من مذكرة سفير عربي في اليابان

زرت في شهر ديسمبر الماضي دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد دهشت مما لاحظته من تقدم وتطور، بعد غيابي عنها فترة طويلة. وقد كتبت بعد هذه الزيارة مقالا بعنوان quot;دبي نيويورك الشرق الجميلquot;، ولم تمر ثلاثة أشهر إلا لإقراء بأن ترتيب دولة الإمارات العربية المتحدة الأولى على العالم العربي بل الإسلامي، في مؤشر السعادة، والرابعة عشرة على المستوى العالمي. وبقدر ما سعدت بهذا الخبر الجميل، بقدر ما حزنت حينما علمت بأن كثير من خيرة دولنا العربية، نزلت مرتبتها في مؤشر السعادة، بعد انتفاضات ما سمي بquot;الربيع العربيquot;، والذي بدأت من تونس في شهر ديسمبر من عام 2010، ولتمتد للكثير من دولنا العربية.
لقد اصدرت مؤخرا شبكة حلول التنمية المستدامة، التي أطلقتها الأمم المتحدة، تقريرها السنوي حول مؤشر السعادة في العالم. وفي الوقت الذي تصدرت الدول الاسكندينافية القائمة، ولاسيما الدنمرك التي حلت في المرتبة الأولى، بينما جاء ترتيب الدول العربية مختلطا جدا، حيث تفرقت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين رأس، ووسط، وذيل القائمة. فقد تصدرت إسرائيل لائحة دول المنطقة بحلولها في المركز الحادي عشر، فيما كانت ترتيب دولة الإمارات العربية المتحدة الأولى بين الدول العربية، حيث حلت في المركز 14 عالميا، متبوعة بدول الخليج، باستثناء مملكة البحرين، التي توسطت الترتيب الذي يضم 156 دولة. وكانت منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط أكثر منطقة شهدت تراجعا مذهلا، حيث أنها حلت في المركز الأخير مقارنة ببقية المناطق. وكان واضحا بأن دول الربيع العربي تأثرت بأحداثها، حيث أن دولها شهدت تراجعا، أو أنها تذيلت الترتيب على غرار مصر وسوريا. فقد سجلت دولة الإمارات تقدما بنحو نصف نقطة كاملة، فيما كانت أكثر الدول التي شهدت تراجعا كبيرا، هي كل من سوريا، وتونس، وخاصة مصر، التي تراجعت بأكثر من نقطة كاملة، مما دفع بها إلى المراكز الأخيرة، علما بأن الفترة التي يغطيها التقرير هي بين عام 2010 و 1012.
وقد كان ترتيب دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنازليا، في أربعة مجموعات، كما يلي: فقد ضمت المجموعة الأولي إسرائيل 11، الإمارات العربية المتحدة 14، عمان 23، قطر 27، الكويت 32، والسعودية 33. وقد كانت هناك مفارقة كبيرة بين المجموعة الأولي والمجموعة الثانية والتي ضمت: الجزائر 73، الأردن 74، ليبيا 78، والبحرين 79. كما بانت المفارقة أيضا بين المجموعة الثانية والمجموعة الثالثة والتي كانت سابقا منارا للمجتمعات العربية ومركزا للحضارة الاسلامية، والتي ضمت: لبنان 97، المغرب 99، تونس 104، العراق 105، موريتانيا 112، وفلسطين 113. والجدير بالذكر هناك بأن ترتيب إيران كان 115 بينما كان ترتيب تركيا 77، أما صدمة المجموعة الرابعة فهي سوريا، معقل الحضارة العربية ومركز الدولة الأموية، والتي ضمت: السودان 124، مصر 130، اليمن 142، ولتأتي أخيرا سوريا 148. تلاحظ عزيزي القارئ بأن الدول العشرة التي تقدمت في مؤشر السعادة هي الدول التي احترمت شعوبها الوقت، وقدست العمل، واهتمت حكوماتها بتنمية وسعادة الإنسان، وطورت اقتصادها من خلال السوق الحرة المنظمة بالقوانين، ووفرت لشعبها شبكة حماية اجتماعية، والتي جمعت بين التعليم المتميز، والرعاية الصحية المتطورة، مع نظام تقاعد وتعطل. كما خلقت مجتمعات مسالمة ومتناغمة، بعيدة عن الكراهية الطائفية المقيته، والصراعات الايديولوجية المدمرة، وبذلك خفضت ميزانية الصرف على الأمن والجيش. والدول العشرة الأولى في ترتيب مؤشر السعادة هي الدنمارك الأولى، النرويج 2، سويسرا 3، هولندا 4، السويد 5، كندا 6، فنلندا 7، النمسا 8، ايسلندا 9، وأخيرا استراليا 10. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما أهمية هذه الإرقام؟ وما هو مفهوم مؤشر السعادة؟ وهل من المهم أن تهتم الدول بهذا المؤشر، وتحاول أن تتقدم في ترتيبها؟ وما هي أسباب هذا التردي المذهل لمؤشر السعادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا؟
يعتبر يوم 20 مارس يوم السعادة العالمي، وقد يبدو ذلك غريبا في عالم تعود على تقيم التنمية على مادية الاقتصاد، لا على انعكاساته في نفسية الانسان، وروحانياته، وسعادته، فتعبير الناتج المحلي الاجمالي تعبير مألوف للتعبير عن مستوى التنمية الاقتصادية في اي بلد، مقارنة ببلد اخر. ومع أنه من الصعب أن نتصور تقيم جديد يعتمد على مدى سعادة الانسان في المجتمع، كنتيجة لمجمل التنمية البشرية التي تحققت في بلد ما، ومع ذلك قامت دولة أسيوية صغيرة بتطوير مفهوم الاجمالي الوطني للسعادة. فقد اهتمت مملكة البوتان بنشر مفهوم مؤشر السعادة، والتي تبعت مملكتها الصغيرة سياسة حكومية تخلق توازن بين التنمية المادية والقيم الروحية، واعتبرتها الطريقة المثلى لنشر السعادة في المجتمع. وقد بدأ الملك الرابع لهذه المملكة، جيمي سنجي وانجشوك، والذي حقق الكثير من الاصلاحات لبلاده، بتطوير مؤشر السعادة، حينما توج ملكا في عام 1972. وقد تنازل عن العرش لأبنه في عام 2006، ليتذكره الجميع بأنه نشر فكرة إن السياسات الحكومية يجب أن تهدف في خلق السعادة والرفاهية، وإلا تحدد فقط بالإنتاج المادي، والذي حدد اقتصاديا في مفهوم الناتج المحلي الاجمالي. فقد حاولت مملكة البوتان تطوير مؤشر الاجمالي الوطني للسعادة، بقياس سعادة المواطن من خلال تسعة مؤشرات: السعادة والصحة النفسية، الصحة الجسمية، التربية التعليمية، قدسية الوقت في الاستخدام، التنوع والمرونة الثقافية، والحكم الجيد، والمجتمع الحيوي المتناغم، والتنوع البيئي، والمستوى المعيشي. والجدير بالذكر بأنه بعد خمسة سنوات من تنازل ملك البوتان عن عرشه، تبين بأنه 41% من مواطني بلده، كانوا سعيدين، بينما 10% فقط اعتبروا أنفسهم غير سعيدين.
لقد تحمست الشعوب العربية في كل مكان، لتحقيق دولها تنميتها وسعادتها، بعد انتفاضات ما سمي بالربيع العربي، ولكن مع الأسف لن تؤدي هذه الانتفاضات إلا لتردي الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، وفقدان الكثير من الشباب فرص العمل أو النمو فيه، بالإضافة لنشر الطائفية البغيضة. ومن المحزن أيضا بأن الدولة التي انهت 35 سنة من عمر ثورتها، وهي إيران، سجلت ترتيب 115، ليعكس ذلك بأنها هذه الثورة لم تحقق للشعب الايراني المتحضر والمتقدم، لا الحياة الاقتصادية الرغيدة، ولا السعادة الروحانية، بل قد تكون أيضا سببا مهما في تردي مؤشر السعادة في كثير من دولنا العربية، وذلك بتدخلها المباشر في أمور الداخلية لبعض مجتمعاتنا العربية، مع نشرها الخلافات الطائفية، والخرافات الدينية، وبالإضافة لمحاولاتها في تصدير ثورتها المتطرفة الفاشلة. وقد يعكس فشل هذه الثورة (والذي يحاول الرئيس روحاني تصحيح مسارها) في تحقيق تسعة ميزات لأبناء شعبها، وهي: السعادة والصحة النفسية، الصحة الجسمية، التربية التعليمية، قدسية الوقت في الاستخدام، التنوع والمرونة الثقافي، والحكم الجيد، والمجتمع الحيوي المتناغم، والتنوعي البيئي، والمستوى المعيشي، حيث أن التضخم الاقتصادي ارتفع لأكثر من الثلث، كما أن العملة الإيرانية فقدت الكثير من قيمتها في السوق العالمية. والغريب بأن بعض أجنحة المعارضة العربية حاولت أن تستورد مخلفات هذه الثورة، لتنشر الطائفية والفوضى في بلادها. وقد يعكس ذلك بأنه بعد فشل تعصب الفكر القومي، وتدهور الفكر الماركسي، وانهيار الفكر الشيوعي، واضطراب الفكر الاشتراكي العربي، يتبين لنا اليوم بأنه حتى لبس قناع الدين للحكم، لم يحقق لشعوب الشرق الأوسط لا التنمية، ولا السعادة، ولا الازدهار. ويبقى السؤال: كيف ستحقق منطقة الشرق الأوسط سلامها، وسعادتها، وازدهارها، بعد تجربة الربيع العربي المضطربة؟ فهل انتهت مرحلة الايديولوجيات المتعصبة، وحان الوقت لتطوير رؤية اقتصادية quot;روحانيةquot; برغماتية مدروسة للتنمية المستدامة، مع تطبيقها بتناغم جميل؟ أم وصلت منطقة الشرق الأوسط لمرحلة مصيرية حرجة، مقبلة على انهيار بعض دولها؟ وما هي العوامل التي تؤدي لنجاح دول معينة وانهيار دول أخرى؟ فهنيئا لدولة الامارات العربية المتحدة، التي حاربت الطائفية، واصرت على تنفيذ رؤيتها الاقتصادية بدون تردد، ووفرت سوق تجارية مسئولة، واستثمرت مواردها البشرية والطبيعية بحكمة، في الوقت الذي حافظت على علاقاتها مع دول الغرب والشرق باتزان. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان