قراءة في طروحات محمد مراد حول النخب والسلطة في المشرق العربي (الحلقة الثانية)
قراءة وتحليل ؛ د. إسماعيل نوري الربيعي

النخبة السياسية والتجارية
بقيت إرادة المبادرة بيد المتنفذين وكبار الملاكين، حتى أن الحياة الحزبية كانت قد ارتبطت بكبار الملاكين، فقد تزعم صبحي بركات الحزب الحر الدستوري عام 1922، ممثلا كتلة الشمال، فيما قاد حقي العظم حزب الائتلاف كتلة دمشق البرلمانية. والواقع إن الحركة الوطنية السورية ظل قيادتها بيد كبرا الملاكين، فالكتلة الوطنية والتي برز دورها السياسي في أعقاب الثورة السورية، كان من أبرز رجالاتها، جميل مردم بيك وهو من سراة الغوطة، وفخري البارودي من دمشق، وهاشم الأتاسي من حمص، وإبراهيم هنانو من حلب، وسعد الله الجابري من حلب.
كان من نتائج الوجود الفرنسي في سوريا، أن تم ربط اقتصاديات البلاد بالإنتاج الرأسمالي، لينجم عن هذا الواقع بروز فئة تجارية ناشطة في مدن دمشق وحلب واللاذقية. مثلت مناطق تسويق للإنتاج الزراعي والبضائعي. وشهدت مناطق حلب ودير الزور وجبل العلويين زيادة واضحة في زراعة محصول القطن، والذي سعت فرنسا نحو ربطه بالصناعة التحويلية الفرنسية، بل أن الآمال العراض قد تم بناءها استنادا إلى مدى التوسع في إنتاجه. وبالقدر الذي شهدت الفترة من 1924 ndash; 1931 تطورا وتوسعا ملحوظا في زراعة هذا المحصول، إلا أن تأثر فرنسا بالأزمة الاقتصادية العالمية، وسوء إدارة الري وانعدام تطوير الإنتاج كان له الأثر الأبرز في تراجع نسب المحاصيل. وبحلول العام 1934 طفت مشكلات أخرى كان لها الأثر المباشر على تراجع فعاليات إنتاج القطن، باعتبار انخفاض الأسعار العالمية لهذا المنتج وإقبال السوق على القطن المصري صاحب الشهرة العالمية.
تركز نشاط التجار المسلمين على صعيد التجارة الداخلية، بالإضافة إلى تركيز أنشطتها على تقديم الخدمات لصالح قوافل الحج. والتي شكلت نشاطا موسميا. بالمقابل اجتهدت العوائل المسيحية في تعزيز صلاتها التجارية الخارجية، حتى كانت عوائل، أبر وجبران ونجري وشلهوب وشامية وعكراوي، كذلك الحال بالنسبة لليهود والذين برزت منهم عوائل؛ لينيادو، و ليزبونا، طوطم وعدس. وكان لهذا النشاط دوره الفاعل في ترسيخ نفوذهم وتعزيز مكانتهم المالية في دمشق، بالمقبل نجد كبار الملاكين من المسلمين وقد تعززت علاقتهم بهذه الفئة من التجار، باعتبار ماكان يوفرون لهم من قروض مالية كبيرة، تم توجيهها نحو شراء المزيد من الأراضي.
خلال الفترة ما بين 1924 ndash; 1939 تضاعف عدد العمال الزراعيين إلى عشرة أضعاف، وخلال العام 1970، شكلت نسبة المستأجرين 85% للأراضي الزراعية، وكان لتفاعلات الانضواء في السوق الرأسمالي العالمي، ان برزت ظاهرة تنامي الثروات بالنسبة للملاكين ,الذين تضاعفت ثرواتهم، حتى أنهم راحوا يوظفون أموالهم في مجال التجارة، وكان للحرب العالمية الأولى أثره في تنامي فعاليات التجار المسلمين المسيطرين على التجارة الداخلية، بإزاء تراجع دور التجار المسيحيين واليهود، الذين تضرروا من واقع الحرب. منذ العام 1927 راح الرأسمال الوطني يتبدى دوره في تأسيس الشركات الخاصة، لتبرز شركة الإسمنت الوطنية، وشركة النسيج والحياكة، وشركة الكونسروا التي أسسها شكري القوتلي.
تعرض النشاط الحرفي التقليدي، إلى التراجع بسبب انعدام القدرة على منافسة المنتوج الأجنبي الذي راح يغزو الأسواق، حتى تعرضت الورش المحلية للحياكة في مدن حلب و حمص ودمشق وحماه إلى التراجع المفجع خلال العام 1931. ومنذ هذا التاريخ، راحت المدن تمثل نقطة جذب واسعة باعتبار البحث عن فرص العمل، حيث توفرت في دمشق سبع معامل لإنتاج المنسوجات ومعامل لإنتاج الأغذية والدواء والدباغة والحياكة، فيما احتوت حلب على معامل للحياكة والتبغ والدباغة والسجاد.
تشير الإحصاءات السكانية، إلى نسبة سكان المدن قد بلغت في العام 1932 حوالي 34%، أعقبته زيادة طفيفة خلال العام 1950 حيث بلغت 35%، إلا أنها بلغت في العام 1970 حوالي 43%، والتركيز المديني استقر عند مدينتي دمشق وحلب، فيما نالت مدينة اللاذقية الساحلية، حصتها من الزيادة السكانية خلال أعوام الستينات من القرن العشرين، بفعل تنامي النشاط التجاري البحري.
بقيت السلطة السياسية ذات طابع ريفي، حيث الارتباط بالمؤثرات التي تفرزها قوة ونفوذ الزعامات، فمنذ نهاية حكومة فيصل العربية عام 1920، تصدى زعماء الريف للواجهة السياسية، باعتبار المكانة الاجتماعية التي يحظون بها. حتى ظهر إبراهيم هنانو في حلب، وصالح العلي في جبل العلويين، وسلطان باشا الأطرش في جبل الدروز، وكان لهؤلاء الزعماء الدور الأبرز في مواجهة الانتداب الفرنسي، مما خلف آثارا واضحة على طبيعة دور أعيان وسراة دمشق. ويكشف توزيع النسب في برلمان عام 1943 عن الحضور القوي للملاكين وشيوخ القبائل حيث بلغت نسبتهم حوالي 48%، في الوقت الذي حصلت النخبة المدينية من رأسماليين ومثقفين على نسبة 24%. وبقي معدل النسبة مرتفعا لصالح الريف في برلمان عام 1954.
في العام 1945 صدر قانون استلام الجيش، وبجلاء الفرنسيين عام 1946 تحققت صورة الجيش الوطني المستقل، حيث صدر قانون الخدمة الإلزامية عام 1948، ليتم استقطاب أبناء البلاد من مختلف شرائح الشعب، وليتبلور دور الفئة الوسطى، في تسنم المناصب القيادية، بعد أن انخرطوا في الجيش بصفة ضباط, وخلال الفترة 1946-1963 برزت العناصر من ذوي الأصول المدينية على قيادة الجيش، لكن العناصر ذوي الأصول الريفية راح دورها يبرز منذ ستينات القرن العشرين. ولم يختف دور الجيش في إنهاء تجربة الوحدة، وعلى يد القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة، حتى أن سلسلة من الانقلابات ظهرت خلال أسبوع واحد؛ 28 مارس و3 أبريل 1962. قاد إثنان منها جاسم علوان، الذي أراد إعادة الوحدة مع مصر. لكن الهدف الرئيس كان يتطلع إلى إنهاء الحكم البرلماني في سوريا، ليبرز التحالف بين الجيش والسياسة ولتبدأ مرحلة عسكرة السلطة بشكل فارق وواضح. حيث راحت القوى تبحث ساعية للبحث عن ترسيخ مدار الحضور، وصولا إلى انقلاب جاسم علوان الفاشل في يوليو 1963، ضد انقلاب البعثيين الذي قام في مارس 1963. والتي عززت رصيد العلاقة بين الحزب والجيش. حتى كان انقلاب فبراير 1966 الذي جاء بفريق بعثي آخر، وصولا إلى الحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد في نوفمبر 1970.

مصر المعاصرة
مثلت الملكية الكبيرة سمة واضحة في مصر الملكية، حتى أن نسبة من يملكون بين خمسة إلى خمسين فدانا حوالي 30%، فيما بلغ عدد من يملكون ما يزيد على الأربعمائة فدان حوالي 765 ملاكا خلال العام 1950. ومن هذا الواقع فإن السيطرة الواسعة لكبار الملاكين، جعلت لهم اليد الطولى في فرض مصالحهم على حساب جموع الفلاحين، الذين راحوا يعانون من الشقاء والحرمان والبؤس الشديد. وحتى العام 1950 بلغت نسبة الفلاحين الذين لا يملكون أرضا ما نسبته 59%، لتبرز ظاهرة التأجير للأراضي الزراعية، وانتشار الملاك الغائبين الذين اعتمدوا في إدارة أملاكهم على الوكلاء الزراعيين الذين راحوا يسعون بكل جهدهم، نحو توطيد مصالحهم، ليتضاعف حال الشقاء على الفلاح المصري. ولم تقف ظاهرة الملاك الغائبين لوحدها في وجه الفلاحين، بل أن بروز العوائل المهيمنة والمسيطرة اقتصاديا، وما تفرزه لها من نفوذ إداري ونفوذ سلطوي على العلاقات السائدة في القرى والنجوع، حتى راح هذا النفوذ يتم توارثه بين الأجيال. وكان البعض من العوائل يمتد نفوذها للسيطرة على مجموعة من القرى المجاورة.
مثل تأجير الأراضي مجالا نحو فرض الاستغلال على الفلاحين، حتى راحت الزيادة يتم مضاعفتها كبدل إيجار، ولم يقف الأمرعن التقدير المالي، بل كان المسعى يتركز، حول الحصول على البدل العيني لا سيما القطن تحديدا، لما يمكن أن يضاعف من أرباح الملاكين. وكانت العلاقة تقوم على نظام العزبة، وهي عبارة عن ملكية واسعة من الأرض يتم فيها تشغيل الفلاحين بنظام الأجرة العينية أو النقدية، يكون الإشراف المباشر فيها للناظر يعاونه مجموعة من المساعدين والكتاب لضبط الحسابات وتنظيمها.، ويوصف الفلاح العامل في العزبة بـ التملي، والذي يكون نظام عمله عائليا، وتتباين طريقة دفع الأجرة ما بين اليومية المباشرة، أو يتم اختيار قطعة تتراوح مساحتها ما بين النصف فدان أو الفدانين، لزراعتها، يطلق عليها المعاش في سبيل الحصول على الأجر السنوي. ومن هذا التوزيع في النشاط الاقتصادي، كانت الحظوة تسير لصالح الملاك الغائبين الذين تمركزوا في المدن الكبرى، وأضحت لهم الكلمة العليا في النفوذ والسيطرة على منافذ القرار السياسي والاقتصادي، فيما راح الفلاح يعيش دوامة الإغراق في الديون والخضوع لصالح الملاكين الكبار.

النخبة الاقتصادية
برزت سيطرة الأعيان على عموم الممارسة السياسية في مصر، فحزب الوفد صاحب الشعبية الواسعة كانت قيادته تتألف من أبرز الأعيان والباشوات، ومن هذا فإن مواقفه السياسية لم تكن لتخرج عن حقيقة مسار المصالح الكبرى، حتى أن الحزب قد أيد دستور 1923 ووقع معاهدة 1936 مع الإنكليز. ولم يخرج دور الأحزاب الأخرى عن هذا الاتجاه مثل؛الأحرار الدستوريون، السعديون، بقايا الحزب الوطني بزعامة حافظ رمضان. ومن أبرز العوائل التي قيض لها أن تحظى بالقرب من السلطة السياسية، تبرز ؛ البدراوي، بقطر، لطف الله، خياط، شعراوي، سراج الدين، شارل حنا.
تتضح سيطرة الأعيان على الحياة السياسية من خلال النسب التي كان تميز حضورهم في الدوريات البرلمانية المتعاقبة، فدورة 1924 بلغت نسبة الأعيان فيها 43%، وفي دورة 1936 حوالي 48%، ودورة 1938 حوالي 53%، أما دور 1950 فقد بلغت النسبة حوالي 37%. وقد تميزت هذه النخبة بالسمات التالية:
1.احتكار مجال السلطة السياسية، في الوزارات والمقاعد البرلمانية.
2.السيطرة على الأراضي الواسعة والاستقرار في المدن الكبرى.
3.الاعتماد في تصريف شؤون الزراعة على الوكلاء.
4.تركز مجال النفوذ السياسي في ستة عشر عائلة كبيرة.
اعتمد الإنتاج الزراعي المصري على محصول القطن، والذي نال الرعاية والاهتمام من قبل الفرنسيين والإنكليز. وقد بلغ الإنتاج المصري من القطن في العام 1823 حوالي 13000 طن، تضاعف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبحلول الحرب العالمية الأولى مثل القطن نصف مجمل الإنتاج الزراعي المصري، فيما مثلت نسبته في الصادرات ما يقارب 90%. وقد استمر القطن يشكل الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد المصري، لا سيما وأنه صار مرتبطا بالمزيد من المشاريع الصناعية، مثل الزيوت والكبس، وقد وصل عدد محالج القطن في العام 1930 حوالي مائة وثلاثين مصنعا.

النخبة السياسية
برزت ظاهرة تريف السلطة في أعقاب ثورة يوليو 1952، حيث أتاحت الثورة لأبناء الطبقة الوسطى الدنيا من الولوج في عالم السياسة، بإزاء التراجع للنخبة التقليدية، التي وصمت بالرجعية والعمالة، وعدم توافقها مع النهج الثوري الذي اختطه الضباط الأحرار، حتى أن نسبة الوزراء في عهد عبد الناصر 1954- 1970 من ذوي الأصول الريفية، قد بلغت 66%،، ولم تختلف النسبة إlsquo;بان عهد السادات 1971 ndash; 1981 حيث بلغت 67%.
على الرغم قرارات التأميم التي طالت نخية الأعيان، من ذوي الأملاك الواسعة خلال عقد الستينات من القرن العشرين، وتوجهات الثورة الإشتراكية، إلا أن العوائل التقليدية، بقيت محافظة على ترابطاتها القديمة، ولم تتردد من محاولة تعزيز موقعها، عبر توسيع أعمالها ومشاريعها الاقتصادية والمالية، فيما كانت لسياسة الانفتاح التي قادها السدات في منتصف السبعينات، ابلغ الأثر في بروز ظاهرة الفئة الطفيلية، والتي تمكنت من الإثراء السريع على حساب المصلحة العامة، حتى أفرزت المرحلة lsquo;ن إبراز ميراث التناقضات الذي خلفته نكسة الخامس من حزيران 1967، ومحاولة الكشف عن الأوراق القديمة وخلطها بالحاضر الذي أفرزته زيارة السادات للقدس عام 1977، لتتفاقم حالة التداعيات والتي راحت تستذكر زوار الفجر، وهي كناية عن جهاز أمن الدولة وطريقة تعامله مع التيارات المعارضة، أو الحديث عن القطط السمان، باعتبار الفئات التي أفادت من مناصبها السياسية، أو التحالفات المشبوهة التي راحت تظهر ملامحها من خلال هرب المزيد من أصحاب القروض إلى خارج البلاد. وصولا إلى حادثة المنصة التي تم فيها اغتيال السادات.
كان لتوقيع المعاهدة المصرية ndash; البريطانية عام 1936، دورها في فسح المجال أمام أبناء الطبقة الوسطى الدنيا يلتحقون بالمدرسة الحربية ليتخرجوا بصفة ضابط في الجيش، ومنذ ذلك التاريخ، تمكنت حركة الضباط الأحرار من حزم أمرها وتنظيم صفوفها مؤلفة من ؛ جمال عبد الناصر، خالد محي الدين، كمال الدين حسين، عبد المنعم عبد الرؤوف، وفي العام 1950، اضوى تحت لواء الحركة؛ عبد اللطيف البغدادي، أنور السادادت، عبد الحكيم عامر، صلاح سالم. و بإزاء تراكم الأزمات وبقاء القوات البريطانية، ونكبة عام 1948، والحديث عن الأسلحة الفاسدة، والإشارات المتلاحقة حول فساد القصر الملكي، كان إعلان الثورة عام 1952.

يتبع

الحلقة الأولى