معلوم أن هنالك بعض الشعراء يمرون بحالة مَن يعيش لحظات الدهشة والانبهار بالعالم المحيط به، وقد تبدو الأمور المألوفة بالنسبة للغير غريبة عليه، أو كمن من صدمته البصرية يغدو وكأنه للمرة الأولى يحظى برؤية الأشياء من حوله، إذ أن هذا الحس الطفولي ربما لا يكون مستقبحاً لدى الشاعر، لأنها قد تمد الشاعر بالصدق والتلقائية والعفوية والبساطة، وبالتالي تندلق الكلمات من ثنايا القريحة وهي رقراقة خالية من أثر السلفِ والتكلف والصناعة.

ولكن عندما يتحول المفكر أو السياسي المخضرم أو المثقف المشغول بقضايا المجتمع الى طفلٍ كبير، فهذه الحالة قد لا تبدو محط سرور كل من يراقبهم، أو مَن ينتظر الحلول منهم، واللا محبذ في الحالة تلك هو التعاطي الصبياني مع المواضيع في الوقت الذي يتطلب فيه الموقف وجوب التعامل الجدي والإدراك التام للأمور من قِبل العاملين في الشؤون الكبرى، باعتبار أن الوعي الكامل هو المطلوب من صاحب الرأي والمشورة وليس حالة اللاوعي على غرار ما قد يمر بها الشاعر وتفيده، والغريب فعلاً هو أن الكثير من مثقفي بلادنا يبدون طفوليين لمجرد أن يطأ بعضهم بأقدامهم أديم دولةٍ ما من الدول الغربية، حتى يبدو الواحد منهم كالغر المنبهر بكل ما يحاق به، فتظن من شدة انبهارهم وتحدثهم باللهفة المبالغ فيها عن عاديات الأمور، وكأن واحدهم قدم للتوِ من الربع الخالي ووصل مع غبار الصعيدِ الى الفردوس الأعلى.&

علماً أن المنطق يقول بأن من يُسكرِه الانبهار بما يرى قد يبقى عاجزاً عن الاتيان بأي شيءٍ يماثلهُ، بل ومن فرط الدهشة قد تتفاجأ أنت الآخر المذهول من ذهول الذي وطئ مضارب ابنة آجينور* وهو يقول: هنا ما كنا نسمعه في كتب الأولين، إذ من نشوة الرؤية قد يبدو فاغر الفاهِ مشدوهاً الى أسخف التفاصيل متنقلاً كالمدله المجذوبِ بين تضاريسها المشتهاة، منبهراً بما يراه من صروح وحدائق وتماثيل، ومن عجب الكشف يغدو بعضهم كالراعي الذي يدخل مدينة الملاهي لأول مرةٍ وهو بحماسٍ يقول: هنا الكلأ كله، هنا مفازات الانشراح، هنا الشرائع الطبيعية على حقيقتها، هنا التآلف بين الكائن والمكان، هنا...، ناسياً بأن الحضارات تصنعها الشعوب ولا شأن للجغرافيا بها، وأن الشعوب هي من تصنع التاريخ حسب الفلسفة الماركسية، وليست الأماكن ومناخاتها مَن اختارت بنفسها لأن تصبح جنات تجري من تحتها الأنهار.

فيما يظل السؤال الذي يرمي بنفسه في حضرة هؤلاء، فيا ترى أين كانت مختبئة عبقرية المدلهين منكم؟ وهل من الممكن أن يخبر المثقف عن انجازاته العلمية أو التكنولوجية أو الفكرية في دياره قبل طرده المزعوم، فيطلع المتابعين على مساهماته الحضارية في بلده ولو على مستوى قريته، ولماذا كان الفطحلُ مستكيناً ولا يُظهر نبوغه؟ وهل منعه من إقامة جنته المزعومة أحدٌ من الناسِ قبل انتقاله الميمون الى المنافي؟ أم أن رمي تبعات الفشل الحضاري للنخب الثقافية على القادة والرؤساء الفاسدين هو من أسهل الأمور، وبالتالي استسهال القصف والانتقاد عن بُعد باعتبار أن "أسهل نشاطٍ بشري هو التحديق في أخطاء الآخرين" حسب قول مريد البرغوثي، علماً أن أغلب المتذمرين والشاتمين عن بُعد ساهم كلٍ على طريقته بتقهقر من هم حوله، وساهم بأسلوبٍ ما على إبقاء مجتمعه على ما هو عليه من تخلفٍ وخرابٍ ودمار لكيلا يفقد واحدهم أوهام مكانته الزائفة في المجتمع الذي رفعه الى الأعلى بالنفخ والتعظيم اللذان استساغهما المعنيُ قبل طيرانه الأخير، بل ومن باب تبرئة الذات من لعنات البلاد وأناسه، يحاول المغترب للتوِ تقديم صورة المواطن الشرقي بأسوأ حُلة، ككائنٍ متخلفٍ غير متطورٍ وبحاجة ماسة للتأهيل الحضاري.

لذا وبناءً على تلك المعطيات التي يشير إليها ويقدمها اخواننا المغتربون للآخر، نطالب الحكومات الشرقية كلها بفتح حدودها ومعابرها أمام كل راغبٍ بأن يغدو مع الزمن من المتحضرين في أية مقاطعة من المقاطعات الغربية التي ستتكفل بترويضهم على نفقاتها الخاصة في إحدى محمياتها، عسى ولعلها بفعلها ذاك تقوم بتأهيلهم بأسرع مدة ممكنة، فبذلك تخلص القادمين من جهة الشرق من بدائيتهم ووحشيتهم الكامنة، ولكي مع الزمن تجعل منهم بشراً جديرون بالحضارة المعاصرة، وحتى يبدو المواطن الشرقي آنئذٍ مقبولاً من لدن مَن كان جزءًا من ماكينة الفساد والتخلف قبل تأوربه*!!!.&

مع أن صاحب العقل المثمر، أو أي عقلٍ مؤججٍ بالحيوية يرى بأن الواقع الذي لا يتشارك المرء بصنعه يكون بمثابة الدخيل عليه، حيث يكون حظه من الوجود كحظ المُطارَد من ذويه، ذلك الذي فر من سربهِ وانضم للسرب الذي يليه، وفي يومٍ حارٍ رأى نفسه في ظلال خيمة شيخ عشيرةٍ أخرى علهُ كأي كائنٍ من كائنات مضاربه يأويه.

وفي نهاية المطاف نقول يا ترى ماذا يُرتجى من شخصٍ يرى نفسه هنا قطباً كونياً فيما هو هناك لا يزال ينظر الى ما حوله بمنظارٍ طفوليٍّ بدائيٍّ صرف؟ فكيف سيشمِّر عن سواعده ويبني وطناً مَن لا يزال مذهولاً بالذي يراه؟ وكيف سيرسم الاستراتيجيات المستقبلية لبلده من لا يتجاوز عتبة ملذات أناه؟ وكيف سيكون صاحب قرار الحل والربط من لم يتخطى حالة العربشة؟ ومتى سيكون صانع مجدٍ مَن لم يتجاوز عادة الحبوِ، ولا هو بقادرٍ على التخلص من خصلة التعكز الحضاري، أليس على من يدّعي بأنه من أعمدة الأمة أن يكف أولاً عن ارتجاء مَن يهتم به كطفلٍ يعوز الرعاية والاهتمام، وهنا ليس القطب وحده من نقصده طبعاً، إنما ومعه كل مَن كانت حالته في ديار الآخر تبدو للناظرين وكأنه كائنٍ لا يزال يمر بمرحلة الطفولة في الرؤى والأفكار والحاجات والتصورات؟&

ـــــ

ـ *أوروبا حسب الميثولوجيا اليونانية، هي إبنة آجينور ملك صور الفينيقي، وفينيقيا جغرافياً وفق أيامنا هذه تشمل المناطق الساحلية في كل من لبنان، فلسطين، سوريا، وقيل بأن القارة الأوروبية سميت على اسمها.

ـ *المتأورب: هو الشرقي الذي ولمجرد أن يغدو ضيفاً على فضاءات أوروبا حتى يبدأ بجلد بني جلدته بسياط الحضارة الغربية بدلاً من المساهمة في اصلاح ولو نفرٍ واحدٍ منهم.