إذا كان في الإمكان وضع الأسباب التي دفعت الأوليغارشيين الروس إلى شنّ حربهم الإستباقية على فلاديمير بوتين في خانة السعي إلى المحافظة على ما حقّقوه من مصالح ومكتسبات شخصية خلال السنوات العجاف التي تلت تفكّك الإتحاد السوفييتي، على حساب مصالح ومكتسبات عموم الشعب الروسي، نظراً لأنّه وضع على رأس سلّم أولوياته، لدى تسلّمه مهام منصبه كرئيس للوزراء في شهر آب (أغسطس) عام 1999، الشروع في العمل على تطهير مؤسّسات الدولة من سطوتهم، فإنّ وصول ضراوة هذه الحرب إلى حدّ قيام رمز من رموز طواغيت المال في البلاد، مثل الملياردير اليهودي الأصل بوريس بيريزوفسكي، بتمويل عملية دخول القائديْن الشيشانييْن المتطرفيْن شامل باسييف وإبن الخطاب على رأس ألف وأربعمئة مقاتل جهادي إلى جمهورية داغستان، في إطار محاولة لإقامة إمارة إسلامية فيها، على غرار تلك التي أقامها عناصر حركة طالبان في أفغانستان، تمهيداً لجرّ القوات الإتحادية الروسية إلى خوض حرب إستنزاف طويلة الأمد في شمال القوقاز، أظهر بما لا يترك مجالاً للشك أنّ الأهداف الحقيقية لأولئك الأوليغارشيين يمكن أن تتجاوز نطاق تلك الخانة بكثير، حتى لو وصل الأمر إلى حدّ تهديد الأمن القومي الروسي في الصميم.

من هنا، كان على فلاديمير بوتين أن يكون حازماً إلى أقصى الحدود بعد لجوئه إلى إستخدام خيار الحسم العسكري في عمليات دحر مقاتلي باسييف وإبن الخطاب من داغستان، سيّما وأنّ الجماعات الإسلامية المتطرفة التي كانت تتوزع على طول الخريطة القوقازية وعرضها، سارعت إلى الردّ على الهزائم التي مُنيت بها على جبهات القتال في عقر دارها، بإنتهاج أسلوب يفتقر إلى الحدّ الأدنى من أخلاقيات القتال، وذلك عن طريق تنفيذ سلسلة من عمليات التفجير الإرهابية التي إستهدفت مجمّعات المدنيين السكنية في قلب العاصمة موسكو، تماماً مثلما حدث في يوميْ التاسع والثالث عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام 1999، عندما سقط ما لا يقل عن مئتين وإثني عشر مواطناً روسياً ممّن لا ذنب لهم سوى أنّ أقدارهم كتبت لهم أن يصبحوا ضحايا بينما كانوا يَغطّون في نوم عميق، الأمر الذي مهّد لإتخاذ قرار الدخول في حرب الشيشان الثانية خلال الشهر نفسه من ذلك العام، تحت شعار "إستئصال الإرهاب من جذوره"، على حدّ تعبير وزير الدفاع الروسي في حينه إيغور سيرجييف.&

في سياق إسترجاع وقائع تلك المرحلة الهامة في التاريخ الروسي الحديث، ووفقاً لعميل الإستخبارات الروسية السابق ألكسندر ليتفينينكو، فإنّ بوريس بيريزوفسكي أراد إشعال فتيل المسألة الشيشانية إيماناً منه بأنّ إنفجارها لا بدّ وأن يؤدي إلى إحداث تغييرات جوهرية في سلّم أولويات القيادة الروسية وإهتماماتها، بما يضمن عدم تعرض الدعائم التي قامت عليها أمبراطوريته المالية للخطر، فأجرى لهذا الغرض مكالمة هاتفية مع الزعيم القومي الشيشاني المسلم مولادي أودوغوف، قبل ستة أشهر من بداية القتال في داغستان عام 1999، تمّ خلالها ترشيح إسم شامل باسييف للعب دور عسكري كبير في شمال القوقاز، وذلك إثر إستفحال خلافاته مع الرئيس الشيشاني أصلان ماسخادوف، وقيامه في السابع من تموز (يوليو) عام 1998 بالإستقالة من منصبه كقائم بأعمال رئيس الوزراء الشيشاني، على خلفية الإنتقادات اللاذعة التي وُجّهت لأسلوبه في الإدارة والحكم.

كان إسم باساييف قد خرج إلى دائرة الضوء قبل ذلك بحوالي سبع سنوات، وتحديداً في شهر آب (أغسطس) عام 1991، عندما حاول بعض أعضاء الحكومة السوفييتية الإنقلاب على مبدأ البيريسترويكا في البلاد، حيث إنضم إلى أنصار الرئيس يلتسين، "ووقف خلف المتاريس التي وُضعت لحماية مبنى الحكومة الإتحادية في وسط موسكو مسلّحاً بالقنابل اليدوية"، على حدّ تعبير الكثير من المصادر والعديد من شهود العيان. ولكن مع إعلان جوهر دوداييف في صيف العام نفسه إستقلال الشيشان من جانب واحد عن الإتحاد الروسي الناشئ، بادر الرئيس يلتسين إلى إعلان حالة الطوارئ، وقام بإرسال قواته إلى الحدود مع الشيشان، فما كان من باساييف إلا أن أعلن عن إنشقاقه عن تلك القوات، لينضمّ على الفور إلى الوحدات العسكرية التي شكّلها ما يُعرف بـ "المجلس الوطني لشعوب القوقاز". وقد أصبح عام 1992 قائداً لتلك الوحدات، قبل أن ينتقل إلى أذربيجان ليحارب إلى جانب القوات الأذرية ضدّ الأرمن في جيب مرتفعات قرة باغ، حيث تعرف هناك على "المجاهد السعودي" ثامر بن صالح السويلم (إبن الخطاب)، وسافرا معاً في نهاية العام نفسه على رأس ما يُعرف بـ "قوات المتطوّعين من عموم شعوب القوقاز" إلى أبخازيا من أجل مساعدة إحدى الحركات المحلية التي كانت تطالب بالإنفصال عن جورجيا.

بعد ذلك بدأت الحرب الشيشانية الأولى في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1994، إثر قيام القوات الإتحادية الروسية بحملة عسكرية واسعة النطاق من أجل إسقاط حكومة دوداييف الإنفصالية، قبل أن يُقتل فيما بعد في عملية إغتيال بصاروخ موجّهٍ أطلقته قاذفات مقاتلة روسية من نوع "سوخوي 25" في الحادي والعشرين من نيسان (أبريل) عام 1996 على قرية "جيخي تشو" جنوب الشيشان، وذلك أثناء قيامه بإجراء مكالمة هاتفية رصدتها سلطات الأمن الروسية عبر الأقمار الصناعية، ما سهّل عليها تحديد موقعه وقصفه. وكان شامل باساييف قد أصبح خلال تلك الفترة أحد قادة الجبهات الأمامية، وخاض ضدّ القوات الروسية معارك ضارية على رأس كتيبته التي شكّلها مع إبن الخطاب في أبخازيا. بيد أنّ ما حصل لاحقاً هو أنّه سرعان ما إتجه صوب التركيز على الأعمال الإرهابية التي تستهدف النيل من حياة المدنيين الروس، على غرار ما قام به في الرابع عشر من حزيران (يونيو) عام 1995، عندما قاد عملية إحتجاز أكثر من ألف وستمئة رهينة لعدة أيام داخل إحدى مستشفيات مدينة بوديونوفسك الروسية، الأمر الذي أودى بحياة ما لا يقل عن مئة وتسعة وعشرين شخصاً من المدنيين الأبرياء، وأدى إلى إصابة أربعمئة وخمسة عشر شخصاً آخرين بجروح، مفتتحاً بذلك إحدى أكثر الصفحات سواداً ودموية في حياته. وبالرغم ممّا أُشيع عن أنّه نفّذ تلك العملية رداً على غارة جوية شنّتها المقاتلات الروسية قبل أحد عشر يوماً على منزل عمّه، ما أدى إلى مقتل إثني عشر شخصاً من أسرته، بينهم زوجته وطفله وشقيقته، فإنّ سجلّه ظل ملطخاً بمثل هذا النوع من العمليات، تخطيطاً أو تنفيذاً، سواء خلال حرب الشيشان الأولى التي إنتهت إثر إغتيال دوداييف بالتوقيع على إتفاق السلام الروسي – الشيشاني الذي مهّد لإنتخاب أصلان ماسخادوف رئيساً للشيشان في السابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) عام 1997، أم خلال الحرب الثانية التي كان الأوليغارشيون يصبّون الزيت على نارها عام 1999 وما تلاه من أعوام، حتى أنّ الرئيس ماسخادوف نفسه وصف تدخل قوات باساييف وإبن الخطاب في داغستان بأنّه "خطأ كارثي فادح تسبّب بما عانى منه الشعب الشيشاني من ويلات ومآسي خلال الحملة العسكرية الروسية"، على حدّ تعبيره.

ما كان لافتاً خلال تلك المرحلة أنّ الخطاب الرسمي الأميركي لم يتجاوز نطاق التواطؤ الضمني مع سيل من التصريحات النشاز التي دأب الأوليغارشيون على إطلاقها عبر وسائل إعلامهم، متهمين السلطات الروسية بإفتعال تفجيرات موسكو عن قصد، بغية التستر على فضائح مالية كانت إبنة الرئيس يلتسين تاتيانا دياتشنلو وصهره اللاحق فالانتان يوماشيف من بين أبطالها، أو تلك التي كانت تأتي على لسان أكثر من مسؤول دولي، متضمّنة إنتقادات حلف شمالي الأطلسي وإدانات منظمة العفو الدولية "لسوء معاملة روسيا للمدنيين في الشيشان"، أو تهديدات صندوق النقد الدولي "بوقف المساعدات عن روسيا" بسبب إستمرار الحرب الشيشانية. ولكنّ الأمر سرعان ما تغيّر بشكل ملحوظ قبل أيام قليلة من حلول موعد لحظة الإنعطاف التاريخية بين القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، وذلك عندما أوعزت وزيرة خارجية الولايات المتحدة مادلين أولبرايت إلى "بنك الإستيراد والتصدير الأميركي" بتعليق قرض قيمته خمسمئة مليون دولار لشركة "تيومين" الروسية العاملة في مجال النفط، بغية إرسال إشارة عن "عدم إرتياح واشنطن للحملة العسكرية الروسية في الشيشان"، على حدّ تعبير نائب أولبرايت للشؤون الإقتصادية ألان لارسون الذي قال حرفياً بهذا الخصوص "إنّ وزارة الخارجية الأميركية ترى أنّ المصالح القومية والسياسات الأميركية تجاه موسكو تقتضي، في الوقت الحالي، تعليق القرض".

حدث ذلك في الثاني والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عام 1999، بعد مرور يومين فقط على ظهور المؤشرات الأولية على أنّ الرئيس يلتسين سيمضي قدماً في الوفاء بما قطعه على نفسه من عهد بأن يكون فلاديمير بوتين خليفته المختار الذي سينقل روسيا إلى الألفية الثالثة، سيّما وأنّ أصداء ذلك العهد، كان لها الفضل الأكبر في التأثير إيجابياً على مزاج الناخب الروسي، بالشكل الذي تجلّى بوضوح لدى الإعلان عن نتائج الإنتخابات البرلمانية التي أجريت في العشرين من ذلك الشهر، والتي جاءت لصالح "الخليفة المختار"، أي رئيس الوزراء فلاديمير بوتين.&

ربما ليس من باب المبالغة القول إنّ العقلية "الجيمسبوندية" التي تحكمت بنمط تعامل الغرب الأميركي والأوروبي، على حدّ سواء، مع تداعيات تفكك الإتحاد السوفييتي وإنهيار المنظومة الإشتراكية في أوروبا الشرقية، هي التي أدت إلى تورط الولايات المتحدة بالإقدام على إرتكاب الحماقة تلو الأخرى مع روسيا، من خلال إصدار مواقف غوغائية غالباً ما كانت تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الإحساس بالمسؤولية تجاه قواعد وأصول ممارسة العمل السياسي والديبلوماسي. ولعلّ أكبر تأكيد على ذلك، يتمثل في الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت إلى موسكو في الحادي والثلاثين من كانون الثاني (يناير) عام 2000، أي بعد مرور شهر واحد فقط على تسلّم فلاديمير بوتين مقاليد السلطة في الكرملين بصفة رئيس بالإنابة، وخصوصاً إذا أخذنا بعين الإعتبار أنّه في الوقت الذي روّجت فيه مصادر البيت الأبيض معلومات مفادها أنّ الوزيرة أولبرايت "سترأس في العاصمة الروسية محادثات متعدّدة الأطراف حول مسألة السلام في الشرق الأوسط"، فإنّ جدول أعمال الزيارة في الحقيقة كان حافلاً بمسائل أخرى، على رأسها الحرب الدائرة في الشيشان، الأمر الذي تجلّى بوضوح من خلال ما أطلقته أولبرايت من تصريحات نارية هدّدت فيها بأنّ هذه الحرب "لا تخدم مصالح روسيا وستؤدي إلى عزلها عن المجتمع الدولي"، وهي التصريحات التي كان لها بالغ الأثر في دفع أنصار الرئيس بوتين، وغيرهم من المواطنين الروس المؤيدين للحرب، إلى تنظيم تظاهرة حاشدة أمام مقر السفارة الأميركية في موسكو إحتجاجاً على الزيارة، وذلك إنطلاقاً من إيمانهم الراسخ والعميق بأنّ حقيقة ما ترمي إليه الوزيرة الأميركية من خلال وجودها في بلادهم، لا يعدو عن كونه محاولة تستهدف العمل على "تجنيب المقاتلين الشيشان تكبُّد هزيمة وشيكة"، على حدّ ما ذكرته يومذاك وكالة إنترفاكس للأنباء نقلاً عن ممثّلي المتظاهرين.

على أنّ حماقات مادلين أولبرايت التي يمكن إدراجها في إطار ما إعتاد المسؤولون الأميركيون على إطلاقه من مواقف عبثية بشأن الملف الشيشاني لم تتوقف عند ذلك الحدّ وحسب، بل وصلت إلى ما هو أبعد بكثير، وبشكل أوحى بأنّ الولايات المتحدة أصبحت على وشك الدخول كطرف مباشر في الصراع الدائر في شمال القوقاز. ففي السادس والعشرين من أيار (مايو) عام 2000، أطلقت الوزيرة أولبرايت موقفاً عبثياً جديداً في هذا الخصوص، تمثل في توجيه تحذير شديد اللهجة لروسيا من مغبّة "القيام بشن غارات جوية ضدّ أي هدف عسكري في أفغانستان" رداً على المساعدات اللوجستية التي كانت تقدمها حكومة حركة طالبان للمقاتلين الإسلاميين في الشيشان، والتهديد بعصا "فرض عقوبات إقتصادية على موسكو"، الأمر الذي وضع الإدارة الأميركية في موقف حرج للغاية، سيّما وأنّ الولايات المتحدة نفسها كانت قد شنّت عام 1998 هجمات بصواريخ كروز على معسكرات تدريب فوق الأراضي الأفغانية للإشتباه بأنّها تابعة لتنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن، وذلك ردّاً على عمليتيْ التفجير اللتين إستهدفتا مقريْ السفارة الأميركية في كل من العاصمتين الكينية نيروبي والتانزانية دار السلام، وهما العمليتان اللتان أعلن بن لادن مسؤوليته عن تنفيذهما. وقد لوحظ أنّ هذا الحرج الناجم في الأساس عن غرابة نمط سياسة المعايير المزدوجة التي تنتهجها واشنطن في مجال التعاطي مع الجماعات الأصولية المتطرفة، كان حاضراً بوضوح على مائدة القمة الأولى التي جمعت بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي بيل كلينتون في موسكو في الثالث من حزيران (يونيو) عام 2000، أي بعد مرور ثمانية أيام فقط على إطلاق تحذيرات وتهديدات الوزيرة أولبرايت، حيث تمّ الإتفاق خلال القمة على تشكيل "فريق العمل الأميركي – الروسي الخاص بأفغانستان"، نظراً لأنّ الطرفين "عبّرا عن قلقهما حيال كيفية التعاطي مع نشاطات حركة طالبان في إنتاج المخدرات وفي دعم الإرهاب"، وذلك على الرغم من أنّ باب البيت الأبيض في واشنطن كان مفتوحاً خلال تلك المرحلة للترحيب بمسؤولي الحركة، وعلى رأسهم وزير خارجيتها وكيل أحمد المتوكل، بغية التباحث والتنسيق معهم في مختلف الشؤون الأفغانية، دون الأخذ بعين الإعتبار ما أثارته طبيعة العلاقات الأميركية – الطالبانية من علامات إستفهام وتعجب في المحافل الدولية، وخصوصاً في أعقاب تلك الأيام المظلمة من شهر آذار (مارس) عام 2001، عندما صبّ عناصر حركة طالبان كل حقدهم على تاريخ الحضارة الإنسانية، وقاموا بعملية التفجير الشهيرة التي إستهدفت تماثيل بوذا ودمّرتها في جبال إقليم باميان وسط أفغانستان، الأمر الذي أثار موجة عارمة من الشجب والإدانة والإستنكار في أماكن مختلفة من العالم، بإستثناء الولايات المتحدة الأميركية التي لم تغيّر موقفها الإيجابي من الحركة إلا بعد مرور ستة أشهر على ذلك، أي في أعقاب "هجمات الحادي عشر من سبتمبر" على نيويورك وواشنطن.

هذه الوقائع المثيرة وحدها قد تكون كافية للدلالة على أنّ الولايات المتحدة لم تكن لتتردّد في تقديم الدعم المعنوي لنظام يرعى التنظيم الإرهابي الذي كانت هي نفسها تحاربه في أفغانستان، طالما أنّ هذا الدعم سيؤثر حتماً بصورة سلبية على فرص إنتصار الروس في حربهم على الإرهاب في الشيشان، ولن يصبّ بالتالي في مصلحة الرئيس فلاديمير بوتين الذي كان يسعى إلى إستعادة هيبة مؤسسته العسكرية على جبهات القتال في شمال القوقاز، دون المهادنة على أنّ ما يجري على تلك الجبهات هو "شأن داخلي روسي". وليس من باب المبالغة القول إنّه لو لم تبرز الحاجة الملحّة لحياكة رواية رسمية أميركية بشأن هجمات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن عام 2001، لكانت العلاقات بين الولايات المتحدة ونظام الجهل والعمى الطالباني قد إستمرت بالتطور دون أدنى شك، علماً أنّ إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، وبالرغم من بدء "الحرب الأميركية على الإرهاب" في أفغانستان خلال ذلك العام، إستمرت في المحافظة على "همزة وصل" بينها وبين الجماعات الإرهابية المتطرفة في الشيشان، إما بشكل مباشر عن طريق عملائها في وكالة المخابرات المركزية (سي آي إي)، أو بأشكال ملتوية عبر حلفائها ومقاولي سياساتها ومصالحها الحيوية في عدد من الدول العربية والإسلامية، وهو ما كان يظهر جلياً للعيان من خلال المحاولات الفاضحة التي بذلها رجال الدين في تلك الدول على صعيد حشد الرأي العام العربي والإسلامي لنصرة "القضية الشيشانية"، سواء عن طريق خطبهم الحماسية التي كانوا يلقونها من فوق منابر مساجدهم، أم عن طريق جمعياتهم الخيرية التي ساهمت بشكل فعال في توفير الغطاء الشرعي لتنظيم وتسهيل عمليات سفر آلاف المقاتلين العرب، تحت أعين الأميركيين ورعايتهم ومباركتهم، من أجل الإنضمام إلى "إخوانهم في الدين" تحت راية كذبة الجهاد في الشيشان.&

ربّما كان من غير المُستحَبّ في العالمين العربي والإسلامي إدراك حقيقة وأبعاد الرهانات التي وضعتها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل خلال السنوات الخمس عشرة الماضية على الجماعات الأصولية المتطرفة في أكثر من دولة عربية وإسلامية، أو حتى مجرّد الإعتراف بأنّ واشنطن وتل أبيب نجحتا في إستغلال الكثير من تحركات الجهاديين الإسلاميين بما يضمن تحقيق أهدافهما ومصالحهما السياسية والإستراتيجية المعلنة وغير المعلنة على طول خريطة العالم وعرضها. ولكن لو قُدّر لعدسة تصوير واحدة أن تلتقط سمات الزهوّ التي إرتسمت على وجه الديبلوماسي الإسرائيلي المخضرم يعقوب حداس لدى تلقّيه نبأ هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في كل من نيويورك وواشنطن، وكيف وقف في بهو فندق "رويال بارك" القريب من مقر السفارة الإسرائيلية في العاصمة البريطانية لندن ليقول أمام ضيوفه بالحرف الواحد: "اليوم سنبدأ بتغيير نظرة العالم بأسره إلى الإسلام"، قبل أن يسارع بالتوجه إلى السفارة، لكان العرب والمسلمون، قادة وشعوباً، قد وفّروا على أنفسهم الكثير من الخيبات التي أصيبوا بها جراء هذا الخداع العظيم.

ولعلّ النقطة الهامة التي ينبغي التوقف عندها هنا لإعتمادها كخلاصة نهائية في سياق إسترجاع وقائع حرب الشيشان الأولى، تتمثل في أنّ هذه الحرب، وإن تقاطعت خلالها الكثير من المصالح الداخلية والخارجية من أجل العمل على إضعاف روسيا، سواء لصالح الأميركيين أم لصالح الأوليغارشيين، إلا أنّ أخطر ما فيها هو أنّها كانت بمثابة مسرح تجارب واقعي لإختبار مدى إمكانية النجاح في نشر ظاهرة الأصولية الدينية في أوساط الحركات والجماعات والتيارات التي تتحكم بها النزعة الإنفصالية في أماكن مختلفة من العالم، وهي الجماعات التي لم يَلُحْ في أفقها يوماً أنّها تنبذ الإرهاب أو ترفضه.

من هنا، فإنّ فلاديمير بوتين الذي كان على وشك الدخول إلى قصر الكرملين من أجل إستعادة ما ضيّعه سلفه بوريس يلتسين من هيبة وقوة بلاده على المسرحين المحلي والدولي، لم يكن أمامه من بدّ سوى اللجوء إلى تطبيق مبدأ الضرب بيدٍ من حديد في المسألة الشيشانية، وذلك إنطلاقاً من قناعته الراسخة بأنّ تداعيات تلك المسألة، لا تنحصر ضمن نطاق مجرّد طموحات مجموعات إرهابية أو إثنية تنادي بالإنفصال والإستقلال الذاتي وحسب، بل تتعدّاه لتصل إلى ما هو أبعد بكثير. وعلى هذا الأساس، فإنّ قراءة متأنية للوقائع الميدانية التي شهدتها جبهات القتال خلال الفترة الممتدة ما بين الثالث عشر من أيلول (سبتمبر) عام 1999، أي أيلول الروسي، والحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، أي أيلول الأميركي، تُظهر أنّ حرب الشيشان الثانية إختلفت كثيراً من حيث الملامح العامة عن نظيرتها الأولى، نظراً لأنّ رهان المقاتلين الشيشان على ضعف السلطة الروسية المركزية والجيش كان منذ البداية رهاناً خاسراً، وذلك لأسباب عديدة، أهمها أنّ فلاديمير بوتين نفسه، سواء من موقعه كرئيس للوزراء أم كرئيس بالإنابة ومن ثم كرئيس منتخب، هو الذي أخذ على عاتقه شخصياً قيادة الحملة العسكرية، علاوة على أنّ القوات المسلحة الروسية كانت قد إستقت الكثير من العبر وإكتسبت المزيد من الخبرة والدروس قياساً بما كانت عليه الحال خلال تجربتها المُرة في الحرب الأولى، الأمر الذي دفعها إلى التحرك بحذر ودقة، وإتباع أساليب حربية وطرق تكتيكية مختلفة وجديدة، لتتمكن في غضون فترة زمنيّة وجيزة من دحر المقاتلين إلى مناطق جبلية تقع بالقرب من الحدود مع جورجيا، تمهيداً لبسط سيطرتها على معظم الأراضي الشيشانية، خلافاً لما جرى لاحقاً خلال الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على الإرهاب في أفغانستان، وخصوصاً إذا أخذنا بعين الإعتبار أنّ السنوات الثلاث عشرة التي أمضاها الأميركيون على رأس قوات التحالف في المستنقع الأفغاني، لم تؤدِّ إلى تحقيق أيّ من الأهداف المُعلَنة في واشنطن حول القضاء على عناصر تنظيم القاعدة وحركة طالبان، بل على النقيض تماماً، لأنّ حضورهم داخل أفغانستان وخارجها إزداد فاعلية وقوة. وما الخلايا الصاحية والنائمة الموزعة في الوقت الراهن فوق الجغرافيا الممتدة من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا وشرقها ووسطها، ومن أفغانستان وباكستان إلى ماليزيا وأندونيسيا وميانمار، ومن القوقاز وتركيا إلى معظم دول الإتحاد الأوروبي، إلا أبشع دليل على ذلك.&

أما روسيا التي دخلت حرب الشيشان الثانية مدفوعة بأهداف عديدة ترغب في تحقيقها, ومن بينها الحفاظ على النظام الإجتماعي، ومكافحة الإرهاب، والقضاء على النفوذ الأصولي المتنامي في شمال القوقاز، وردع الجمهوريات الأخرى الراغبة في الإنفصال مثل إنغوشيا وتاتارستان، وتعزيز اللحمة الداخلية للشعب الروسي في مواجهة المشاكل الناجمة عن سطوة طواغيت المال الأوليغارشيين التي أوصلت غالبية المواطنين إلى خطّ الفقر، فقد نجحت في نهاية المطاف في تحقيق جميع أهدافها، وفي غضون ثمانية عشر شهراً فقط، لتشهد العاصمة الشيشانية غروزني إثر ذلك نهضة إسلامية حقيقية، وتصبح من أهم المدن الحضارية في العالم، خلافاً لما آلت إليه الأمور في كابُل، أو في بقية العواصم التي مرّت بها عواصف الديمقراطية الأميركية، مثل مقديشو وبغداد وصنعاء وطرابلس الغرب وغيرها. فهل لنا أن نصدّق بعد كل ما سبق الإستراتيجية الأخيرة المزعومة للولايات المتحدة على صعيد مواجهة خطر تنظيم "داعش"، أو على الأقل جدية الأميركيين في مواجهة ذلك الخطر؟

صدق من قال: شرّ البلية ما يُضحك.&

&

&كاتب متخصص في الشؤون الروسية