لم يدر في خلد جلال الطالباني وهو يقاتل فوق قمم جبالكردستان ان يكونأول رئيس عراقي وقائد دفة السياسة البرغماتية فيه بعد ان عاش عصورها المتقلبة واكتوى بنار ازماتها ..

قضى سنوات عمره مستنشقا غبار المعارك، متوسدا مغارات كردستان مقاتلا في جبالها ومفاوضا في سهولها. حنكته الانتكاسات وعلمته النجاحات، اختلف مع كثيرين وتحالف مع كثيرين، لكنه ظل محبوبا من الجميع على السواء، الاصدقاء والاعداء .

***

الطالباني اليوم رئيس شفاف ومتواضع لشعب ارهقه غرور وطيش الزعيم .. يحلم بواقعية، ويراقب عن كثب امور شعبه .
ولاول مرة .. يحكم العراق رئيس لايتقلد النياشين ولايحمل المسدس، كردي من الشمال.

***

انتخب الطالباني رئيسا لدولة العراق في نيسان 2005، وفي فترة من الزمن قصيرة، اثلج تواضعه القلوب، وتحمس لصراحته الجميع، ذلك ان اداءه عراقيا، ولونه عراقيا، وكلامه عراقيا، لم يتعصب لطائفة، ولم يتحمس لقومية، تعالى عن الحزبية على رغم كونه رئيسا لحزب، مؤسسا لمنهج جديد، عازفا عن ابهة الزعماء وتعقيدات البروتوكول . وبات صاحب اخر نكتة يبدا نفسه بها لاضفاء جو مرح على مجالسيه.

***

أسس مام جلال الاتحاد الوطني الكردستاني في سوريا عام 1975، وبين كفاحه المسلح الذي بدأ عام 1977،ومفاوضاته مع الحكومة عام 1984صفحات من امل وياس، نجاح وفشل ..فكانت له صولات .. اعقبتها جولات من معارك وهدنات مع نظام الرئيس السابق صدام .
وفي السبعينيات قاتل طالباني لاقرار قانون الحكم الذاتي، وهادن لاجل ذلك ايضا، وكان قضيته دائما ضحية التوازنات الدولية والصراعات الاقليمية .

***

شهد الطالباني حروب الجبال، وتعرض مرارا للاغتيال، وكان شاهدا على مصرع المئات من الاف شعبه من ابناء حلبجة عام 1988حين رشت الطائرات الموت الكيمياوي على ربوع الشمال، فقتل الاطفال والنساء وشرد الرجال، وأضطر المقاتل العنيد حينها لمغادرة شمال العراق واللجوء إلى إيران .
كان ذلك ابشع ماشهده فهد الجبال لكنه لم يياس ولم يركن .
وبعد حرب الخليج الثانية قاد الطالباني طلائع الكرد الى جانب رفاقه ليحكموا أنفسهم بعد أنتفاضتهم عام 1991.

***

قرية كلكان الهادئة البسيطة وهي مسقط راس الطالباني، كان ذلك عام 1933، وهناك تنفس الرجل فضاء السياسة متاثرا بفقر الشعب وهضم الحقوق .

كان فتى عمره اربع عشرة سنة حين تجشم بحر السياسة بانضمامه الى الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني عام 1947.
وفي بداية الخمسينات بدأ مسيرته السياسية عضوا مؤسسا لاتحاد الطلبة في كردستان، أختير عضوا في اللجنة المركزية للحزب في عام 1951، وكان عمره آنذاك 18 سنة.

مام جلال كان يرغب في دراسة الطب، لكنه اضطر الى دراسة الحقوق عام 1953، خدم في الجيش العراقي وشارك في أنتفاضة الأكراد ضد حكومة قاسم. وبعد الإنقلاب على قاسم، قاد الطالباني الوفد الكردي للمحادثات مع عبد السلام عارف عام 1963.
اختلف مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مصطفى البارزاني ثم مالبث ان أسس مع رفاقه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1975بعد أنهيار الحركة الكردية في أعقاب اتفاقية الجزائر.

***

حزب طالباني اشتراكي استخدم تكتيك الحرب تارة والمفاوضات تارة اخرى في صراعة مع حكومة بغداد يومذاك،وبعد حرب الخليج الثانية شكلّت منطقة حظر الطيران ملاذاً للأكراد، وهنا كانت بداية تقارب بين الحزبين الكرديين . ونُظمت انتخابات، وتشكلت وزارة عام 1992 بادارة مشتركة.
والطالباني اليوم .. القاسم المشترك بين احزاب تتصارع وكيانات تتنافس، وعنده تحل الاحزاب عقد خلافاتها، ويستنبط السياسيون من سيرته الصبر إذا أعضلَ أمرٌ واعتاصَ مُشكِلٌ.

والطالباني .. رؤوف حتى مع اعدائه فقد رفض التوقيع على اعدام الرئيس المخلوع صدام، وهو الذي حاول اغتياله عدة مرات . ومهما اختلف السياسيون العراقيون في امر فانهم لن يختلفوا في ان جلال الطالباني رجل المرحلة في التواضع والاعتدال .