد نشوء وعي مجتمعي خارج شروط الطائفة والمذهب والدين، كي تكون ثورة لكل العراقيين، وليس لجزء كثير او قليل منهم.
الخيار مفتوح في المرحلة اللاحقة نحو الدفع باتجاه نشاط إيجابي للشرائح التي صمتت طويلا، والتي قاطعت الانتخابات خلال السنوات الماضية بفعل اليأس والإحباط، تلك الشرائح لا تريد هذه الطبقة الحاكمة ومشاركتها الانتخابية سيدفع باتجاه اختيارات مختلفة عن أحزاب الإسلام السياسي الرئيسية.
مرجح ان تفي التظاهرات بذلك ان استمرت وبقيت خارج إطار السيطرة المسيسة وتحركت بوعي ضرورة كسر السلبية التي يعاني منها أكثرية الشعب العراقي. الانتخابات المقبلة هي فرصة جديدة، ليس للتغيير الفوري بل لقضم بعض مكاسب الكبار الشرهين.