تحدثنا في المقالة السابقة عن أهمية التراث في النهضة الحضارية لأية امة , وقلنا أن التراث يحتاج ما بين عصر وعصر إلى المراجعة والتجديد لكي يكون قادراً على التفاعل

الحلقة الأولى
الخلاق مع روح العصر الجديد، ولا يخرج تراثنا الإسلامي عن هذه القاعدة فهو كذلك يحتاج ما بين فترة وأخرى لإعادة النظر فيه من أجل تجديده وتفعيله ليكون محركاً للأمة ودافعاً لها على طريق الحضارة، وقلنا إن دعوتنا لإعادة النظر في تراثنا الإسلامي لا تقتصر على (المنتَج التراثي) وحده بل تشمل كذلك (الأدوات المعرفية) التي أنتجت التراث، لأنها تشكِّل جزءاً لا يتجزأ من التراث نفسه، وفي مقدمة تلك الأدوات (علم أصول الفقه) الذي يشكل البوابة العملية لتجديد التراث الإسلامي، وذلك لأن الفقه هو الذي يشكل ثقافة الأمة الإسلامية ويصوغ عقليتها.
ومن المعلوم أن علم أصول الفقه يقوم على مصدر أساسي هو (الوَحْي) المتمثل بالقرآن الكريم، وعلى ما هو بمنزلة الوحي من السُّنة النبوية الشريفة، ثم ألحق علماء الأصول بهذا المصدر مصادر فرعية أخرى، منها الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها من المصادر التي اعتمدها الفقهاء مصادر إضافية للاجتهاد، على أساس أن هذه المصادر تستمد مادتها من نصوص الوَحْي، أو تقوم على مراعاة المقاصد الكلية للوَحْي.
ولما كانت (نصوص الوَحْي) هي أصل التشريع الإسلامي ومصدر جميع الأحكام الشرعية، ولما كانت المصادر الأخرى من إجماع وقياس ومصالح مرسلة واستحسان وغيرها من المصادر تبعاً لهذه النصوص، فقد وضع (الأصوليون)(1) مجموعة من القواعد التي تضبط العلاقة بين الطرفين، وتحدد القواعد التي ينبغي للفقيه أن يلتزم بها عند استنباطه للأحكام من هذه المصادر.
وربما كان الإمام الشافعي (150 ـ 204هـ) رحمه الله أوَّل من جمع هذه القواعد في كتابه (الرسالة) فأسس بهذا العمل الرائد علماً جديداً هو (علم أصول الفقه)، ويقال إن الشافعي ألَّف (الرسالة) في قدومه الثاني إلى العراق حوالي عام 195هـ، استجابة لطلب الفقيه المحدث عبد الرحمن بن المهدي (ت 198هـ) تلميذ الإمام مالك وشيخ المحدِّثين بالعراق، الذي طلب من الشافعي وَضْع كتاب يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقرآن والسُّنة، وشروط قبول الأخبار، وحجيَّة الإجماع والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسُّنة، لكن الأرجح أن الشافعي حرَّر (الرسالة) لحاجات أملتها ضرورات عصره الذي كثر فيه الاجتهاد والمجتهدون، وتعددت طرائق الاستنباط، فكان هدف الشافعي من (الرسالة) جمع الفقهاء على منهج علمي واضح ومحدد لضبط عملية الاجتهاد.
ثم جاء بعد الشافعي نخبة من علماء الأصول، أضافوا لهذا العلم قواعد جديدة وطوَّروا مناهج الفكر الأصولي، حتى ظنَّ بعض الفقهاء المتأخرين أنَّ هذا العلم قد بلغ الغاية في الكمال، كما يروي أحدهم فيقول: (لقد سمعت من بعض أساتذتي الأفاضل في الأزهر الشريف، أن علم الأصول علم نشأ ونضج ثم انتهى وانطوى، فاستغربت لهذا الأمر، وقلت: ما هي إذاً فائدة دراسة هذا العلم؟ وبعد التحري والتثبت انتهيت إلى أن لهذا العلم فائدة عظمى، حتى سمعت مطالبة قوية من رجال القانون في كلية الحقوق في مصر بالاقتصار فقط على تدريس علم أصول الفقه، والتوسع فيه دون حاجة إلى دراسة غيره من علوم الشريعة الإسلامية، لأن هذا العلم قد نضجت نظرياته، ولمست آثاره وفوائده في دراسة القانون النظرية، وفي مجال تطبيقه في ميدان القضاء والمحاماة، فإذا تكلم الشخص بقاعدة أصولية أذعن له المنازعون، لأنه مبني على أدلة علمية من المعقول والمنقول لا مجال للقدح فيها أو الغض من شأنها)(2).
ومع تسليمنا بأن علم أصول الفقه قد بلغ درجة عالية من النضج والمتانة والإتقان، لاستناده إلى قواعد راسخة من المنقول والمعقول، فإننا نعتقد في الوقت نفسه أن ليس ثمة علم بشري يمكن أن يبلغ الكمال مهما بذل فيه العلماء من جهود، فالحاجة تبقى قائمة بين الحين والآخر لإعادة النظر في هذا العلم وفي غيره من العلوم، للتأكد من صحة الأسس والقواعد التي قام عليها، واختبار قدرته على أداء المهام التي وُضع من أجلها.
ويخبرنا تاريخ العلوم أن الكثير من المفاهيم والقواعد والنظريات العلمية قد ظلت لأحقاب طويلة موضع قبول وتسليم، بل وتقديس من أهل العلم، ثم تبين أنها غير دقيقة أو غير صحيحة على الإطلاق، وهذه الطبيعة المتجددة في العلوم تشهد عليها الثورات الهائلة التي شهدها تاريخ العلوم المختلفة، وعلى سبيل المثال فإن رياضيات العالم البريطاني إسحق نيوتن (1643 ـ 1727م) ظلت لقرون طويلة موضع تقديس من العلماء، فلما طلع العالم ألبرت آينشتاين (1879 ـ 1955م) بنظريته المسماة بالنسبية (Relativity) تمكن من حلِّ معضلات رياضية معقدة لم تستطع قوانين نيوتن أن تحلَّها، وهكذا حققت قوانين آينشتاين قفزة علمية واسعة لم تستطع قوانين نيوتن التقليدية تحقيقها!
وكذلك هي الحال في كل علم، فإن الحاجة تظل قائمة لتطويره وتجديده، وإلا وقف العلم عند عتبة محدودة لا يستطيع تجاوزها، وفي حالتنا الإسلامية نرى أن هذه الخطوة للتطوير والتجديد ينبغي أن تبدأ من مراجعة (علم أصول الفقه) الذي يشكل نقطة الانطلاق لتجديد تراث الأمة، ومن ثم تجديد دينها وانخراطها في دورة حضارية جديدة.
وقد تصدَّى في الماضي نخبة من أكابر الفقهاء لهذه المهمة، وقَدَّموا دراسات ونظريات واقتراحات قيِّمة في سبيل تطوير علم الأصول وتجديده وجعله أكثر استجابة للمستجدات التي طرأت في عصورهم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: ابن حزم الأندلسي (384 ـ 456هـ) وإمام الحرمين الجويني (419 ـ 487هـ) وابن تيمية (ت 728هـ) والشاطبي (ت 790هـ) والشوكاني (ت 1250هـ)، وغيرهم.
وقد تكررت المحاولات على مدى العصور الماضية، فظهر أئمة مجتهدون ساهموا بمحاولات متفاوتة لتحقيق هذا الهدف، إلا أن محاولاتهم ظلت تدور في فلك القواعد التي وضعها المؤسسون، وكأن أولئك المؤسسين ـ بحكم الريادة ـ قد بلغوا سقف العلم، مع أن من البديهيات التي لا جدال فيها أن سقف العلم لا يمكن أن يبلغه أحد من العالمين، كما نستشف من قوله تعالى: ((وَمَا أوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَليلاً)) سورة الإسراء 85، وهذا القصور عن بلوغ قمة العلم سوف يبقى ملازماً للبشرية حتى قيام الساعة، وقد أشار الإمام السيوطي (850 ـ 910هـ) إلى هذا القصور، فقال: (العلومُ وإنْ كَثُرَ عَدَدُها، وانتشرَ في الخافقين مددُها، فغايتُها بحرٌ قعرُه لا يُدرك، ونهايتُها طودٌ شامخٌ لا يُستطاعُ إلى ذروتهِ أن يُسلك، ولهذا يُفتح لعالِمٍ بعد آخر من الأبوابِ ما لم يَتَطَرَّقْ إليهِ من المتقدمينَ الأسباب)(3).
فالمؤسسون لأيِّ علم من العلوم ليسوا بمعصومين، وليسوا مصدراً نهائياً للمعرفة، بل هم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، ومن ثم فإن علاقتنا بهم يجب أن تدور في دائرة التوجيه القرآني، فَنَتَقبَّل عنهم أحسن ما عملوا، وأما ما عداه فلا حَرَج أن نجتهد فيه كما اجتهدوا، لأننا نحن الذين سوف نُسأل عن أعمالنا آخر المطاف وليس هم ((تلكَ أمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُم، وَلا تُسْألونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلونَ)) سورة البقرة 134.
وقد أدرك علماؤنا الأوائل طبيعة هذه العلاقة ما بين المتقدمين والمتأخرين، فكان الاجتهاد ديدنهم جميعاً، وقد عبَّر (الإمام أبو حنيفة (80 ـ 150هـ) عن هذه الطبيعة في العلم البشري بمقولته المشهورة: (هُمْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ)، أي إن (الاجتهاد ـ وهو فعل فكري بشري يمارسه العقل في ضوء الشرع ـ قابل للخطأ والصواب، وهذا يعني أنه دائماً في عصره وفي سائر العصور محلٌّ للتقويم والمراجعة والنقد والفحص والاختبار، والتعديل والإلغاء، والإضافة والحذف، وهو محل للفعل الفكري، وهذا بالطبع لا ينال من قدسية القيم في الكتاب والسنة وعصمتها، وإنما يؤكد قدسيتها وعصمتها، وأن القيم تبقى هي المرجعية والمعيار الضابط لكل اجتهاد.. ولو كانت صوابية الاجتهاد لعصر تعني الصوابية لكل عصر لما كان هناك حاجة للاجتهاد والتجديد أصلاً، ولاكتفى الناس باجتهاد عصر الصحابة، ولما كانت الشريعة تتمتع بالخلود والتجرد عن قيود الزمان والمكان، ولكان إقفال باب الاجتهاد من خصائص الشريعة ومستلزماتها، ولما كان هناك داعٍ لحضِّ الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابةَ على الاجتهاد، وخطاب القرآن لهم بالنفرة ليتفقهوا في الدين، على الرغم من وجود النصوص في الكتاب والسنة)(4).
ومن المعلوم أن مراجعة ما قال به الأولون إنما هي دعوة إلهية ملحَّة، تكررت في مواضع عدة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ((وإذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنزَلَ اللهُ قالوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفينا عليهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ)) سورة البقرة 170، فاتِّباع الأولين على غير هُدى وتمحيص ومراجعة واجتهاد مُدانٌ بنَصِّ القرآن الكريم، لما في هذا الاتِّباع الأعمى من تعطيل للعقل الذي هو مناط التكليف، ولما قد يُسفر عنه هذا الاتِّباع من ضلال وبُعد عن الحق!
ومن ثم فإن مراجعة ما قال به العلماء الأوَّلون ما بين الحين والآخر هو أمر مطلوب، بل مطلوب بإلحاح، لأن من طبيعة العلم البشري أنه في تطور مستمر، وكثيراً ما كشف العلماء اللاحقون عن أخطاء وقع بها السابقون، فصحَّحوا ونقَّحوا وعدَّلوا وحذفوا وأضافوا، وليس في هذا انتقاص لما أنجزه السابقون، وإنما هي طبيعة العلم البشري، أن يظل بحاجة مستمرة للمراجعة والتعديل والتطوير والحذف والإضافة.
ونخلص من هذا إلى أنَّ من حقِّ ـ بل من واجب ـ كل جيل أن يجتهد لعصره كما اجتهد المؤسِّسون لعصورهم، وهذا لا يعني القطيعة مع تراث المؤسِّسين كما يتوهَّم بعض الباحثين، لأن النموَّ من غير جذور ضاربة في أعماق التراث ما هو إلا نمو خادع كالسراب، وإنما الذي نعنيه أن نجعل المؤسِّسين نقطة الانطلاق لا نقطة النهاية، وأن نستضيء بنورهم، لا أن نَقيل في ظلِّهم، فإن الزمن لا يرحم من يَقيل في الظل!
وللحديث صلة.
[email protected]
هوامش:
1.الأصوليون: هم العلماء المشتغلون بعلم الأصول.
2.د.وهبة الزحيلي: أصول الفقه الإسلامي 1/29، دار الفكر المعاصر (بيروت) دار الفكر (دمشق) 1998.
3.السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/3، دار الكتب العلمية، بيروت.
4.د.نور الدين بن مختار الخادمي (الاجتهاد المقاصدي، حجيته، ضوابطه، مجالاته) 1/14 ـ 15. كتاب الأمة، العدد 65، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر 1998.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية