ولنكمل عزيزي القارئ مناقشة الحروب الاروبية الدينية، من خلال مقال نشر بالمجلة الأمريكية للشوؤن الخارجية، فورن أفيرز، في شهر يونيو الماضي، وبعنوان، من كلفن وحتى الخلافة - ماذا تعلمنا الحروب الاروبية عن الشرق الاوسط، كتبه المفكر السياسي جون اون، ويكمل الكاتب مقاله بالقول: "فالاسلام السياسي، كاية ايديولوجية منافسة، ليس وحدة متراصة، فمع أن يجمع مناصريه تطبيق الشريعة، ولكنهم أطراف مختلفة، سنة وشيعة، متطرفين ومعتدلين، وطنيين وعولميين، بل وأيضا امبرياليين. وقد دفع هذا التنوع لحوار في الغرب، حول استيعاب الولايات المتحدة وحلفائها الاسلام السياسي المعتدل البرغماتي، في المناطق التي ينافس فيها الحركات المتطرفة. بينما يرفض البعض الاخر هذا التوجه لأنهم يعتبرون الاسلاميين حركة فريدة متحدة، على كره الغرب، في حين من يقبلون بذلك يعتبرون الاسلام السياسي عبارة عن حركات متفتتة. وطبعا ليست هذه الحوارات جديدة، فعادة يحاول المعارضون لايديولوجية ما، استغلال خلافاتها، للدفع بالصراع نحو تحقيق مصالحهم الحياتية. فمثلا خلال التاريخ الغربي، حاول الاجانب الاستفادة من سياسة فرق تسد للسيطرة، ولكن في بعض الاحيان كانت نتائجها عكسية. فقد أدى الصراع الطويل في الحروب الدينية الاوربية، إلى إنشقاق في الإيديوجيات الأوربية المسيطرة، بل بقت بعض طفراتها، لكي تنافس الأيديولوجيات الأصلية. فقد بدأت البروتستانية كلوثرية، رجوعا لمارتن لوثر، الذي خلق ثورة في الكنيسة المسيحية، ولكنها تطورت بسرعة إلى "زونجليانزم" في سويسرا، "واناباتزم" في ألمانيا، قبل أن تنمو للكلفانية في فرنسا، والانجليكان في انجلترا. فقد كان الكلفانيين واللوثريين يتنافسون للتاثير، ليصبحوا احيانا أعداء بعضهم، بل وأكثر من عداءهم للكاثوليكية. فقد ناضلت سلالة هابسبرج الكاثوليكية الحاكمة، التي حكمت الامبراطورية الرومانية المقدسة، لتغدية هذه الانقسامات في الديانة المسيحية، ولكنها فشلت هذه الاستراتيجية في النهاية إضعاف الكلفانيين، أو تمنعهم من توحيد جوهودهم مع اللورثيين، في الجبهة الموحدة، في حرب الثلاثة عقود.
&فالسر، في ان تتأكد القوى الاجنبية، بأن بعض الايديولوجيات ميالة ضد التطرف، وأن تعرف كيف تغديها لتنتعش، ومن الممكن القيام بذلك بنجاح، وقد كان ذلك واضحا في الجهود الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، لإضعاف تأثير الاتحاد السوفيتي، حيث أبدى الرئيس ترومان براعة متناهية في تحديد، من من الاحزاب الأروبية اليسارية يمكن أن تكون حلفاء للولايات المتحدة، وقد استنتج بنجاح، بأن الاحزاب الايطالية الشيوعية والاشتراكية جميعها متفقة على دعم الاتحاد السوفيتي، وتعارض خطة مرشال التي دفعت بها الولايات المتحدة، لذلك دعم ترومان الديمقراطيين المسيحيين، وساعدهم على الفوز بالانتخابات الحاسمة لعام 1948. بينما أكتشف ترومان في فرنسا بأن الاشتراكيين يعارضون الشيوعيين، لذلك اتفق معهم على صفقة مشتركة، ليجعل فرنسا شريك مشاكس، ولكن شريك صادق حقيقي. وطبعا هذا التدخل العلني للقوى الاجنبية هي سمة مهمة لمعالجة الأزمات الشرعية المطولة، فالصراع بين الاسلاميين والعلمانيين قد يكون أخر التنافسات التي تدخلت فيها القوى الاجنبية في القضايا الداخلية لدول اخرى، وذلك بالعمل من خلف الستار، أو باستخدام الوسائل العسكرية.
وقد انتقد الكثيرون هذه التدخلات، فقد اتهم النقاد بأن الحملات الأمريكية ضد افغانستان، والعراق، وليبيا، هي حملات صليبة بعيدة عن عقلانية الدولة، وفي الحقيقة من الطبيعي أن تستخدم القوى العظمى سلطتها، لكي تغير أو تحافظ على نظام بلد ما بحسب مصالحها. فالتدخل الخارجي ليس ادمان غبي يمكن تجنبه في الصراعات الايديولوجية، بل هو جزء لا يتجزء منها. فقد حدث في التاريخ اكثر من 200 تدخل خارجي خلال 500 السنة الماضية، ومعظمها مرتبطة بصراعات أقليمية، كالتي تواجها منطقة الشرق الاوسط اليوم. كما أنه من المنطق الانسحاب من اللعبة، حينما تتعقد الامور، ويصبح العنف مكلفا جدا، وقد تبين هذه الحقائق التجربة الالمانية، خلال تصرفات "البلاطينية"، خلال فترة الحروب الدينية، فقد كان الحكام ملشيا من الكلفانيين، الذين ناضلوا للقضاء على سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على الامبراطورية الرومانية المقدسة، وجميع أوروبا. فقد كرروا التحالف مع البروتستانت ضد القوى الكاثوليكية، بدفع العساكر لمساعدة الكلفانيين في فرنسا وهولندا، وخلال القرن السادس عشر، كانت حساباتهم الايديولوجية مع المنطق، ولكن حينما واجهوا بعنف من الهبسبروج انسحبوا، ناسيين رفاقهم في المقاومة البروتستانتية.& وبعدها دعى الثوار الكلفانيين، في بوهيميا، والتي كانت جزءا من الامبراطورية الرومانية، وكانت تحت حكم الكاثوليك، حاكم "البلاطنيين" فريدريك الخامس، لأن يتحدى الهبسبرج، ليصبح ملكهم. وقد قبل فريديريك الخامس ذلك، وفي عام 1619 طالب ببوهيميا لنفسه، بالرغم من رد فعل الهبسبرج، بالاضافة بأن معظم البروتستان الاروبيين رفضوا دعمه علنا. وقد سحق الهبسبرج جيش فريدريك الخامس، وغضب من البالاطنيين، وقمع البروتساتانت، وكانت تلك بداية حرب الثلاثين عاما الدينية.& ومثل الصراعات الايديولوجية الطويلة في أوروبا، سيأتي اليوم الذي سينتهي فيه الصراع بين الاسلاميين والعلمانيين في الشرق الاوسط. ولكن كيف سيتم ذلك؟ وما فرص الديمقراطية في الشرق الاوسط؟ فهي أسئلة مفتوحة لاجابات متناقضة.
&ويبين التاريخ الغربي، بأن أزامات الشرعية عادة، تعيد نفسها بنفسها بثلاث طرق: النصر المبين لطرف، أو تصاعد الخلاف لحرب بين الاطراف المتنازعة، أو صعود نظام يجمع بين عقائد الايدولوجيتين المختلفتين، والذي كان يبدوا في السابق مستحيلا. وفي الحقيقة يبدو بأن السيناريو الاول لنصر طرف ما في الشرق الاوسط غير محتمل، لكون الاسلاميين طوائف مختلفة، سنة وشيعة، معتدليين ومتطرفيين، وملكيين وجمهوريين، اما احتمال حدوث السنارويين الاخريين من الممكن. ومع أن من الصعب اليوم تصور أن تنتهي أزمة الشرعية بتلك الطريقة في الشرق الاوسط، ولكن أحد أزمات الغرب الاخيرة انتهت بتلك الطريقة، فقد تجاوزت أوروبا المعاصرة في البداية خلافاتها الدينية، بصعود انظمة جديدة، اعتبرت فيها الخلافات الايديولوجية غير ذات صلة.
فقد بقى الكاثوليك والبروتستانت مخلصين لعقائدهم، ولكنهم توقفوا عن التفكير في ذلك بمعادلة الصفر، أي أما أنا المنتصر أو أنت المنتصر، بل اتفقوا على حلول وسطية، بقبول كل منهم النصف المليء من الكأس، لينتهوا بفصل الكنيسة عن الدولة، أي بفصل الدنيا عن الاخرة. وطبعا هناك حاجة في الشرق الاوسط لنوع مشابهة لهذه الحلول الوسطية، بتوقف نظر النخبة، وباقي الشعب، لسؤال دور الاسلام في الدستور والقانون، كموضوع حياة أو موت. ولكن لعمق الاستقطابات الموجودة، من الصعب تحقيق هذه الاحتمالات المطروحة، وقد يكون الاحتمال الاخر بأن تتقارب هذه الايديولوجيات المتنافسه، لتستفيد من افكار ومؤسسات بعضها البعض. وقد عاشت اوروبا هذه الخبرات، فمن عام 1770 وحتى 1850 تمزقت القارة الاروبية بين الملكيين، الذين اعتقدوا بأن الحكم يجب أن يورث، وبين الجمهوريين الذين طالبوا بانتخاب الحكومة. وقد بدت هذه الافكار متباعدة في البدء، فالملكية كانت تكرر سحق الثورات الجمهورية، ولكن بعد فترة من القمع، قررت الملكيات الاوربية الوصول لحلول جديدة مع الطبقة المتوسطة، وبقيادة بريطانيا، طورت النمسا، وفرنسا، وايطاليا، وبروسيا، نوع جديد من النظام، يسمى احيانا باللبرالية المحافظة، والتي تجمع الملكية بالبرلمان، مع حريات مدينة أكبر.
وتوجه هذه القصة لدرس تاريخي اخير: فيعتمد عادة اقصى نجاح للايديولوجية أو هجين من عدة ايديولوجيات، على إن يكون هناك دعم من مسئولي الدولة، فنصر اللبرالية المحافظة في اوروبا، هي جزئيا بسبب مظاهر نجاحها في بريطانيا، والتي جمعت بين نظام هجين من الملكية الدستورية، التي طورت التقاليد والاصلاحات. بل كانت بريطاني اعظم دولة في العالم، في ذلك الوقت، حيث كانت تملك اكبر اقتصاد عالمي، واعظم امبراطورية، مع استقرار نظام اجتماعي، وقد كانت تلك التجربة مثل يحتدي به، لانه ثبت نجاحه العملي. وفي العالم الاسلامي هناك عدة انظمة هجينة اظهرت مظاهر قوية، والتي سميت بالديمقراطية الاسلامية، فمع ان كثير من علماء الاسلام ضنوا بأن الديمقراطية والاسلام السياسي لا يلتقون ارثيا، ولكن حاول بعض الاسلاميون والديمقراطيون، في دول عديدة، ان يدمجوا هذان النظاميين، في النظرية والتطبيق. فمثلا في عام 2011 وحتى عام 2013، حاول حزب الحرية والعدالة المصري، ان يظهر كقوة معتدلة يقبل الاختلاف الايديولوجي والديني، ولكن فشلت تلك الجهود، حينما احتكر الرئيس محمد مرسي السلطة، لتتخلص منه العسكرية المصرية، بموافقة الشعب.& وقد يعتقد البعض بأن مصر قد هجرت الديمقراطية، ولكن هذه الدولة لديها الحجم والقوة، لكي تكون مثلا للشرق الاوسط، لو جربت تلك التجربة بنضوج، في المرة القادمة، بعد استقرار الوضع.
وفي نفس الوقت، فقد نجحت محاولة لجمع الديمقراطية مع الاسلمة، في تونس، من حزب النهضة، والتي قامت بانتخابات نزيه حرة في عام 2014، بالرغم من انها احرجت الاسلاميين. وقد تكون تونس صغيرة جدا لتكون مثل لدولة، ولكنها الومضة المنيرة، التي برزت من الربيع العربي، وعلى الاقل تبين ما هو الممكن في المنطقة. وسيعتمد الكثير على الخيارات السياسية، للدولتين الاسلاميتين الاكثر قوة في المنطقة، اي ايران وتركيا، ومع ان هذه الدولتين ليستا بدول عربية، ولكن لديهما تاريخ طويل اقليمي مؤثر. فايران تمثل الاسلام السياسي، والتي اعتبرت نفسها حاملة لهذه الايديولوجية في ثورتها عام 1979، ومع أنها رسميا جمهورية، وبها شبه انتخابات تنافسية، ولكن القوى العليا في يد اية الله خامنائي، ولكن عانت هذه التجربة من الربيع العربي، حيث انها دعمت خطأ نظام الاسد، النظام الذي نفرت الاكثرية العربية السنية منه، كما يبدو بان النظام متفكك بعد انتخابات عام 2009، وهناك شك بأن الدول المجاورة تريد أن تحتدي بهذا النظام.
واما تركيا فهي قصة اخرى، فهي رسميا دولة علمانية، ولكنها متوجهة نحو الاسلمة. فخلال السنوات الثلاث الماضية، بدت تركيا مثلا جيدا لهجين الديمقراطية الاسلامية،& فالانتخابات التنافسية المتكررة كانت في صالح حزب العدالة والتنمية، وبقيادة الرئيس طيب اردوغان، فقد استمتعت البلاد بشعبية في المنطقة بعد الربيع العربي، لتستمر في توسيع تأثيرها، ولكن يبدو بأن اردوغان ربما بدأ يتوجه نحو نظام حكم تسلطي.& وقد تكون تركيا يوم ما نظام هجين للديمقراطية، ولكن حتى الان الجزء الديمقراطي من هذا الهجين قد استبدل بالاتوقراطية.
ومع ان هناك منافسة كبيرة بين الايديولوجيات في الشرق الوسط، ولكن يتساءل بعض المفكرين إن كانت فعلا جذور المشكلة في الايديولوجيات. فيرجع البعض صراعات المنطقة لاسباب اخرى، فيعتقدون بان الامبريالية الغربية الاوربية اولا، والامريكية الان، قد اهانت المسلمين، وحددت بشدة قدرتهم على السيطرة على مستقبلهم، كافراد وكمجتمعات. بل يعتبرون بان تواجد الولايات المتحدة في المنطقة، مع دعمها المطلق لاسرائيل، سبب رئيسي للتطرف في المنطقة. ولكن تتناسى هذه الفكرة بان العالم مليء بشعوب، لا قوة لها ومحبطة، كما ان الهيمنة الامريكية، تقريبا، عالمية. ولكن نادر ما يلاحظ في المناطق الاخرى من العالم، المشاكل المعقدة في الشرق الاوسط، من القلاق، والاستبداد، والارهاب، والوحشية، وتكرر التدخل الاجني.
ويتهم البعض الاخر الفقر، فتعتقد هذه المجموعة بأنه لو كان للمسلمين فرص اكثر، وثراء اكبر، لقلة هذه الازمات. وطبعا، قد لا يكون هذا عذرا، حيث ان هناك دول اكثر سؤا، ولكنها نجحت في منع الاضطرابات،& فلو كان الفقر هو السبب، فالمناطق التي في جنوب الصحراء الافريقية، لكانت اكثر تعرضا للارهاب، والثورات، والغزو الاجنبي. بل تتوجه الدلائل لتصورات أخرى، فمع أن الفقر وغياب الارداة، سببين رئيسيين، ولكنهما يحتاجان لهذا النوع من الفشل الوظيفي في الشرق الاوسط، حينما تجمعهما ازمة شرعية اقليمية، لفترة طويلة. والخبر الجيد هو ان الولايات المتحدة يمكنها ان تشجع نتائج افضل، لو انها تدعم حكومات واحزاب معتدلة، وقد لا تكون علمانية تماما. والخبر السيء هو ان هذا ما يمكن ان نتأمله فقط، فحتى الولايات المتحدة العظيمة، لا تستطيع ان تحل مشاكل المنطقة المعقدة، حيث ستعتبر جميع الاطراف هذا التدخل غير محايد، وطبعا على الولايات المتحدة المحافظة على مصالحها، وقد تحتاج لاستخدام القوة مرة اخرى، ولكن كما لم تستطع الامبراطورية العثمانية، القوة الاسلامية العظمى، في وقت الحروب الدينية، ان تحل خلافات المسيحيين، في القرن السادس عشر، فلن تستطيع اية قوى اجنبية ان تخلق السلام في الشرق الوسط اليوم، بل يستطيع ذلك فقط المسلمين لوحدهم ان ينهوا هذه الحرب الايديولوجية. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان