وصل الحديث فى الحلقة الثانية السابقة إلى مؤتمر القاهرة برئاسة ونستن تشرشل وزير المستعمرات البريطانية حول المسائل الرئيسية فى الدول العربية حيث قررت الحكومة البريطانية أن تحول إدارة الدول العربية من الأنتداب البريطاني الى وزارة المستعمرات، وعندها تنتقل إدارة العراق من أختصاص وزارة الهند الى وزارة المستعمرات.
وهنا بدأت جهود مضنية لبرسى كوكس (السياسى البريطانى المعروف والمسؤول عن رسم سياسات بريطانيا فى الوطن العربى وهو من الشخصيات المؤثرة ذات العلاقات الواسعة مع العشائر العربية وهو من أبوين يهوديين) فى محاولة تشكيل حكومة مؤقتة فى العراق من أجل المجئ بملك عربى لحكم العراق لأن بريطانيا قد وقعت فى أزمات متعددة مختلفة الجوانب.
من تك الأزمات التى واجهتها بريطانيا العظمى هى أولا الثورات المتعددة فى العالم العربى من أجل التحرر والإستقلال مثل الثورة المصرية فى 1919، وثورة اليمنيين وثورة السوريين وغيرهم. وكذلك الثورة العراقية ضد الإحتلال البريطانى لنيل الإستقلال والتى قادها زعماء عرب أبرزهم من بغداد مثل الزعيم العربى السيد مهدى الحيدرى والشيخ مهدى الخالصى والشيخ ضارى الحمود والسيد محمد الصدر وكذلك من النجف أمثال السيد محمد سعيد الحيبوبى وجعفر أبو التمن وأما الجنوب أمثال الشيخ شعلان أبو الجون من الرميثة وغيرهم من مختلف مناطق العراق كما ذكر ذلك المؤرخ أحمد الحسنى فى كتابه (الإمام الثائر السيد مهدى الحيدرى) وعلى الوردى فى كتابه لمحات إجتماعية ومير بصرى فى كتبه الثلاث (أعلام السياسة فى العراق الحديث) (أعلام اليقظة الفكرية فى العراق الحديث) (أعلام الوطنية والقومية العربية) والوثائق البريطانية ودائرة المعارف البريطانية ودائرة المعارف الإسلامية ومذكرات المس بيل وعباس العزاوى فى كتابه (عشائر العراق) ومحسن الأمين فى الأعيان وحسن الأمين فى مستدركه والزركلى فى أعلامه ومحمد مهدى الموسوى فى كتابه (أحسن الوديعة) والحسنى فى (العراق فى دورى الإحتلال والإنتداب) وعبد الله النفيسى فى رسالته الدكتوراه و حسين على محفوظ فى كتابه (الكاظمية فى المراجع العربية) أمين سعيد فى (ثورات العرب فى القرن العشرين)، وعبد الرزاق الحسنى فى (تاريخ الوزارات العراقية)، وبحثى عن ثورة العشرين وغيرها.
الأزمة الثانية لبريطانيا كانت التدهور الإقتصادى الكبير بعد الحرب العالمية الأولى حيث الخزانة البريطانية مثقلة جدا من الحرب ونتائجها إذ باتت بريطانيا منتصف عام 1920 تعانى أزمة أقتصادية ومالية تسببت في أنهيار الأسعار ، فأنخفض سعر الجنيه الأسترليني بنسبة 27% نسبة الى الدولار ، مما أدى الى تدهور الوضع الأقتصادي ،وكان الشعب البريطانى يطالب الحكومة بضرورة الإنسحاب من العراق وتكاليف الحرب الباهضة لذلك وقع ونستون تشرشل تحت الضغط الشعبى والضغط الإقتصادى والسياسى مما جعله في (14 شباط1921) ينتقل من وزارة الحرب الى وزارة المستعمرات لتكوين مؤسسة باسم ـ(دائرة الشرق الأوسط) ، فلذلك دعا الى عقد مؤتمر كبير يشمل العديد من الموظفين البارزين مدنيين وعسكريين لمعرفة آرائهم في سياسة بريطانيا الجديدة ، ومباحثتهم في الترتيبات المالية والعسكرية للمناطق الواقعة تحت الأنتداب البريطاني، فعقد المؤتمر في القاهرة في (12آذار1921) لاستقرار أوضاع القاهرة آنذاك وأستمر اثني عشر يوماً. وحضر المؤتمر ونستون تشرشل وزير المستعمرات، والكولونيل لورنس، والسير برسي كوكس، والجنرال المر هالدين القائد العام للجيوش البريطانية في العراق والمس بيل ،وسلتير مستشار وزارة المالية، واتكنسن مستشار وزارة الأشغال والمواصلات، والميجر أيدي مستشار وزارة الدفاع بالوكالة، كما حضره عن العراق السير ساسون حسقيل، وجعفر العسكري. وتحدث رئيس المؤتمر ونستون تشرشل في الجلسة الاولى للمؤتمر،غاية المؤتمر وأهدافه، ثم انبثقت منه لجنتان: اللجنة العسكرية والمالية واللجنة السياسية ، وبالنسبة للعراق تقرر تقليل اهتمامهمحيث كان يبلغ مجموع القوات البريطانية في العراق (57.000) شخص إضافة إلى ستة أسراب من الطائرات حيث تم تخفيض تلك القوات الى الثلث ، ودرست شخصية الحاكم المترقب لحكم للعراق ، وطبيعة الحكومة القادمة ومهاماتها ودفاعاتها العسكرية كما تمت مناقشة القضية الكردية وعلاقتها بالعراق.
وكان هناك عدد من المرشحين لحكم العراق حيث عرض برسي كوكس في الأجتماع الأول للجنة السياسية ، أسماء المرشحين ثمّ تمّ أخيرا ترشيح الأمير فيصل لعرش العراق لأنه بنظر البريطانيين هو الأنسب لحكم بلاد الرافدين وخير من يحقق مصالح البريطانيين عندما يأتون به للحكم بينما اعترض السير ساسون حسقيل على ذلك رغم الصداقة الحميمة بين ساسون وفيصل فى مجلس النواب التركى قبيل الحرب العالمية، إذ لم تكن الصداقة مانعة من المواقف الوطنية عند ساسون. قال ساسون: (جرت العادة عندما يستقل بلد فيؤتى بالملك أو الأمير من الشمال وليس من الجنوب). وهو بذكائه الكبيروحنكته المعهودة كان يعرف ما يقول وعندها فهمه البريطانيون وفهموا عمق ما يقصده يزخر بالكفاءات العظيمة ولايحتاج استيراد ملك من الخارج .. فقالوا (لاتنس أنّ كنهان كورنواليس سيكون برفقة الأمير فيصل، وهذا بطبعه من الشمال وليس الجنوب) فضحك ساسون عندها ضحكته المعهودة فى أمثلال هذه المواقف وكانت تبدو علائمها ودلائلها فضحك الجميع.
وقد ذكر ذلك كثيرون منهم الأستاذ عبد الرحمن البزاز فى كتابه المعروف والمطبوع فى القاهرة عام 1960 الصفحة السادسة والستون وما بعدها، كما ذكرها الأستاذ مير بصرى فى كتابه المذكور فى الحلقات السابقة الصفحة الخامسة والستون وما بعدها والوثائق البريطانية وحنا بطاطو وغيرهم.
هذا الموقف الوطنى البارز للسير ساسون أمام البريطانيين بعد مواقف شريفة كثيرة منها ما ذكر عند مفاوضته الشركة البريطانية للنفط واشتراطه أمورا عديدة منها ضرورة مساهمة الحكومة العراقية فى الشركة البريطانية المستثمرة كما اشترط أيضاً أن يكون دفع العوائد للعراق على أساس الذهب وليس العملة الورقية رغم اعتراض الوفد العراقى والبريطانى على ذلك لكنه أصر حتى فلح فى ذلك وكان ذلك يوما مشهودا حيث أفاد الخزينة العراقية بعد أن كانت ضعيفة هزيلة محملة بالديون إلى انتعاش وازدهار مشهودين يقر بها القريب والبعيد كما ذكر آنفا.
من الجدير إضافته أن السيد داود الحيدرى وهو المستشار القانونى والحقوقى لشركة استثمار النفط البريطانية قال (رحم الله السير ساسون حسقيل فقد كان ذكيا وطنيا حاذقا وقد أفادنى كثيرا حيث طلبت من شركة النفط تحديد راتبى على أساس الذهب اقتداءا به فوافقوا بعد اصرار وإلحاح، وتبين لى استفادات هائلة حين نشبت الحرب العالمية الثانية ونزول العملة الورقية كثيرا وارتفاع الذهب مما جعلنى ثريا) انتهى كلامه.
وكما أن الملاحظ فى الكثير من دول البلقان وغيرها عند استقلالها ، جئ لها خلال القرن التاسع عشر بملوك من دول أوربية شمالية مثل اليونان التى استقلت عام 1832 حيث جئ بالأمير أوتو نجل ملك بافاريه. ولما خلع الملك أوتو عام 1862 جئ بالأمير جورج من الدانمارك. وكذلك مثلا فى دولة بلغاريا التى بات الأمير فرديناند من ألمانيا ليكون أميرا لها ثم صار ملكا بعد ذلك كما هو معلوم. وأما ألبانيا فقد صار الأمير ولهم الألمانى أميرا لها منذ عام 1914. كما كان الأمير ليوبولد ملكا لبلجيكا عند استقلالها عام 1831، كما كان الأمير كارل دى هوهنزولرن الألمانى أميرا لدولة رومانيا عند استقلالها عام 1866 وبات ملكا لها عام 1881. وفى ذات الحال عند انفصال النروج عن السويد عام 1905 فقد تم استدعاء الأمير شارل الدانماركى للعرش فاتخذ لنفسه اسم الملك هاكون السابع كما هو مشهور ومعهود .
وبعد اختيار الملك فيصل بن الحسين ليعلو عرش العراق تمت مناقشات صعبة جدا فى اختيار الوزراء لاسيما ساسون فى منصب المالية كما سيأتى فى الحلقة القادمة.