من مفكرة سفير عربي في اليابان

أحببت في هذه المقالة أن أناقش تساؤلا رائعا من أحد القراء الأعزاء، وأرجو أن يكون حوار بين السائل، والقارئ، ومفكري الغرب، والكاتب. فقد طرح القارئ، الأستاذ نور الدين، تعليقا جميلا على مقال، الديمقراطية السائبة أم الأتوقراطية المؤسساتية، يقول فيه: quot;والسؤال: هل تستفيد دول الشرق الأوسط من التجربة الكورية لتحقيق التنمية الاجتماعية، أو التنمية الاقتصادية، أو التنمية المستدامة. نحن لا نعرف سؤال استاذنا موجه لحكام هذه الدول، أم للخبراء والمختصين، أو لعامة القراء. قبل الإجابة، اصارحك القول، بأنني لم افهم لحد الساعة الرسالة التي تريدون تمريرها، وهي: هل الديمقراطية كنظام اجتماعي سياسي، واقتصادي، هو شيء ايجابي، وصالح، ومفيد، للمجتمعات المتخلفة؟ أم هو نقمة، وكارثة، على هذه الشعوب؟ فهي كما تقولون، أصبحت تعاني في ديارها، وحسب مراجعك، واقصد الاساتذة المختصين (ربما ذوي الميول والاتجاهات الاشتراكية)، حسب أرائهم، فالديمقراطية تعيش أوقات صعبة للغاية، أو ربما هي الان في غرفة الانعاش. فكيف تنتكس هذه التجربة في ربوعها، ونحن نناشد دولنا استيرادها، واستعمالها، لتحقيق التنمية، والتطور. وخاصة ان تطبيق الديمقراطية، يتطلب ان تتوفر شروط مسبقة، وهي تقديس العمل والوقت، واحترام وسيادة القانون، والانضباط، والمنافسة الشرسة، بالاضافة للتضامن الاجتماعي من دفع الضرائب، والضمانات الاجتماعية، وغيرها، دون ذكر الجانب الاخلاقي، وكذلك السياسي، من انتخابات حرة، وتبادل على الحكم، وفصل السلطات، وحرية الرأي والتعبير، وخاصة حرية المرأة، ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات. اجابة على سؤالك، وفي مثل هذا الوضع، اي ان الديمقراطية عاجزة عن تحقيق المعجزة، والنظام الاشتراكي منهار تماما، ولا يمثل البديل.. فما الحل بالنسبة للدول التي أخرجت من التاريخ مثل حالنا، حسب رأيي المتواضع، انه اصبح اليوم ليس لنا الحرية للخيار، فهذا النظام بات سيد العالم، ونحن مجبورون على الاخذ به، علما انه لا يتجزأ، فهو، كما تعلم سيدي الفاضل، سلاح ذو حدين. فالديمقراطية صعبة، وربما نتائجها وخيمة، (ومن سيس) ديننا الاسلامي أيضا صعب، ولا يمكنه أن يتنازل عن منصبه بكل سهولة. فالصراع في جوهره بين الاصالة والعصرنة، تحقق تنمية مستدامة بالديمقراطية، أو تظل تراوح مكانك في الجهل والتخلف، اذا لم تكن لك الشجاعة الكافية، في تقديم قراءة جديدة، متماشية مع العصر، لتراثك الاسلامي، المملوء بالشوائب.quot;
سيدي الفاضل أتصور بأن تعليقك هو مقال فلسفي متكامل، وإسمح لي أولا أن أوضح بأن هذه الملاحظات التي طرحت في المقالات السابقة، أتت من خيرة مفكري الغرب، والذين يؤمنون بالديمقراطية الغربية، ورأسماليتها، والتي هي في الحقيقة حققت للدول الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين إزدهارها. ولكون الديمقراطية مع رأسماليتها مرتكزة على حرية التعبير، والتساؤل، والإبداع، لذلك درسوا مفكرو الغرب التحديات الجديدة التي تتعرض لها الديمقراطية في عالم العولمة الجديد، وفي القرن الحادي والعشرين، ويحاولون إيجاد الحلول الممكنة. فقد غيرت التكنولوجية الاتصالات والمواصلات العالم من كوكب ارضي شاسع، إلى قرية كونية تكنولوجية صغيرة. وفي هذه القرية الكونية الصغيرة، يتأثر كل فرد من نتائج عمل الاخر، وكل سياسي يؤثر على عمل السياسي الاخر وكل شركة على شركات دول أخرى وكل حكومة على حكومة البلد الاخر. فمثلا حينما خلقت البنوك الأمريكية أدوات استثمارية معقدة، ضمت فيها بعض ديون الاسكان في الولايات المتحدة، وحينما تبين بأن هذه الديون قد ساء فهم أرباحها، انهارت جميع البنوك الامريكية، لأنها كانت تملك ضمن اصولها الكثير من هذه الأدوات الإستثمارية. ولكن دفعت هذه البنوك، أيضا، لقرب انهيار النظام المالي العالمي في عام 2008، مما ادى لاجتماع دول مجموعة الدول العشرين، لوضع حلول عولمة مشتركة، مما أدى ذلك لتغطية خسائر هذه البنوك، من أموال دافعي الضرائب، في دول الغرب وباقي دول العالم، ليؤدي ذلك لزيادة أزمة الديون العالمية، والتي عولجت بزيادة التقشف، وترافقت بالتباطؤ الإقتصادي، والذي يعاني منه العالم حتى اليوم.
وكما ذكرت حضرتك، بأن نظام الضرائب مهم لخلق توازن عدالة اجتماعية في الدخل، لأن الارباح التي تسجلها الشركات، تأتي من أموال شعوب دول العالم، وتساعد هذه الضرائب لخلق نوع من العدالة الاجتماعية، حيث توجهه أموالها لخلق شبكة أمان أجتماعية، في الرعاية الصحية، والتعليم، ونظام تقاعد وتعطل، ليتوفر لجميع افراد المجتمع هذه الخدمات، في وقت الحاجة، لا أن تتعطل البشر عن العمل، وتموت من المرض، والجهل، والفقر. كما أن نظام العولمة الجديد خلص الشركات العالمية العملاقة من قوانين بلدانهم، بأن هربوا بفروع شركاتهم للخارج، للاستفادة من العمالة الرخيصة، والتهرب من الضرائب المرتفعة، وخفض سعر النقل، وطبعا كانت هذه فرصة لتقدم اقتصاد الدول النامية. ويجب أن نلاحظ بأن عالم القرن العشرين، كما وصفه كيشور محبوباني، كان عالم دول، شبهها، بقوارب تبحر في أسواق رأسمالية عديدة، لكل منها حكومتها، وقوانينها، وأنظمتها، وضرائبها، ولكن تجمعها معا قوانين تجارة دولية، تقيها من التصادم. أما في عالم العولمة الجديد، أصبحت 193 دولة، ككابينات صغيرة، تعيش جميعها ضمن سفينة ضخمة، تبحر في سوق عولمة عملاقة، وتحتاج لتعاون وتناغم متناهي بين شعوبها، وقياداتها، وشركاتها، ومؤسساتها، وحكوماتها، لكي يقود الجميع بتناغم هذه السفينة، لتبحر في عالم العولمة الجديد وسوقها بسلام.
ولنتذكر بأنه حينما تخوفت شركات الغرب العملاقة من التغيرات العالمية في السبعينيات، وخاصة في دول أمريكا اللاتينية، دفعت هذه الشركات بعلماء الاقتصاد، وعلى رأسهم البروفيسور ملتون فريدمان، عميد كلية الاقتصاد في جامعة شيكاغو، لينظروا لأفكار جديدة لحماية ارباحهم. فبرزت الفكرة التي نادت بها رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، مارجريت تشر، والرئيس الأمريكي السابق، رونالد ريجن، بأن الحكومة سبب المشاكل لا حلها، وضرورة تحرير السوق من الانظمة والقوانين. وقد ادت تلك الأفكار لرفع الكثير من القيود على حرية تجارة سوق العولمة، وخفض الضرائب على أرباح الشركات، مع خلق الكثير من الثقوب في نظام الضريبي، والذي أدى لأن يصرح أحد أغنى التجار الأمريكيين، ورن بفت، بأنه يدفع نسبة ضرائب أقل بكثير مما تدفعه سكرتيرته المحدودة الدخل. وقد أدى كل ذلك لخفض الصرف على شبكة الحماية الاجتماعية عن الكثير من شعوب الغرب. فمثلا، قررت مارجريت تشر إلغاء وجبة الغذاء التي كانت تقدمها المدارس البريطانية للأطفال، كما ألغي الرئيس ريجن كثير من المساعدات لطلبة الجامعات. وقد ادت هذه القرارات لزيادة أرباح الشركات الكبيرة، مع تباين كبير في الدخل، وانخفاض نسبة الطبقة الوسطى، ولترتفع نسب الفقر بين أطفال بريطانيا من 17% في السبعينيات إلى حوالي الثلث في عام 2007، كما ارتفعت كلفة الرعاية الصحية الامريكية إلى 18.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بالرغم من انخفاض مستوى الرعاية الصحية.
وقد وضح معضلات الواقع الجديد للرأسمالية الغربية في عالم العولمة الجديد، الصحفي الامريكي، تدر ول، في مقال بصحيفة اليابان تايمز في 19 مارس الماضي، وبعنوان، هل من الغريب أن يتوجه الطلبة للإباحية لدفع كلفة الجامعة؟ يناقش الكاتب قضية اجتماعية انتشرت في الاعلام الأمريكي، عن طالبة متفوقة في قمة الجامعات الأمريكية، اضطرت لممارسة تجارة الجنس، لكي تغطي كلفة رسوم الجامعة. وتساءل الكاتب: لماذا أصبحت طالبة في قمة الجامعات الأمريكية، عاملة في تجارة الجنس؟ وترد الطالبة بأنه: quot;لو أن الجامعة ساعدتني في خفض أجور الجامعة لما أضريت للعمل في تجارة الجنس، وقد توضح قصتي ما وصلت إليه كلفة الدراسة الجامعية.quot; فتصور عزيزي القارئ بأنه في كل عام يقترض 12 مليون طالبا في الولايات المتحدة قروض كبيرة، لتغطية كلفة الرسوم الجامعية، وحينما ينتهي هؤلاء الطلبة من الدراسة، يكون على كل منهم قرضا لا يقل عن 26 ألف دولار سنويا، بل عليه دفعه أضعاف مضاعفة كفوائد مركبة، وهذا طبعا يعتمد على إن استطاع أن يحصل على وظيفة. أما الطالبة المذكورة فقد كلفت دراستها الجامعية 61 ألف دولار سنويا، كرسوم للدراسة الجامعية والسكن والطعام، أي 250 ألف دولار لمصاريف أربعة سنوات دراسة، ولا يمكنها أبدا دفع هذا المبلغ، وبفوائدها البنكية المضاعفة، بالقيام بعمل جزئي عادي كطالبة، بل كان عليها التفكير في طريقة خارقة للعادة. ولم تجد امامها إلا بيع جسدها لكي تستطيع أن تكمل دراستها، وتضمن مستقبلها. ويؤكد الكاتب بأنه شخصيا يعرف الكثير من الطالبات في أحد قمة الجامعات الأمريكية الخمس، التي تخرج منها، يمارسون نفس هذه المهنة لتغطية كلفة الدراسة الجامعية، بينما كان الطلاب الذكور يتعاملون في بيع المخدرات، لتغطية كلفة الجامعة.
ويتذكر الكاتب بأن أحد زملائه في الجامعة كان ينام في وسط الحدائق ليلا، لأنه لم يبقى لدية أية مال لدفع مصاريف السكن، بعد دفعه رسوم الجامعة. بل ويتذكر بأن أحد الطلبة تسلق إلى مختبر الكيمياء النووية، ليسرق مواد نووية، ليبيعها ليغطي تكلفة الدراسة. ويعلق الكاتب: quot;طبعا كل هذه الماسي بدأت بعد أن الغى الرئيس رونالد ريجن المعونة الطلابية في الثمانينيات، في الفترة التي كنت أدرس في الجامعة، مما أدى بي أيضا لمخالفة القانون، لكي أستطيع دفع تكاليف الدراسة. ولو كنت أعرف ما اعرفة الان لما قمت بتلك الخطيئة. فتراكم الديون، أو الذهاب للسجن، لدفع مصاريف الدراسة، في جامعة مرموقة، جنون.quot; وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;ليس على هذه الطالبة أن تخجل لكونها تريد أن تكمل دراستها الجامعية، لتستطيع تحقيق مستقبل لها، بل يجب أن يخجل مسئولو الجامعة، التي تملك جامعتهم هبات، تصل إلى ستة مليارات دولار، وتدفع بسخاء لمسئولي الكليات والجامعة، بينما تبيع طالبات الجامعة أجسادهن، لكي يدفعن مصاريف الدراسة.quot;
هل ممكن عزيزي القارئ تصور مدى الأزمة التي تعيشها مجتمعات الديمقراطية الغربية برأسماليتها المنفلتة، بل زاد الطين بلة بدأ تحول هذه الرأسمالية إلى quot;الأوليغراشيةquot;، أي تمكز قوة الدولة في يد قلة صغيرة ثرية، بشرائها السياسيين والنواب ورجال الحكومة. وقد عرض الاقتصادي الأمريكي المرموق، البروفيسور بول كروجمان، والحاصل على جائزة النوبل في الاقتصاد، بروز هذه الظاهرة في الاقتصاد ألأمريكي الذي اعتمد أصلا على جهود الإبداعية للازدهار، حيث كتب في النسخة اليابانية من جريدة النيويورك تايمز الدولية وبالتعاون مع صحيفة اليابان تايمز يقول: quot;يبدو بأننا نتحول للرأسمالية الأرثية، حيث يعتمد النمو الاقتصادي ليس فقط على الثراء، بل على الثراء الموروث، لتصبح الولادة أهم من الجهد والإبداع. فستة من أغنى عشرة أمريكيين اليوم، جاء غناءهم من الأرث، بدل أن يكونوا تجار مبدعين، كما أن أطفالهم يبدو بأن لهم امتيازات غير عادية، وهنا خطر النزول لمستنقع الاوليغارشية، وهي حقيقة تؤدي لقلة التفاءول. ففي عام 1979 كانت 1% من العائلات الأمريكية تحضا بنسبة 17% من مدخول الأمريكي التجاري، بينما في عام 2007 أرتفع ذلك إلى 43%، وليحتكروا 75% من ربحية رأس المال الأمريكي. ولنتذكر بأن هؤلاء يملكون معظم وسائل القوة، لشراء السياسين، ومع الأسف التوجه للاوليغارشية مستمر.quot;
ولننهي المقال بالقول بأننا لن نستطيع استيراد الديمقراطية كما نستورد الاغذية والتكنولوجية، ولا يمكن تحقيقها بانتفاضات وانقلابات تحرق الاخضر واليابس، ولا بالنقد السلبي الحاقد واللاذع والمدمر. بل علينا أن نطور الديمقراطية من خلال اصلاح انظمتنا بتناغم جميل، وتحسين مؤسسات المجتمع المدني، مع عصرنة التعليم، وليتفرغ رجال الدين لنشر الفضيلة والتناغم والخلق الكريمة في المجتمع، مع الاستفادة من قيمنا وحضارتنا وثقافتنا وروحانياتنا، ودراسة تاريخنا بشفافية وصدق، لنتجنب أخطائة المتكررة. كما نحتاج لتطوير الإنسان العربي لكي يتحمل مسئولياته، لأن التنمية والازدهار، يعتمدان على مدى تطور، وثقافة، وأخلاقيات، وتناغم، المجتمع. وحتي حينما نختار نظام معين، لا نتوقع بأنه سيكون نظام أبدي، فالتطور البشري يترافق بانتهاء العمر الافتراضي لكل شيء نسبي، لذلك علينا مراجعة ما نقوم به، ونقيمه لنطوره. وهذا ما تحاول دول الغرب انجازه اليوم، بدراستها أخطاء وتجارب القرن الماضي في الديمقراطية والرأسمالية، لكي تستطيع الاستمرار في تحقيق الازدهار، ليس فقط لشعوبها من جديد في القرن الحادي والعشرين، بل أيضا لباقي شعوب دول العالم، لأنه أن لم تزدهر الدول النامية، لن تتوفر أسواق جديدة لتصدير منتجات الغرب، كما قد تصبح هذه الدول مصدر للعنف والإرهاب العالمي، الذي كلف دول الغرب الكثير حتى هذه اللحظة من التاريخ. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان