بعد حوالي الخمسة قرون للشرق الاوسط تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية، قسمت هذه المنطقة بعد الحربين العالميتين الى واقع جديد، فرض على شعوب أمتنا العربية. وقد كان امر ما في هذا الواقع الجديد، الاعتراف بدولة عبرية متناهية الصغر، في قلب وطننا العربي الكبير، وكانت نتائجها حروب متكررة مدمرة. كما كانت هزيمة عام 1967 هزيمة& صدمة مروعة لشباب وطننا العربي، مما افقدهم الثقة بالحركات الوطنية، والقومية، والاشتراكية، والماركيسية، والشيوعية. ولقد كانت هذه فرصة سانحة للبعض لاستفادة من الدين لتحقيق مصالح سياسية، لتبرز حركات الاسلام السياسي، التي خلطت المصالح "الحياتية" بروحانيات الاخرة، ولتعلق معظم الحركات السياسة "الاسلام" في شعارها، صدقا أو ظاهرا، اعتدلا أو تطرفا. وقد برزت ظاهرة الاسلام السياسي، بعد سيطرة القيادات الثيوقراطية، على الثورة الشعبية الايرانية في عام 1979، لتعيد تجربة الثيوقراطية الاوروبية للقرون الوسطى.
وقد ترافقت السياسة الغير مدروسة "علميا"، من متطرفي النظام الايراني الثيوقراطي، بمغامرات انفعالية، لتصدير ثورتهم، فعملوا على نشر وكلائهم، في كثير من دول الشرق الاوسط، كما استغلوا القوة الناعمة للمرجعية الدينية، ليزيدوا من شعبيتهم، وعلى حساب معاناة الشعب الايرني، اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، ودبلوماسيا. ولم يمر على التطرف في هذا النظام 36 عاما، والا بانتشار صرعات طائفية حادة في منطقة الشرق الاوسط، ولتبدأ منافسة فئوية دموية بين الحركات الطائفية الارهابية، ولننتهي باعلان دولة الخلافة الاسلامية، على أراضي العراق والشام، في نفس الوقت الذي أعلن مجموعة “المتطرفون" في النظام الإيراني، عن امبراطوريتهم الزائفة، بعاصمتها بغداد، وكأننا أمام وجهان لعملة واحدة، في الوقت الذي يتم قتل مئات الالوف، من شعوب منطقة الشرق الأوسط، ودمار الملايين من المباني والمساكن، لتعاني المنطقة من خلق عشرة ملايين لاجئ، لننتقل من ماسي نكبة الصهيونية، في اربعينيات القرن الماضي، إلى "صاعقة نكبة" الفكر الثيوقراطي الطائفي السقيم، وفي عالم العولمة، بل وفي الألفية الثالثة. وبعد هذه التجربة المريرة من خلط السياسة بالدين، خلط الدنيا بالاخرة، خلط العلوم الطبيعية بالروحانيات، خلط النسبي بالمطلق، تقف شعوب منطقة الشرق الأوسط أمام "تقاطع وجودي".
وقد يتساءل المواطن الشرق أوسطي: ما هي نهاية هذه المنطقة؟ هل ستنتهي لدويلات مفتتة، متحاربة، وفاشلة، من ناحية، وإمبراطوريات ثيوقراطية فارسية، وداعشية، ويهودية، وتركية، وكردية، متحاربة وزائفة، من ناحية اخرى؟ أم ستثبت الانظمة الثيوقراطية المتطرفة، والحركات الطائفية الارهابية، فشلها، لتتخلص شعوب المنطقة منها؟ وهل سيبدأ واقع جديد في منطقة الشرق الأوسط، كما حدث في أوروبا، بعد دمار الحربين العالميتين، ليعي شعوب المنطقة الثمن الباهض للجهل، بأهمية احترام الاختلاف، والتباهي، بعنصرية وطائفية الخلاف، لننتهي بفصل الدين عن السياسة، لخلق مجتمعات الاختصاص في مختلف مجالات، العلوم الاجتماعية السياسية، والعلوم الطبيعية التكنولوجية، والعلوم الاخلاقية والثيولوجية؟ وقد يؤدي كل ذلك لنشر التناغم، والتعاطف، والسلام، في المنطقة، مع ثقافة أقليمية تجمع العلوم الانسانية، والطبيعية، والتكنولوجية، مع التنمية المستدامة، ليشمل السلام دولتين جارتين، الدولة العربية الفلسطينية، والدولة العبرية، ولتبدأ باقي شعوب المنطقة، التفرغ لتطورها في الالفية الثالثة، من خلال سوق شرق أوسطية مشتركة. وبأن تكون دعائم هذه السوق، تطورات هادئة رصينة، بعيدة عن الجهل، والانفعالات، والانقلابات، وثورات القرون الوسطى، ولتشمل اصلاحات سياسية، ودستورية، واقتصادية، واجتماعية، لتنمو "تدريجيا" في المنطقة، انظمة عصرية متطورة، أساسها الدستور والقانون، وسلوكها الاخلاقيات الانسانية، وثقافتها احترام الاختلاف مع التالف والتناغم والسعادة، وسلاحها التعليم والتدريب المتقدم، وهدفها التنمية المستدامة، وضمن عالم العولمة الجديد، بينما يرجع رجال الدين "الميسين" لمساجدهم، وكنائسهم، ومعابدهم، ليتفرغوا لنشر اخلاقيات السلوك الإنسانية، والروحانيات، والاخوة التناغمية الصادقة، في المنطقة؟
وتبقى هناك أسئلة أخرى أكثر تعقيدا، وخاصة في مجتمعات الشرق الاوسط، والتي اعتمدت "المعارضة السياسية" فيها على الانفعالات الحادة، والعواطف المتغيرة، في تقيم الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وطريقة التعامل مع التغيرات السياسية. وليسمح لي القارئ العزيز أن نطرح هنا الأسئلة "الغريبة" التالية: هل تحتاج في هذه المرحلة من التقاطع الوجودي في الشرق الاوسط، للتخلص من الفلسفة الثيوقراطية السرطانية، والتي تعتمد على الدور المطلق لرجال الدين "المسيسين" في السياسة، مع إدارة الحكم في البلاد؟ أليست الألفية الثالثة ألفية التخصص، والتبحر، في مختلف اختصاصات العلوم الفيزيائية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثيولوجية؟& أليس من الغريب أن يعتقد أحدا اليوم بأن من مسئولية رجل الدين "المسيس" حكم البلاد، بل أن يضع الشروط، ويقرر من المواطنين، يجب ان يشارك في الترشيح للانتخابات، بل ومن يفوز بها؟ أهذه الديمقراطية التي ينادي به الاسلام السياسي الشرق أوسطي؟ ألا يجب أن يتفرغ رجل الدين لدراسة أمور الدين والعبادة المطلقة، والتي تختلف تماما عن الامور الحياتية النسبية المعقدة، والمتشابكة، والمتغيرة، والمتخصصة جدا، والانتهازية للفرص احيانا؟ وهل فعلا أثبت رجال الدين "المسيسين" نجاحهم في الشرق الاوسط، وعلى الاقل، في دراسة التاريخ الاسلامي، بموضوعية علمية؟ وما هو وضع المعارضة المتطرفة الشرق اوسطية؟ هل ستحتاج هذه المعارضة لتطوير عقلية نقدية علمية عملية، مستفيدة من منطق، وعقلانية، العلوم الفيزيائية، التي وضع قوانينها الخالق، جلت عظمته، بدقة متناهية، بدل اعتماد هذه المعارضة، على التحليلات الثيوقراطية الطائفية، أو الايديولوجيات المتعصبة، والمفرقة، والبائدة؟ وكيف سنتمكن بهذا المقياس العلمي تقييم واقع الشرق الاوسط، بعد دراسة الماضي، وتحليل الحاضر، لنستقرأ الجغرافية السياسية للمستقبل؟ وكيف ستساعدنا النظريات الفيزيائية في هذا الاستقراء المتشابك، للواقع المستقبلي الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، للشرق الاوسط؟
أليست المجتمعات الإنسانية مكونة من أفراد البشر؟ وإلا يتكون العنصر البشري من وحدات ميكروسكوبية متناهية الصغر، تعرف بالخلايا؟ وأليست هذه الخلايا وحدات متكاملة، لمجموعات متناسقة من مصانع بيولوجية معقدة، تنتج مواد كميائية متشابكة التركيب، لتكوين مختلف انسجة الجسم البشري، مع منشئات لانتاج الطاقة، لتوفير الطاقة البيولوجية اللازمة لهذه المصانع؟ إلا يتكون العقل البشري من هذه الوحدات البيولوجية، والتي في مركزها جهاز السيطرة، والمكون من جينات المورثات؟ وإلا تتكون جينات هذه الوحدات البيولوجية من بروتين ال "دي إن أيه"، والمكون من وحدات عناصر متناهية في الصغر، تسمى بالذرات؟ وإلا تتكون الذرة من نواة مركزية، مشكلة من البروتونات والنيوترونات، وتدور حولها الالكترونات؟ وألم يثبت العلم مؤخرا بأن البرتونات تتكون من جسيمات أصغر تسمى بالكواك، واللكترونات من جسيمات البوزونات؟ ألا يزيد أيمان الإنسان بخالق الكون، حينما يزداد علما، بما خلقه، جلت عظمته، من عالم مدهش للعقل البشري؟ وإلا يجب علينا أنا نزداد بهذه المعرفة تواضعا، وحكمة، لمعرفة مدى جهلنا، وإبتعادنا، عن الحقيقة التي نتشدق بمعرفتها، بالفكر المتعصب المطلق؟&&&
وللاجابة على هذه الاسئلة سنتدارس عزيزي القارئ معا، مقال نشر بمجلة سترتفور الالكترونية، كتبته محللة الجغرافية السياسية، ريفا بهلا، في الثامن والعشرين من شهر يوليو الماضي، وتحت عنوان، الجغرافية السياسية "الكوانتمائية"، وبمقدمة تقول: "استقراء شكل العالم، خلال السنوات القادمة أو العقود القادمة، خطوة جريئة.& فليس هناك صور لدراستها، ولا معطيات دقيقة لتساعدنا. فنحن نستطيع فقط ان نشكل صورة، مبهمة في أحسن الاحوال. وهذه، بعد كل ذلك، تجربة غريزتنا الانسانية الاساسية، للرسم بدون جهد، من خلال اضافة صور حية لعالمنا اليوم، ومع خبراتنا الحياتية السابقة، بينما تصاب عيونانا بالحول، ونتردد، قبل أن نرى خيال خافت للمستقبل. وفي عالم المخابرات والتخطيط العسكري، من السهل التنبؤ على المعتاد، بمحاكاة لعبة حرب، تتمحور على تهديد نووي ايراني، وقوة جهادية، كداعش، ومغامرة عسكرية روسية في أوروبا الشرقية. بدل تصور عالم تكون فيه روسيا ضعيفة، وممزقة داخليا، مع هزيمة التهديد الجهادي، بانقساماته الداخلية، وايران متحالفة مع الولايات المتحدة.. وفي عالم التجارة، من الاسهل أن تكون التجارة والاستراتيجية في بيئة متالفة، مع انخفاض سعر النفط، ونسبة فائدة مرتفعة للقروض."
ويشعر مختصو الاستراتيجية في مجالات كثيرة، بالذنب من ارتياحهم المفرط بالحاضر، كما يستقرأون فرضيات اليوم، ليصفوا المستقبل، ليجدوا انفسهم غير مستعدين، حينما نصطدم بازمة مستقبلية جديدة. وكما قالها باحباط، جنرال امريكي باربعة نجوم: "نحن دائما نقراء الخارطة الغير صحيحة، ونستخدم اللغة الخطأ، حينما نذهب لنحارب." ويبقى السؤال: كيف نتخلص من& هذا الفخ الذهني، لنطور الثقة لرسم مجموعات معقولة، ومتتالية، لعالم المجهول؟ وقد يرشدنا عالم هندسة "الكونتم" الكمي ذات الرباعية الابعاد، أو على الأقل، كوسيلة فلسفية، للاستقراءات الاستراتيجية. فقد كانوا عباقرة علماء الفيزياء، كالبرت انشتين،& ولويس دي برجولي، وارون شروودنجر، مهووسون بالعلاقة المعقدة بين المكان والزمان. وقد استمر النقاش بين العلماء، حول كيفية سلوك الذرة، والجزيئات، في الابعاد المختلفة، ولكن هناك اساسيات محددة، في مجموعة نظريات "الكوانتم" الكمي الفيزيائية، التي يجب أن& يتفهمها من يريد أن يتحمل مسئولية استقراء احداث العالم. فقد شرح انشتاين المكان والزمان، كقماش ناعم، مشوه، باجسام في الكون، وبالنسبة له الفصل بين الماضي، والحاضر، والمستقبل، ما هو الا استمرارية لوهم احمق.
وقد بنى البروفيسور رتشارد فينمن، الحائز على جائزة نوبل للفيزياء، تصوراته على افكار انشتاين، وذلك بالتركيز على كيفية انتقال الجسيمات، بشكل موجات من نقطة ألف إلى نقطة باء، من خلال مسارات محتملة، كل بسعة محتملة مؤكدة. وبمعنى اخر لا تنتقل الجسيمات بطريقة مستقيمة، بل تتحرك الى الاعلى، والى الاسفل، وحول الفضاء، لتتحاشى مسار الجسيمات الاخرى، او لتتصادم معها، كما انها احيانا تعزز وتلغي بعضها البعض تماما. وحسب نظرية فينمان، فمجموع سعة المسارات المختلفة، ستعطينا "مجموع تاريخها"- أي المسار الذي سيتبعه الجسيم في النهاية.
ومن الضرورة ادراك بأن سلوك المجتمعات والدول، على الاقل في كوكبنا الارضي، تتبع نفس المسار. فقد شاهدنا تاريخيا صعود، وانحدار، دويلات، وبلدان، وامبراطوريات، على امواج بمختلف الترددات. وقمة السعة، قد تتقاطع مع أخرى اقوى منها، ليؤدي لتدميرها. فمسار جسيم ما، قد يقوي مسار الاخر، لتخلق امبراطورية تجارية شاسعة. فمثلا، امريكا اللاتينية، المنطقة التي يمكن ان تتم فيها تحولات الجغرافية السياسية ببطئ السلحفاة في الزمن المعاصر، تنبعث منها موجات مشابه لموجات الراديو االطويلة والبطئية، مقارنة مع موجات مشابه لموجات الغاما النووية الفائقة السرعة، التي نعرفها اليوم في منطقة الشرق الاوسط، المتقلبة، والملتهبة للغاية. ولو طبقنا مفهوم الدولة القومية، كمبدأ منظم للزمن المعاصر، مع قبولنا بالحدود المصطنعة، ووجود دول بحكومة أو بدون حكومة، فمسار الدولة يبدو لا نهاية له، ومع ذلك يمكن بناء احتمال لمسار دولة، من خلال رسم صورة المستقبل. وستكون الخطوة الاولى أن نتعرف على الثوابت التي شكلت سلوك تلك الدولة مع الزمن، بغض النظر عن الشخصية أو الايديولوجية، كضرورة الحصول على ممر بحري، أو وجود جبال شاهقة تحتاج لرأسمال كبير لنقل البضائع، وارضي خصبة، تجذب منافسة كبيرة، لتوفر الثراء. ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان