الحلقة الأولى

تبدأ صرختي الجديدة لحلم قديم لم يتحقق. راودَ هذا الحلم خبراء الأقتصاد والتجارة والسياسة منذ الخمسينات قبل قيام الأحزاب السياسية بتفسيراتها التي المتعلقة بالأحلاف الأستعمارية الدفاعية والعسكرية.


وبدايةً، لابد لي من المرور على ماحدث عند أعتراضي على أراء وأفكار صديقي، الأقتصادية المالية والتجارية. فالرجل، دون تسميته، أكنّ ُ له كل الأحترام وأعتزُ بالعلاقات التي تربطنا. له شهادة علمية في التجارة والأقتصاد من جامعة بريطانية وهو خبير مالي كويتي يتنقل بين الكويت ولندن وواشنطن لتصريف أعماله ويقيس السياسة بقدر ماوفرته، دول مجلس التعاون الخليجي للتجارة، من حرية. فخشونة ردوده على نقاشنا الأخوي التجاري الصيغة تجاوز توقعاتي، وأنا لا أُعيبهُ على ذكائه وتفكيره المالي ومعرفته بأجراءات سياسة دول الخليج التجارية والأدارية، ولا على أدراكه الواعي لأسباب النجاح الذي حققه المجلس لمواطني دول الخليج وآخرين، كما أني لم أكن في حالة من حالات الرغبة في تخصيب ثقافته السياسية عن العراق ليكون أكثر وعياً للصراعات التاريخية المريرة التي مرّت بنا والترويج والتلميح بأن مايدور في عروقنا قد تكون شعارات سياسية أو دينية طائفية. أِلا أن ماأزعجني منه عند الحديث عن ظهور أحلاف قديمة كحلف بغداد ومشروع الأتحاد العربي الهاشمي ومشروع الهلال الخصيب في الخمسينات من القرن الماضي، تركيزه على أن ماأطرحه عن وحدة بلاد الهلال الخصيب، على حدِ قوله عنه ( أولاً المشروع الذي تتكلم عنه يدخل في سياق مايطرحه أخوانك الشيعة في العراق، وأنت كرجل مثقف ومدرك للأمور السياسية والأقتصادية بحكم شهادتك الغربية وأفكارك العلمانية لاأتوقع منك أن تتكلم عن أشراك لبنان وسوريا والعراق بمشروع تجاري ظاهره أقتصادي وباطنه سياسي طائفي.....). شعرتُ بعدها بتأثير الضربة المؤلمة من صديق ودود وفاهم لأوضاع منطقتنا وحاجاتها الأنية، فلماذا وضعني في صندوق الطائفية المقيته وقالبها البغيض!!؟.


أحسستُ بأن هناك هوة عميقة ماتزال عالقة في الأذهان عن أصالة تاريخنا وتضحيات العديد منا، نتيجة مايُلفق من أكاذيب على الصحف وعالم الصحافة الألكترونية ويتصورها البعض كحقيقة. وهي كتلكَ التهمُ التي وجِهتْ للعديد من أوساط المثقفين العراقيين ومختلف الطوائف التي أبتْ التعاون مع النظام الصدامي وتحوطتْ من ألصاق تهمة الطائفية والقومية بها والسقوط كفريسة في مخالب التفرقة.


ولعل هذه المقدمة تُوضح أسباب طرح موضوع مشروع الهلال الخصيب للمناقشة الأكاديمية التي دفعتني في حينه الى توسيع النقاش الشخصي مع الزميل المحترم. و قبل أن تندلع أزمة (صندقة جديدة) للأراء المقترحة بشأن أمكانات دول الهلال الخصيب الثلاثة : العراق، سوريا، ولبنان وتبويبها في حقول التحزب الطائفية وتشتيت منافعها لمواطنيها، لابد من طرح النقطة التالية.


لم يتوقف الكثير منا من مناصرة المنادين للوحدة التجارية بين دول المغرب العربي في شمال أفريقيا، ومباركة ما حققته دولة الإمارات العربية المتحدة الست في اتحادها في كانون الأول من عام 1971 وأنضمام رأس الخيمة لاحقاً لتكون الأمارات السبع، قوة سياسية وأقتصادية ومالية يفتخر بها. فالأصوات التي أرتفعتْ في السبعينات كانت تقييم وتختبر ما يمكن أن يقدمه، التبادل التجاري وحرية أنتقال المواطن والبضائع والأستثمارات من منفعة، وما تفعله حركة رؤوس الأموال وتوحيد التعريفة الكمركية وتخفيف أو أزالة الضرائب عن بعض المنتجات، من فائدة تَعم على مواطني هذه البلدان.


فالمجاهرة والصرخة العربية لخلق مجلس أقتصادي يضم العراق وسوريا ولبنان هي طرخة لقرار طال التحدث به. وهذه الصرخة وجديتها تمس الحياة المعاشية اليومية لمواطني هذه البلدان بعد أن جرفتهم تيارات سياسية وحزبية بعيداً عن مضامين الحياة الواقعية وقوقعتْ جماهيرها في الفقر والجهل والظلم الأجتماعي، وأجبرت أخرين للهجرة لكفرهم بالأنظمة الحاكمة وأجراءتها التعسفية التي أضرتْ بهم.

عندَ تشكيل مجلس التعاون الخليجي والتوقيع على تأسيسه في الرياض في تشرين الثاني 1981 من الدول الست : السعودية، الكويت،قطر، عمان، البحرين، ودولة الأمارات، بينتْ البيانات ألأحصائية لخبراء الأقتصاد التحسن المضطرد لمستوى المعيشة، وأزدادَ مؤشر دخل المواطنين في السنوات اللاحقة بنسبة تفوق ال200% في بعضها، وحققتْ المشاريع الأستثمارية بتوظيفها للعمالة العربية والأسلامية،أرباحاً وفرت الرفاهية الأقتصادية والتقدم والطمأنينة لسكان الدول المنضوية تحته. وكانت أجراءات المجلس والنظم المالية والتجارية خيرُ دليل على أنتعاش وتحسن الحالة الأقتصادية لسكانها، وفتحتْ طرقاً واسعة لتدفق الأستثمارات المالية الغربية والمشاريع التجارية التي مازالت جارية على قدم وساق لحين كتابة هذه السطور.

لماذا مشروع الهلال الخصيب؟
وماذا حدثَ لمهد الحضارة الأنسانية ؟
cradle of civilization
ربما كان بن غوريون يقصدنا عندما صرح بعد أنبثاق الكيان الصهيوني عام 1948 quot; علينا أن نعمل ونعمل ونعمل قبل أن يستفيقَ العربُ من سباتهم quot;. ومن المؤسف أن الصرخة التي أطلقها بن غوريون كانت قريبة الى واقع حياتنا، وأصبح واحدنا وواقع الحال يقول (لاتؤخر عمل اليوم الى الغد، أجله لِما بعد الغد) هو الشائع.

لم تختمر فكرة مشروع الهلال الخصيب بعد زوال الحكم العثماني وسقوط بغداد لبريطانيا عام 1917، كما أن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تتطرق له بجدية في الأربعينات من القرن العشرين، أِلا أن الفكرة أنبثقت وتم أخمادها (سياسياً) في الخمسينات من القرن الماضي، رغم وجود المصلحة العامة ورغم المعرفة بالصلة ألأرضية والترابط التاريخي والجغرافي وسهولة سبل التجارة والنقل البري بين الدول الثلاث وحاجاتها الى تصدير الطاقة وأيجاد منافذ وطرق لتصدير منتجاتها. ولم ترَ الحكومات في حينها أوجه التشابه الثقافي والأجتماعي والقومي أيضاً، أذا أخذنا في الأعتبار نسبة القومية العربية والكردية في البلدان الثلاثة وخاصةً سوريا والعراق. أضافةً الى التقارب الوجداني الديني الذي حثَّ عليه المسلمون الشيعة والسنة والكنائس المسيحية.


تتطرق معظم المصادر التاريخية للفترة السياسية لعام 1949، ووصول حسني الزعيم رئيس أركان حرب الجيش السوري الذي قاد انقلاب الثلاثين من أذار مارس عام 1949، وبدأ يُرسل لعراق نوري السعيد أشارات الرغبة في خلق اتحاد وتوقيع اتفاقية دفاع مشترك التي وقف ضدها وعارضها الملك فاروق في مصر1، وبذل المساعي واستعملَ كافة الوسائل لإعاقة تحقيق سوريا الكبرى أو فدرالية تضم دول الهلال الخصيب. ومات الملف بوصول الرئيس عبد الناصر وقيام الوحدة الثلاثية ( الحوار الذي أجرته الفضائية تحت موضوع quot; ملف أحلام الوحدة والاتحادquot; وذُكر فيه أن (مبادرة كهذه تعزل مصر عن العالم العربي وتطيح بتوازن الشرق الأوسط). وكما قام بالتنويه عنها بعض الخبراء العرب في نقاشاتهم لتبريرها خلال الستين سنة الأخيرة.


وكان لفتح بوابة السياسة للصحافة والأعلام العربي تأثير سلبي واضح. فالأعلام العربي سادته الفوضى السياسية بتأثير الأحزاب والمنتديات الفكرية والمصطلحات السوقية، وقلة معرفتهم في العلاقات الدولية.


ففي خضم الرغبة السياسية للمباشرة بالمشروع، ظهرتْ الأقلام المصرية منها على الأخص، تطعن وتقلل من شأن من يقف وراءه. وأحتضنَ بعضهم ترديد النغمة الصحفية السخيفة بأن مشروع الهلال الخصيب هو quot; مشروع أستعماريquot; تريد بريطانيا فرضه عن طريق نوري السعيد رئيس وزراء العراق. وكان للتسمية تأثير كبير على عامة الناس نظراً للتأثير القومي لمصر وعدم أستطاعة المواطن أدراك مايجري وراء الكواليس في الأنظمة الدكتاتورية التي يرضخ تحت ظلها. وفي الحقيقة، لاأعرف مدى صحة قول الرئيس حافظ الأسد قبل وفاتهquot; بأن أكثر مايندم بشأنه في حياته السياسية هو عدم موافقته على مشروع الهلال الخصيبquot;. وقد يحوط لغز المصالح الأقتصادية والتجارية ويصطدم بعنف عند أختلاط المغزى الحقيقي مع المصالح الأستراتيجية والعسكرية في العلاقات بين الدول. بمعنى آخر، ما أعتبرته مصر حلفاً معادياً هو ما أعتبرته أسرائيل أيضاً حلفاً معادياً لها. وبالتأكيد، قد يُعتبر قيام مشروع الهلال الخصيب، لبعض العرب والمنظمات الحزبية والدول الأسلامية المحيطة بالعراق وسوريا بأنه مشروع يهدد مصالحهم لأنها لاتستطيع أن تستسيغ أهميته لشعوبنا المُستغَلة (بفتح الغين). وقد لايستغرب المحللون من هذا الموقف المعادي. فمبدأ quot; عدو عدوي صديقيquot; مازال سائداً في العلاقات السياسية الدولية، في عصر تشابكتْ فيه المصالح.

ففي هذا الوقت العصيب الذي تتقلب فيه السوق المالية العالمية ويزحف فيه الكساد الأقتصادي وتنمو فيه معدلات البطالة بشكل مخيف، فلابد من الحرص على الثروة الوطنية وأستخدامها بالشكل العلمي المطلوب.
وقد يصيبنا الذهول عندما نعرف بأن معدل الدخل الفردي السنوي للمواطن في العراق حسب تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة كان قد أنخفضَ من 3600 دولار عام 1980 الى 770 أو 1020 دولار عام 2001. ومعدل دخل الفرد في سوريا 1212 دولار سنوياً ولبنان 5280 دولار سنوياً حسب تقديرات سنة 2006.


وليست هناك أي حاجة لمعرفة ماجلبه عدم الأستقرار وما سببته الحروب في تدني الدخل الى هذه الدرجة الرهيبة. أن دعوة الأطراف المعنية الى قمة ثلاثية تجمعُ الفرقاء قد توقد الطريق لهم. فمن سيتخذ الخطوة الأولى؟

ضياء الحكيم

[email protected]