الدعاوى التي أطلقها رأس النظام في الخرطوم؛ تلك التي وصفت بأنها قرارات تاريخية بخصوص الحريات العامة في السودان، أصبحت بعد أيام قليلة، مسرحية أخرى من مسرحيات العبث التي ظل نظام المؤتمر الوطني يتفنن في إخراجها طوال ربع قرن تقريبا.فحين يدعو البشير الأحزاب السودانية للحوار، ثم يعلن بعد ذلك قرارا بإطلاق الحريات العامة، ليقيد تلك الحريات بمواد مقيدة لها عبر مرسوم لاحق، وضوابط أمنية نجد أنفسنا أمام إعادة إنتاج لمسرحية سمجة ولا يمكن أن تنطلي على أحد.
لقد أدرك نظام المؤتمر الوطني في السنوات الأخيرة عبء المأزق الذي وقع فيه نتيجة لجملة من السياسات المأزومة، وضعته في ورطة لا يستطيع الخروج منها. فالبشير وأركان نظامه يدركون أن الدعوة إلى الحوار على طريقة: عفا الله عما سلف، بعد ربع قرن من الخراب، لن تكون بتلك السهولة التي يبحثون عنها ؛ فذلك يعني بالضرورة إشراك الأحزاب المعارضة في مسؤولية الجريمة التاريخية التي دمرت السودان وأجهزت على الدولة في مختلف مجالاتها.
وليس هناك من عاقل أو عارف بالسياسة يستطيع أن يصدق صحة هذا الزعم الذي يزعمه رأس النظام في الخرطوم حول الحريات العامة والمصالحة الوطنية. ذلك أن هاجس النظام اليوم في الخرطوم لا يتصل أبدا بأي مشروع وطني أو أخلاقي من أجل البحث عن حلول صادقة؛ فهذا آخر ما يمكن أن يفكر فيه هذا النظام.
بل، بالعكس من ذلك، النظام يبحث عن خلاصه الخاص من العواقب والعقوبات التي تنتظره في نهاية الطريق، وهي عقبات وعقوبات مزدوجة؛ منها ما هو خارجي، ومنها ما هو داخلي.
خارجيا، يدرك البشير تماما أن كونه مطلوبا لمحكمة الجنايات الدولية، لن يجعل له من مكان إلا على رأس النظام فقط، ولهذا فإن أي محاولة جادة لتفكيك هذا النظام تعني بالضرورة إثارة سؤال جوهري حول مصيره

خارج السلطة في ضوء ذلك الحكم الصادر بحقه، وبحق بعض أركان نظامه.
إلى جانب ذلك ثمة العديد من الاستحقاقات الضرورية لمساءلة ومحاسبة هذا النظام عن ملفات خطيرة؛ كالفساد، ونهب المال العام، وطبقة المسؤولين على مفاصل السلطة من محازبي المؤتمر الوطني، الذين ظلوا على رأس مؤسسات الدولة لأكثر من 24 عاما دون وجه حق أو مسائلة حيال ما ارتكبوه من فساد . وملف الحرب الأهلية في دارفور، وجرائم تصفية انتفاضة سبتمبر 1 أكتوبر 1013م، وانفصال الجنوب وتدهور التعليم، وتدمير البنى التحتية، وإثارة النعرات القبلية والعشائرية وتفريغ الخدمة المدنية من الكفاءات الوطنية بناء على إحلال أهل الولاء محل أهل الاختصاص، وغير ذلك.
هذه الملفات كلها يريد النظام اليوم تذويبها عن كاهله بإشراك القوى السياسية ــ التي أشرك بعضها من قبل في شراكة كرتونية هشة ــ ليعيد انتاج نفسه كسبا لمزيد من الوقت في وجه الأزمات التي تحاصره وتخنقه.
لقد ورط النظام معه، من قبل، بعض القوى السياسية والحزبية، فيما عاد لاستثمار تجيد علاقته المنقطعة منذ 15 عاما مع حزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي، الذي يبشر اليوم بنوايا جديدة ومختلفة للنظام حيال الخلاص من هذه الأزمة وهو أدرى الناس بأن ذلك مستحيل.
والحقيقة أن ما يفسر لنا التقاء البشير والترابي مرة أخرى، هو غياب خصوم الترابي من أمثال نائب البشير السابق علي عثمان محمد طه، من ناحية، والرغبة في إعادة ترتيب أوضاع الحركة الإسلامية بدعم قطري في وجه الموجة الإقليمية لتصفية الإسلام السياسي، من ناحية أخرى.
بيد أنه إذا كان المأزق التاريخي للسودان اليوم في الدرجة الأولى منه، هو أهم الآثار الكارثية لسياسات نظام الإنقاذ طوال ربع قرن؛ فإن العجز المقابل للقوى السياسية المعارضة هو الوجه الآخر لذلك المأزق.
لقد أصبح النظام اليوم عاجزا عجزا مطلقا عن المواجهة الإيجابية و الشجاعة لنتائج الأزمات التي خلقها طوال ربع قرن، بحثا عن سبيل جاد وأخلاقي للخروج منها؛ فهو من ناحية، يكذب ويدعي أنه حريص على وحدة الوطن ومستقبله، ومن ناحية ثانية يمارس نفس سياساته المدمرة دون أن يلوي على شيء، مع شعوره المتزايد بالحبل الذي يلتف حول عنقه رويدا رويدا. لذلك يدرك أيضا أن أي خطوة نحو الحريات الحقيقية ستعجل بنهايته.
هكذا يتم تدوير العبث عبر مسرحيات سمجة ومتجددة، بحثا عن زمن ضائع للبقاء على السلطة، وترك الأمور لتفاعلاتها السائبة، إلى أن تحين لحظة الانفجار. لن ينتظر أحد مفاجأة سارة من هذا النظام، فهو مصمم على تسريع تناقضاته وصولا إلى نهايته العدمية.
إن بعض أهم ملامح المسخ التي راكمتها سياسات نظام الإنقاذ في السودان هي تفريغ الهوية الوطنية للسودانيين من معناها المفترض، لاسيما جيل الشباب، عبر شعار (المشروع الحضاري) الذي كان بمثابة وصفة مسمومة لتلك الهوية الوطنية أو ملامحها التي عرفها السودانيون ما قبل العام 1989م، عام انقلاب نظام الإنقاذ.وبعد كل هذا الخراب الذي سمم صيغة العيش والحياة في السودان، يريد نظام البشير أن يبيع، مرة أخرى، بضاعته المسمومة، كسبا للوقت.
ان الانعكاسات المتوحشة لنظام الخرطوم، نجحت للأسف حتى في تخريب بيئة القوى السياسية، من خلال تحديد ردود أفعال بعض أهم أحزاب المعارضة عبر سياسات الترهيب والترغيب؛ فالصادق المهدي بقيادة حزب الأمة، أصبح مغلولا حيال أي موقف واضح أو تحرك قوي ضد النظام، فيما أصبح الترابي قريبا من النظام لأسباب إقليمية ومحلية. أما الجبهة الثورية فلا تزال رهينة لمنهجية العنف الأعمى بلا رؤية استراتيجية أو حاضنة إقليمية.
وفي المقال الطويل الذي نشرته (عائشة البصري) الناطقة باسم بعثة حفظ السلام المشتركة في دارفور (يوناميد) بعنوان (لا يمكننا أن نقول كل ما نراه في دارفور) في مجلة (Foreingn Policy) الأمريكية بتاريخ 9/4/2014م ــ بعد أن استقالت من منصبها ــ ما يكشف عن دور هذا النظام حتى في تسريب فساده وإجرامه بين قوات ومؤسسات الأمم المتحدة.
لكل ذلك فإن دعوى إطلاق الحريات في قرار البشير هي مسرحية، لا علاقة لها بمجمل وجوهر قضايا الأزمة السودانية وتحدياتها التي تتصل؛ إما بإستئناف انتفاضة شعبية وصولا إلى إسقاطه، أو باستحقاقات تفكيكه وما يلزمه ذلك من جدية واستعداد للمحاسبة، من خلال منظومة إجراءات العدالة الانتقالية، والمؤتمر الدستوري، وتكوين حكومة انتقالية، وترتيب الملفات العالقة بمصير أركان هذا النظام لفك ارتباطها بمصير الوطن.
قد لا نزعم أن في وسع المعارضة السودانية اليوم تحقيق تحديات تفكيك النظام؛ فذلك يستدعي مستويات متقدمة في الوعي الوطني والسياسي، وبنية قوية ومتماسكة لقواعد العمل الحزبي في إطار كيانية وطنية، غائبة للأسف. كما أن النظام وهو يمارس بهلوانياته السياسية ومسرحياته في الزمن الضائع، لا يعكس استجابة جادة للتفكيك، الأمر الذي قد يعني أيضا انفجار الأوضاع باتجاه الفوضى، لا سمح الله.
هكذا ليس هناك من هو معني بحريات الوعد الكاذب للبشير، اللهم إلا شخصيات كوميديا المسرحي السوداني الشاب (محمد تروس) الذي قدم موندراما ساخرة رداً على دعاوى تلك الحريات.
[email protected]