&&

يتردد باستمرار أحاديث تكشف عن توقٍ إلى إقامة حكم الدولة الدينية، وهذا في حد ذاته تعبير عن نزوع إنساني، مبعثه الاستياء من بؤس الحاضر، والقلق إزاء المستقبل مما يدفع بالبعض إلى الالتفات نحو الماضي، نحو الأصول بهدف البحث عن يقين (يُضمر ضمناً إقصاء الأفكارالأخرى)، وإعادة الارتباط بلحظة البدء. ويفوت أصحاب هذا التوق أن عجلة الزمن ليست عكوسة، كما هو ملموس عملياً، وأثبته منطوق النظرية النسبية .&
تاريخياً: كانت دولة نبي الإسلام منذ بداية تكوينها دولة مدنية، بدلالة الصحيفة التي أعلنها الرسول بُعيدَ هجرته إلى يثرب، التي أَبدل اسمها إلى (المدينة) ومن هنا يجري تعريف الصحيفة بها، بالإضافة إلى أمور أخرى معروفة لدى المهتمين والمختصين. ويكفينا فخراً أن بذرة المجتمع المدني، التي تحمل فكرة مساواة البشر الشاملة، قد غُرِسَت مذ ذاك وكان أول مؤداها خضوع الجميع لبنود الصحيفة، ونشوء مؤسسة القضاء المستقل. في حين كان ينظم شؤون المكيين (الملأ المكي) الذي كان شديد الشبه بـ(المجتمع الأثيني).
على أن دولة الرسول، في حياته، تعدّ دولة دينية أيضاً، إذ أنه كان مُختاراً لتلقى الوحي. أما الذين قاموا بعده بشؤون الأمة - على التوالي - فلم يكن لهم من ذلك شيء، وكفى الخليفة الأول أبا بكر الصديق أنه كان الصاحب والرفيق للنبي العظيم رسول الإسلام والسلام، كما كان المستشار والناصح الأمين في أكثر من موقف. ويكفي مثلاً عن تعدد الآراء الذي كان سائداً، رأيه في كيفية الاستفادة من أسرى بدر، وهو موقف يختلف جذرياً عن الرأي الذي أبداه الخليفة الثاني المناصر القوي والمؤيد المثابر لنبي الأمة. ومن نافل القول إن النبي الكريم عمل برأي الصديق ولم يعمل برأي ابن الخطاب الذي لقّبه السريان (فاروقو = الفاروق). ومع ذلك فقد نزل الوحي لاحقاً مؤيداً لرأي عمر. ثم نُسِخَت الآية.
فيما بعد، بعد مقتل ثلاثة خلفاء غيلة على التوالي، تحولت مسألة شكل الحكم، الذي لم يكن هناك من نصٍ صريحٍ بشأنه، لا في العموم ولا في الخصوص، إلى شكل آخر يوفر الاستقرار للدولة الناشئة إلى حد ما. وهنا بدأ التفكير والنقاش والمداولة حول مدى صواب ما فعله السابقون، ومن تلاهم، عبر اختلافاتهم! وهذا كان المحرّض على بدء المذاهب الدينية/ الفكرية بالظهور...&
في الواقع المعاصر: استناداً إلى مقولات مناهج التحليل التاريخي يتبين أن نشوء المذاهب، في غمرة التحولات التي كانت تطرأ على المجتمعات في أرجاء الدولة المترامية الأطراف، كان في حد ذاته أمراً إيجابياً، فهو الدليل على اشتغال الفكر، والمعبّر عن فعالية تطور المجتمعات السابقة، وتعدديتها في إبان نهوضها، يتبدّى ذلك في وجودها متجاورة، وفي هذا برهان ساطع على أن وجود المذاهب، على اختلافها، معاً، كان دليلاً على اعتياد التعددية، وعلى الاعتراف بالآخر المختلف، وحقه في الوجود، والعيش معه وإلى جواره. وما أكثر الروايات التي قيلت عن المقالب التي كانوا يتبادلونها، دونما حرج، تحرّشاً ومزاحاً.&
على أن ما يراه البعض حالياً من وجود وجوه سلبية للمذهبية، يمكن أن ينشأ عنها خلاف أو تنجم صراعات. فهذا، في واقع الحال لا علاقة له بالمذاهب والتمذهب، بل هو ناجم عن اختلاف وتباين مصالح الناس أو الدول فيما بينها من جهة، واستمرار التقليد الببغاوي نتيجة جمود التفكير من جهة أخرى، مما يدفع إلى تدعيم الادعاء بنداء روحي عاطفي. وكما قال أحد الفلاسفة: (الناس تسيّرهم مصالحهم لكنهم لا يدرون). بالتالي فالسلبي يكمن، في ذلك الاستسلام إلى التقليد والترداد السماعي من دون علم أو معرفة، وفي تلك النزعة الفردية المتضخمة المنفلتة، التي تبيح لنفسها استخدام كل ما يقع تحت يدها من أسلحة تراها مفيدة لمصالحها، وفيها التلاعب بعواطف الناس الإيمانية واستغلالها، بل وتجييشها أحياناً...&
لهذا سأتطرّق هنا إلى ما يتحرّج البعض أو يتخوّف من إيراده، بالقول: بات من مصلحة المؤمنين جميعاً أن يبدأ السعي، إلى قبول أن ترفع الدول ظلها عن الأديان والمذاهب، فهذا شأن مؤسسات المجتمع الأهلي التي تتابع مسيرتها معها إن صعوداً وإن هبوطاً. أما دَور الدولة فيتحدد بمهمة حماية الجميع، ومناصرتهم، كلهم، على اختلاف نحلهم وميولهم، وضبط انتظام طرائق تعاطيهم فيما بينهم بحكم الدستور والقوانين.&
قد يظن البعض، أن هذا العرض يتضمن، في ثناياه، دعوة إلى عَلمانية يبطنّها الإلحاد، غير أن هذا من السذاجة بمكان، فالعَلمانية ليست مؤمنة ولا ملحدة، وهي قد خرجت في الأصل من عباءة الإيمان بتعدديته. وللعَلمانية قولان:
ـ حماية الدين من تدخّل الدولة وتعسّفها.
ـ حماية الدولة من سيطرة جماعة مذهبية &دون غيرها.
لننظر إلى عالمنا العربي وجواره الإسلامي، من دول تربطنا بها علاقات تاريخية وروحية، فكيف يمكن عملياً لدولة أن تكون دينية وفيها من المذاهب ما فيها؟! عندها لابد من أن تكون الدولة الدينية مذهبية، أي تعتمد مذهباً بعينه (توحيدياً وإلى جانبه مذهب فقهي)، وهنا نقع في الوجه السلبي للمذهبية، وخصوصاً إذا اعتمدت الدولة التبشير وسيلة، وعليه فهي سوف تبشّر بمذهب بعينه لا بالدين بشموله.&
يكفي أن نأخذ مثالاً، معروفاً للجميع، مسألة تدريس التربية الدينية. وسؤال وحيد يُطرح: هل من أحد مقتنع فعلاً أن المدرسة هي التي تقوم بتعليم الأطفال والفتيان ديانتهم؟! أم أنهم ينشؤون عليها في منازلهم، والدليل الصارخ على هذا أبناء المذاهب ذات النسبة المئوية القليلة.&
من المعلوم أنه يوجد في بلادنا، لكلتا الديانتين بمذاهبهما المتعددة، مدارس ومعاهد وأماكن يرتادها من يريد التفقه في شؤون دينه. وهذا حق طبيعي مشروع. فلنكن صريحين، مع أنفسنا، ونعترف أن الدين للبشر وليس لدول تضمه إلى سلطتها وتمارَس شعائره ومناسباته بأمر إداري.&
&