1975-1979


في هذه الفترة شهد العراق إستقرارا نسبيا من الناحيتين السياسية والأمنية مما أتاح الفرصة أمام تفعيل وتكثيف جهد الدولة بكامل مؤسساتها نحو العمل الحزبي وسط الجماهير. ففي هذه الفترة بالذات تحولت سياسة النظام في تحزيب الدولة من اسلوب الترغيب الذي كان سائدا في بداية حكم البعث، الى اسلوب الترهيب هذه المرة مستفيدا من غياب أي وجود لقوة معارضة فاعلة في العراق بعد إنهيار الثورة الكردية في كردستان،رغم وجود إرهاصات ثورة كردية جديدة داخل الأوساط الشعبية الكردستانية، فقد كانت هناك تحركات وإتصالات واسعة النطاق بين عدد من الشخصيات السياسية الكردية خارج العراق وبين عدد من قادة ثورة أيلول المنهارة لإعادة الأمل الى صفوف الشعب الكردي من خلال إعلان ثورة جديدة على النظام البعثي، ولكن تلك المحاولة لم تكن متكاملة لجهة الإسراع بإعلان الثورة، فاستغلها حزب البعث للعمل بحرية مطلقة في ظل غياب قوى معارضة فاعلة على الأرض.
أصبح التعيين في دوائر الدولة والذي يعتبر المصدر الوحيد للعوائل العراقية لتأمين معيشتها أحد أوجه أسلوب الترهيب الذي بدأ الحزب الحاكم بممارسته لكسب الناس، حيث كان التعيين في وظائف الحكومة يحتاج الى بصمة على إستمارة الإنتماء لحزب البعث كأول شرط للتوظيف، ثم صدرت عدة قرارات من مجلس قيادة الثورة بإطلاق التعيينات خاصة في المدن الكردية لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الشباب الكردي الى جانب الحزب الحاكم، حتى المعوقين منهم كانت لهم حصة في ذلك، والهدف كان واضحا منذ البداية وهو إشغال الشباب بهموم المعيشة ومحاولة ثنيهم عن التفكير في الثورة أو اللجوء الى المعارضة المسلحة في الجبال.
وبالتوازي مع تلك الحملة المنظمة التي سخر لها النظام جميع إمكانات الدولة الإقتصادية، بدأ النظام بتغيير الأسس الإقتصادية التي كانت الدولة ترتكز عليها من خلال تنفيذ سياسة إقتصادية تقوم على أساس تحويل البنية الأقتصادية العراقية الى نظام إشتراكي مركزي على غرار إشتراكية الإتحاد السوفيتي رغم الإختلافات الكبيرة بين المجتمعين العراقي والسوفيتي، فزج بكل ثقله نحو تشكيل وتفعيل منظمات العمال والفلاحين والشبيبة والطلبة وتأسيس الجمعيات التعاونية والإستهلاكية، واضعا بذلك أسس إقتصاد إشتراكي لكن على طريقة بعثية خاصة تختلف في الكثير من تفاصيلها عن النظم الإقتصادية السائدة في دول العالم، فقضى تماما على أي دور للقطاع الخاص بإستثناء العمل في بعض المهن والحرف الصغيرة،في وقت كان الإقتصاد العراقي في الفترة التي سبقت حكم البعث الثاني يعتمد بشكل كبير على دور هذا القطاع والشركات العاملة في إطاره،فتحولت الدولة في ظل هذا النظام الجديد الى كل شيء، وأصبح حياة الفرد العراقي مرتبطا بدرجة كبيرة بالدولة بما فيها لقمة عيشه. ومن معالم ذلك النظام الإقتصادي المشيد على الطريقة الخاصة لحزب البعث الحاكم، أن الدولة بسطت سيطرتها المطلقة على الأسواق التجارية، فكانت تفتح دكاكين في السوق لبيع السلع والكماليات للمواطنين، فكانت هناك أسواق مركزية في المدن الكبرى تبيع الدولة فيها الملابس الداخلية وحفاظات الأطفال والأحذية الرياضية والبلوزات،ومعارض أخرى لبيع الدبابيس وأقلام الرصاص والأوراق البيضاء باسم الشركة العامة لتجارة الأجهزة الدقيقة،وفتحت معرضا آخر باسم الشركة العراقية الأفريقية وكانت تبيع إطارات السيارات والبراغي، فيما كانت الشركة العامة للعدد اليدوية تبيع مفكات تلك البراغي وأنواع المطارق،والأنكى من ذلك كانت الدولة تدير دكاكين أخرى تبيع فيها الخضر والفواكه بينها (الكرفس واللهانة)، أضف الى ذلك شركات أخرى عامة أي تابعة للدولة تبيع الأخشاب أو أقداح الشاي.
وعلى الجانب السياسي كان حزب البعث الحاكم يطرح نفسه كحزب قائد أوحد للعراق مستغلا غياب أي نشاط حزبي أو سياسي لقوى أخرى بفضل إنعدام الحريات السياسية،الى جانب الحريات الإعلامية التي لم يكن لها وجود أيضا بسبب سيطرة الحزب القائد على جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، فقد كانت هناك قناة تلفزيونية واحدة تبث برامجها من بغداد الى كافة أنحاء العراق، وهي مكرسة على الآخر لخدمة الدولة وترويج أفكار البعث الحاكم، وكذلك كانت مهمة الإذاعة. أما الصحف والمجلات فكانت إجازات إصدارها محصورة فقط بالمنظمات البعثية التابعة للحكومة، مثل إتحادات العمال والطلبة والشباب والفلاحين و النساء.
وكانت تلك المنظمات الحزبية التي تسمى جزافا بالمهنية أو الشعبية مكرسة بالكامل للتحرك وسط الجماهير لتنظيمها في صفوف الحزب القائد،على الرغم من وجود أحزاب أخرى على الساحة العراقية وهي منظوية فيما كانت تسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية، مثل الحزب الشيوعي العراقي الذي باع نفسه لحزب البعث بإنضوائه تحت جناحيه في الجبهة والسلطة، وحزبين كرديين كارتونيين أي مصطنعين، الأول هو الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان نسخة مشوهة عن الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي قاد الثورة الكردية المسلحة تحت قيادة الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني، وكان ذلك الحزب المسخ نسخة إصطنعها البعث في بغداد وكان جميع أفراده قيادة وقواعد لا يتجاوزون عشرين شخصا يقبضون رواتبهم من الشعبة الخامسة للأمن العامة،والثاني كانت حركة التقدميين الأحرار بقيادة أحد المرتزقة المنشقين عن الثورة الكردية والذي كان بدوره يحمل هوية مديرية الأمن العامة.
لقد إرتضى الحزب الشيوعي العراقي لنفسه أن ينضم الى جبهة البعث لمحاربة الثورة الكردية ممنيا نفسه بحماية الإتحاد السوفيتي الذي كان على وفاق في تلك الفترة مع حزب البعث الحاكم بفضل معاهدة الصداقة والتعاون التي وقعتها مع نظام البعث، ولكن لم تمض سوى خمس سنوات على إنضواء الحزب الشيوعي تحت راية الجبهة ومشاركته البائسة في الحكم حتى دارت عليه الدوائر فنفذ حزب البعث الحاكم مجزرة بحق أعضائه،ثم طرد الحزب الى ما وراء الحدود أمام أعين السوفييات، فالتحق الحزب بجبال كردستان ليعمل من هناك الى جانب الأكراد الذين أدار لهم ظهره بالأمس.
كان نجم صدام حسين يتصاعد ويعلو في تلك الفترة وأصبح البعث يعتمد عليه كليا لما إعتقده النجاحات الباهرة التي حققها لحكم البعث خاصة نجاحه في إنهاء الثورة الكردية المسلحة بعقد معاهدة الجزائر مع شاه ايران،وكذلك لدوره البارز في تبعيث الجيش العراقي من جهة، وإرساء أسس دولة بوليسية ترعب الجماهير الشعبية في الداخل وتخيف دول الأقليم المحيطة بالعراق من جهة أخرى،ومكافأة له على خدماته للحزب تم إختياره نائبا لأمين سر القطر ومنح رتبة الفريق الأول الركن ليصبح بالتالي نائبا للقائد العام للقوات المسلحة وهو لم يدخل أية كلية عسكرية في حياته، وأصبحت صورته ملازمة لصور الرئيس أحمد حسن البكر وتعلق في دوائر الدولة الرسمية.
أما على الصعيد الحزبي فقد كان صوت صدام يعلو في الكثير من الأحيان على صوت أمين سر القطر الرئيس البكر، ولا حاجة للحديث عن مركزه العالي داخل الأجهزة الأمنية والمخابراتية بشكل متقدم على رئيس الدولة ذاته خاصة وأن هذه الأجهزة كانت من صنع يديه بالأساس.
وعلى الصعيد الشعبي وبهدف تحقيق أوسع شعبية له أمسك صدام حسين على مفاصل مهمة في الدولة،وأشرف بنفسه على العديد من الحملات المهمة التي أنجزتها الدولة العراقية. فقد قاد حملة وطنية شاملة لزيادة إنتاجية المصانع والمعامل الحكومية، وكانت خطبه وإرشاداته تطبع بالملايين وتوزع على دوائر ومؤسسات الدولة برمتها،وقاد حملات مماثلة للإصلاح الزراعي ومحو الأمية، وأهتم بدرجة أساس بالإحتفالات الشعبية الصاخبة في المناسبات الوطنية والقومية التي كان يظهر فيها بإستمرار بهدف كسب قلوب الجماهير التي كانت غافلة الى حد بعيد مما يخطط له صدام لمسك زمام الدولة البعثية.
ومع حلول عام 1978 كانت هناك إشارات وإن بدت غامضة للبعض بإنفراد صدام بالعديد من مؤسسات ومرافق الدولة السياسية والأمنية والعسكرية والإقتصادية الى جانب بروز معالم قيادته المطلقة للحزب الذي باتت بعض مفاصله تعمل في الخفاء لتهيئة الأجواء لتبوء صدام للموقع الأول في الحزب والدولة. وجاءت مسألة الوحدة مع سوريا ليبرز صدام كقائد قومي للحزب يسعى وراء تحقيق أهداف حزب البعث العربي الإشتراكي بإتمام الوحدة وهي إحدى أهم الأهداف التي ارتكز عليها البعث منذ نشوئه منتصف الأربعينات من القرن الماضي وخدع الناس بها.وكانت هذه المسألة بدورها لعبة من لعب صدام السياسية أراد منها كسب قلوب العرب وإظهار نفسه كقائد وحدودي.
خلال الربع الأول من عام 1979 بدأت ملامح مرحلة جديدة في تاريخ العراق تتضح من خلال تقدم صدام حسين الى الواجهة بشكل كبير..فقد قام بالعديد من الجولات الميدانية على المدن والمناطق العراقية المختلفة للتجول بين سكانها والترويج لنفسه كقائد شعبي قريب من الجماهير الفقيرة والكادحة،واختار المناطق الأكثر فقرا وتخلفا في العراق لزيارتها مثل الأهوار والمناطق الجنوبية المتخلفة،وكانت تلك الزيارات تنقل بشكل حي على شاشات التلفزيون وتغطي الصحف الرسمية مختلف جوانبها مع إبراز الجانب الإنساني في سلوك صدام وطرحه كمنقذ للشعب من حالة التخلف والحرمان التي عاشها الشعب العراقي طوال السنين الماضية،وكان صدام يأخذ في تلك الجولات إبنته الصغيرة (حلا) بهدف الإيحاء للآخرين أنه أب حنون وعطوف محب لأطفاله وأطفال العراقيين.ولأول مرة في تاريخ العراق سمح صدام لصحف عراقية بدخول بيته والحديث عن عائلته وكان هذا أيضا ايحاءا نفسيا آخر للجماهير العراقية ببساطته وتواضعه رغم كونه الرجل الثاني في الدولة.
عندما إقترب منتصف عام 1979 أدرك معظم العراقيين أن صدام سيصبح رئيسا للجمهورية وسيتسلم الموقع الأول في الحزب والدولة، وكانت الأجهزة الحزبية والأمنية تعمل من أجل تهيئة الأجواء شعبيا وحكوميا لهذا الحدث الكبير في تاريخ العراق بعد أن حسم صدام إنقيادها التام لرغباته بالإستحواذ على السلطة وطرد البكر منها باعتباره رجل المرحلة القادمة، وكانت الأجواء مهيئة بالفعل نفسيا وسياسا وحزبيا لقبول هذا التغيير فلم يبق سوى الأعلان عن ذلك.ومع ذلك فمن الطريف أن بعض الناس قد اعتقلوا وسجنوا لمجرد أنهم نشروا خبر إحتمال تبوء صدام للموقع الأول في الحزب والدولة وذلك قبل الإعلان عنه رسميا.
وحان الموعد للإعلان الرسمي في ذكرى إنقلاب البعث في السابع عشر من تموز عام 1979، حيث أعلن رسميا تنازل الرئيس أحمد حسن البكر عن السلطة والحزب لصالح رفيق دربه صدام حسين الذي أصبح رئيسا للجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة ليبدأ معه تاريخ جديد في العراق سطر بأنهار من الدماء، والحديث عنه سيستمر في حلقة قادمة إن شاء الله.

شيرزاد شيخاني

[email protected]

دولة صدام حسين 3