تعودنا، بسبب انعدام تقاليد الحوار، أن ننكر على الآخرين التفكير بصوت عال، واعتبار آرائهم نشازا لا ينبغي سماعها، إن لم نستخف بها ونزدريها.
تعودنا أن نرتجف ونشعر بالخوف كلما قرأنا أو سمعنا رأيا مخالفا لما نعتقده الحقيقة المطلقة.
تعودنا أن لا نبتكر الحلول لمشاكلنا وما يصادفنا من عثرات في الطريق بالتغاضي والتغافل، والهروب إلى أمام، مستلهمين أسوأ ما في تراثنا: كم من حاجة قضيناها بتركها!!
جرت العادة أن نصاب بالحرج عند الحديث عن الطائفية، وأن نغطي وجوهنا بأقنعة مزوقة حتى نبعد الشبهة عنا، أو أن نقول على ألسنتنا غير ما نبطن في صدورنا.
الطائفية موجودة في كل مكان مثلها مثل الأعشاب السامة، والدعوة لاقتلاعها وإجتثاث شأفتها لا تعني إلغاء طائفة أو محوها من الوجود، فوجود الدجل بين الأطباء لا يعني إلغاء مهنة الطب ولكن إلغاء الدجالين.
قبل ثلاثة أعوام تقريبا، حاولت 300 شخصية لبنانية من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية، إنشاء حركة سياسية جديدة غير طائفية في لبنان، وذلك خلال مؤتمر عقد تحت اسم "التجمع الوطني للإنقاذ". وصدرت عن المؤتمر مشروع وثيقة جاء فيه أن "الطائفية لم تعد تستجيب لأي شكل من أشكال الإصلاح، بل أن الإصلاح الحقيقي يبدأ في التخلي عنها".
ومما جاء في ذلك المشروع، "إن الصيغة الطائفية ساهمت في ظروف معينة في إنتاج كيان لكنها عطلت تحول الكيان إلى وطن بما كرسته من التباس في الهوية والولاء بين الوطن والطائفة. وهي أنتجت حكما وسلطة لكنها منعت قيام نظام سياسي سليم، أي أنها منعت قيام الدولة على أسس حديثة متطورة".
ورأت الوثيقة أن الحروب الأهلية العديدة التي شهدها لبنان في القرن ونصف القرن المنصرمين "لم تهدد أو تزعزع الصيغة الطائفية وممثليها السياسيين بل على العكس فإنها كانت كل مرة تعزز هذه الصيغة، وتعيد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها. وبالمقابل فإنها كانت تهدد الوطن في وحدته وديمومته، وتزعزع ارتباط الشعب بالوطن".
واستنتجت الوثيقة "إن الطائفية لم تعد تستجيب لأي شكل من أشكال الإصلاح ولا هي قابلة للعلاج، والإصلاح الحقيقي يبدأ بالتخلي عن هذه الصيغة المتخلفة واستبدالها بصيغة ديمقراطية".
***
يجب أن لا نخجل من الحديث عن الطائفية إذا أردنا فحصها ومساءلتها والتوصل الى سبل مواجهتها بالصيغ التي تضمن التوافق بين مختلف الطوائف. فالظاهرة الطائفية موجودة في كل مكان، وفي مختلف المجتمعات المتطورة والمتخلفة، وفي كل واحد منا وإن بدرجات متفاوتة، وإذا كان الأعمى لا يرى الشمس، فليس معنى ذلك أنها غير موجودة.
في الولايات المتحدة قانون غير معلن يقضي بأن يكون الرئيس بروتستانتيا ويتحدر من أصول ايرلندية، والاستثناء الوحيد، طوال التاريخ الأمريكي كان الرئيس جون كنيدي ، وهو الكاثوليكي الوحيد بين الرؤساء الأمريكيين.
وفي بريطانيا، يعتبر الملك/الملكة حامي الكنيسة البروتستانتية.
وفي كندا، حيث توجد الطائفتان البروتستانتية والكاثوليكية، جرى العرف أن يكون الحاكم العام لكندا بروتستانتيا، وحين ينتخب رئيس للوزراء كاثوليكيا، وغالبا ما يكون من مقاطعة كيبيك الناطقة بالفرنسية يتم إرضاء البروتستانت بتوزير أكبر عدد منهم، وهكذا الأمر عند انتخاب رئيس وزراء بروتستانتي، حيث يكون الثقل الوزاري للكاثوليك، وإضافة إلى ذلك، لابد من توزيع بعض الحقائب على الأقليات الدينية الأخرى، حيث تتعايش هناك عشرات الطوائف والأديان. ولتحقيق هذه الفكرة، أصبح مجلس الشيوخ الكندي الذي لا يخضع أعضاؤه للانتخاب المباشر يضم شخصيات تمثل المسلمين والسيخ والهندوس والبوذيين.. الخ
ويرى أوكتافيو باث المفكر المكسيكي وأحد أبرز كتاب أمريكا اللاتينية "أن أساس الديمقراطية الأمريكية ديني، حيث نجده عند جماعات المنشقين البروتستانت الذين عاشوا في هذه البلاد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. وهذه الاهتمامات الدينية تحولت في ما بعد إلى أفكار سياسية مخصبة بأفكار جمهورية وديمقراطية وفردية، لكن الصبغة الأصلية لم تختف أبدا من الضمير العام، فالدين والأخلاق والسياسة لم تنفصل أبدا في الولايات المتحدة، وهذا هو الفرق الكبير بين الليبرالية الأوربية التي هي في الغالب علمانية وضد الكنيسة، وبين الليبرالية الأمريكية. فالأفكار الديمقراطية لها عند الأمريكيين جذور دينية مضمرة أحيانا، وظاهرة في أكثر الأحيان".
في عامي 1997 و1998 أعد "معهد هارتفورد الأمريكي لبحوث الدين" بحثا حول الطائفية في أمريكا، وعقد فريق البحث مقابلات مع 549 تجمعا طائفيا، وأسفرت النتائج عن وجود ثقافة طائفية تتركز بشكل خاص في سياتل وشيكاغو وناشفيل وعدد من المقاطعات الريفية في وسط ميسوري والباما، وقد أحصى البحث 91 طائفة تعد الأكثر احتفاظا بثقافتها الطائفية بين شبكة الطوائف الأمريكية.
ومن بين النتائج التي توصل إليها البحث أن الطائفية في أمريكا هي أقوى مما كان متوقعا، لكن قوتها تتراوح من مكان لآخر، فهي قوية في الريف أكثر من المناطق الحضرية، وفي الجنوب ومناطق وسط الغرب أكثر من بقية البلاد، وهي عند الكاثوليك، خصوصا في المجموعات الصغيرة مثل شهود يهوة أعلى منها لدى البروتستانت. أما بالنسبة للهوية الطائفية البروتستانتية فهي قوية في الشمال الشرقي بنسبة 30 في المئة، وترتفع في الجنوب إلى 70 في المئة، وتصل إلى 84 في المئة في التجمعات الريفية، حيث يكون الإحساس الطائفي شديد القوة، ويستثنى من ذلك البروتستانت الأمريكيون من أصل أفريقي، إذ لا يتعدى هذا الإحساس 11 في المئة.
لكن ما هو أكثر أهمية، توصل البحث إلى أن الطائفية هي نوع من التقاليد التي تربط بين أبناء الطائفة الواحدة، وهي تولد معهم وتنتقل من جيل إلى جيل، وبذلك يعتبرون الطائفية مهمة إليهم، وتشكل بالنسبة لهم أسلوبا في الحياة، لذلك فان من ينشأ بين الصلوات ويكبر تحت علم الطائفة ورموزها يجد نفسه محافظا أو قريبا من المحافظين الذين يمثلهم الحزب الجمهوري، أما من كانت ثقافته الطائفية هشة فهو أقرب إلى الليبراليين، وبالتالي من الحزب الديمقراطي.
ورأى البحث أن للحداثة والعصرانية قابلية الحركة على إزالة الحدود بين الطوائف، ومع ذلك، فان هذه الحدود لن تختفي كليا، لأن التراث المشترك بين كل طائفة مسألة بديهية حتى لو لم يمارس المنتمون اليها الطقوس الدينية. وينتهي البحث إلى خلاصة مثيرة، وهي أن نصف الذين قابلهم فريق الباحثين يجدون أنفسهم في الخندق الطائفي.
***
الطريق طويل وعسير جدا للتراجع عما في نفوسنا من نوازع طائفية، ولكي تتراجع الطائفية وتنزوي وتموت يتطلب منا الأمر الشجاعة للنظر في المرآة. شجاعة تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، وتفضح خطاب الأنظمة الملتبس في عقولنا والتابوات التي تربينا على عدم جواز الاقتراب منها أو ملامستها.
وبدون ذلك ستظل الطائفية ترافقنا حتى النزع الأخير مثل حمة مالطا.
















التعليقات