في العالم الإسلامي هناك نشاط محموم لزج الدين في السياسة، أما في الغرب فيعمل السياسيون على زج العلم في السياسة خدمة لأغراضهم. الغرض من زج الدين بالسياسة هو استحواذ رجال الدين المسيسين على السلطة وإضفاء القداسة على حكمهم وقراراتهم ولجم معارضيهم واتهام كل من يعترض عليهم بالكفر والمروق والتمرد على الله والإسلام، وبذلك يسهل عليهم تصفيتهم.
في الغرب، ونتيجة للمنافسات السياسية الشرسة وحرية التعبير والرأي، تم جر العلم إلى المطبات السياسية لأغراض دعائية. فكل فئة تحاول تشويه سمعة الفئة المنافسة لها وتجريدها من مصداقيتها. لذلك قد يلجأ السياسيون إلى شتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل كسب الرأي العام إلى جانبهم ضد خصومهم. وبما إن العلماء معروفون بالمصداقية والحيادية العلمية، لذلك يلجأ السياسيون أحياناً إلى استغلال المؤسسات العلمية ذات السمعة الطيبة وإقناعها بنشر دراسة مضللة تدعي أن قام بها الفريق العلمي كذا من الجامعة الفلانية أو المعهد الدراسي الفلاني، لإضفاء الصفة العلمية عليها لكسب المصداقية، للتأثير على الرأي العام. ولا ننسى أن العلماء هم بشر، لهم مواقف وآراء متباينة كغيرهم في مختلف القضايا السياسية وقد يستغلون مواقعهم العلمية لتمرير مواقفهم، فيعمدون إلى نشر دراسات قد تكون خاطئة ومضللة من الأساس لأغراض غير علمية. فقد نشر بعض العلماء العنصريين في الغرب في القرن الماضي مثلاً، دراسات يحطون بها من قدر السود مدعين أنهم متخلفون لأسباب وراثية ولذلك فمن العبث صرف الأموال على تثقيفهم. بينما دحضت دراسات وتجارب علمية أخرى هذه الفرضية العنصرية البغيضة وصار السود لا يختلفون عن البيض في التقدم عندما تحسنت بيئاتهم ظروفهم المعيشية.
حرب الخليج الثالثة التي حررت الشعب العراقي من أبشع نظام ديكتاتوري دموي في التاريخ، هي من أكثر القضايا المثيرة للجدل وشق الصفوف في الغرب، بين الحكومات التي ساهمت بالحرب والأحزاب والمنظمات المعارضة لها، بل وحتى داخل الحزب الواحد، وذلك لأن الناس بالأساس هم ضد الحرب، لأن الحرب ضد الحياة والعمران. ولكن هناك ظروف خاصة تجعل الحرب لا بد منها من أجل السلام. فكما يقول خوسيه مارتي جني الحائز على جائزة نوبل للسلام: "مجرم من يخوض حربا يمكن تفاديها. ومجرم من لا يخوض حربا لا يمكن تفاديها." أعتقد أن الحرب التي أسقطت نظام المقابر الجماعية في العراق كانت حرباً لا يمكن تفاديها.
لقد تم إسقاط حكومات عديدة في العالم عن طريق التدخل الخارجي وبالأخص من قبل أمريكا ودون أن تواجه هذه الحروب معارضة كالتي واجهتها حرب إسقاط نظام صدام حسين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فخلال عقدين، الثمانينات والتسعينات، نفذت القوات الأمريكية عدة حملات من هذا النوع: أسقطت حكومة هادسون أوستن العسكرية اليسارية في غرانادا عام 1983، وحكومة بنما عام 1989 واعتقلت مانويل نورييغا ونقلته إلى السجن في الولايات المتحدة. كما أجبرت الجماعة العسكرية الحاكمة في هايتي عام 1994 على التنحي وأعادت جان برتراند أرستيد رئيس البلاد الشرعي المنتخب إلى الرئاسة. كما أسقطت بريطانيا وأمريكا نظام ميلوسوفيج واعتقلته والآن يواجه محاكمة في المحكمة الدولية في هيغ/هولندا على جرائم إبادة الجنس. إن إسقاط كل هؤلاء المستبدين لم يواجه أي احتجاج أو اعتراض من قبل الأحزاب والمنظمات اليمينية واليسارية في الغرب، فلماذا واجهت الحرب على صدام حسين كل هذه المناهضة في العالم وخاصة في الغرب؟ يتضح الجواب إذا ما أخذنا في الحسبان الثروات الهائلة التي سرقها صدام حسين من الشعب العراقي واستخدم قسماً كبيراً منها لشراء الألوف من الشخصيات السياسية والإعلامية وقادة أحزاب ومنظمات إنسانية في العالم وأغدق عليهم بالكوبونات النفطية والسحت الحرام، وعندها نعلم مدى إمكانية هكذا نظام ثري وشرير لشراء الذمم وإفساد الضمائر وقدرته على تضليل الرأي العام العالمي.
بطبيعة الحال لم يجرأ المدافعون عن نظام صدام القول صراحة أنهم يدافعون عنه لأنه مفضوح بالإجرام بامتياز، وبدلاً من ذلك، نراهم يغالون في الهجوم على أعداء صدام والحرب التي أسقطته والحكومات التي ساهمت في شن هذه الحرب وكذلك تشويه سمعة الحكومة العراقية التي جاءت من بعده. كما ويقومون بدعم الإرهاب الذي يسمونه مقاومة وطنية ضد الاحتلال. ولم يكتفوا بذلك فحسب بل راحوا يلقون تبعة المذابح البشعة التي يرتكبها الإرهابيون ضد الشعب العراقي على القوات الأمريكية والحكومة العراقية، وتبرئة الإرهابيين منها، كما ويحاولون استغلال المجلات والمعاهد العلمية لنشر افتراءاتهم لإضفاء الصبغة العلمية عليها لكسبها المصداقية في تضليل الرأي العام وإثارته ضد إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وحكومة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والحكومة العراقية، وبالتالي التقليل من أهمية التحولات الديمقراطية والطعن بشرعية الانتخابات البلمانية التي جرت في الثلاثين من يناير الماضي وبناء العراق الجديد.
في العام الماضي قام عدد من الأكاديميين، أغلبهم من أمريكا، بدراسة ادعوا فيها أن الوفيات في العراق بعد 9 نيسان 2003 فاقت ما كان عليه قبل ذلك التاريخ بمائة ألف. ونشرت الدراسة في المجلة الطبية البريطانية واسعة الانتشار والمعروفة برصانتها «ذي لانست The Lancet» في اكتوبر(تشرين الاول) 2004 . وحاولت الدراسة أن تعطي القارئ انطباعاً أن الأمريكان قتلوا حوالي مائة ألف من المدنيين العراقيين لحد ذلك التاريخ. فاستغل أنصار النظام الساقط، وبالأخص معارضو بوش وبلير هذه الدراسة، فراحوا بمناسبة وغير مناسبة يدعون بتكرار ممل أن القوات الأمريكية والبريطانية قتلت مائة ألف عراقي مدني. ومن ثم أضافوا عليه خمسين ألف آخر فقفز الرقم إلى مائة وخمسين ألف من المدنيين العراقيين الذين قتلتهم القوات الأمريكية!!! ومن يستطيع مجادلتهم، فهذه الأرقام خاصة وأنها مستقاة من دراسات علمية غربية، لا بل أمريكية!! ونشرتها «ذي لانست»!!! وقد تطرقنا لهذا الموضوع في مقال سابق وبيان نقاط الضعف في تلك الدراسة المشبوهة.
وقبل أيام طلعت علينا دراسة جامعية "علمية" جديدة، قامت بها مجموعة الأبحاث في أوكسفورد ومؤسسة «عراق بودي كاونت Body count » في لندن، ونشرت في الصحف البريطانية يوم 19/7/2005، أفادت أن نحو 25 الف مدني عراقي قتلوا منذ بداية الحرب على العراق في مارس (آذار) 2003، سقط ثلثهم على يد قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. وهذا الرقم اقل بأربع مرات من تقديرات نشرتها مجلة «ذي لانست» الطبية المشار إليها أعلاه. فأي الدراستين هي علمية وموثوق بها؟ كما وتفيد الدراسة أن المقاومة مسؤولة عن تسعة في المائة فقط من الضحايا الذين تم احصاؤهم.!! فأي عقل يصدق هذا الإدعاء خاصة وإننا نقرأ يومياً عن قتل الأعداد الكبيرة من المدنيين بسبب التفجيرات والسيارات المفخخة والانتحاريين الأصوليين في الأماكن المزدحمة مثل الأسواق والمساجد.
أما الحكومة العراقية فقد ردت على هذه الدراسات وأعطت أرقاماً اعتمدتها آخر إحصائيات وزارة الصحة ان 6629 مدنيا عراقيا قتلوا و23838 جرحوا خلال الفترة ما بين نيسان 2004 ونيسان 2005 فيما تشير احصائيات وزارة الداخلية التي تشمل الضحايا من قوات الامن العراقية مع المدنيين الى سقوط 8175 عراقيا ضحية للعنف خلال عشرة اشهر من حزيران/يونيو عام 2004 الى ايار/مايو عام 2005.
كما ونشر تقرير لباحثين آخرين في المعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس» في هذه الأيام، ذكرا فيه إن مساندة بريطانيا للولايات المتحدة في العراق جعلتها أكثر عرضة للهجمات الارهابية. ومما يثير الشكوك بهذه الدراسات "العلمية" الأخيرة هو توقيت نشرها حيث جاء متزامناً مع تفجيرات لندن يوم 7/7/2005. ولعل هذا هو بيت القصيد، حيث يحاول مناهضو الحرب على صدام ربطها بما يجري في العراق كحملة دعائية ضد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. ودون أن يدرك هؤلاء، راحوا يرددون نفس العبارات التي قالها الأصولي السوري المتشدد بكري عمر محمد مؤسس حركة (المهاجرون) «ان التدخل الاميركي في افغانستان والعراق واعادة انتخاب (توني) بلير كلها ساهمت في التفجيرات». بينما الحقيقة ليست كذلك. فلو حصلت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 بعد التدخل الأمريكي- البريطاني في العراق لربطوها بالعراق أيضاً.
ومن هنا نعرف إن زج العلم في الصراعات السياسية لأغراض دعائية يضر بسمعة ومصداقية الأكادميين، كما أضر زج الدين بالسياسة بالدين وسمعة رجال الدين.